قراءة – سماح عادل :
في رواية “سرير الأستاذ” للكاتب الصحفي والروائي العراقي “محمد مزيد”.. تتعرى جمهورية الخوف على سرير الأستاذ.. فقد كشف الكاتب بجرأة جمهورية الديكتاتور الذي وصفه بـ”القائد الضرورة”.. ذلك الحاكم الذي أدخل شعبه في حروب مطولة، وأنهكه، سخر الرجال ليكونوا وقوداً لحرب ترضي نوازعه وطغيانه.. واستغلت حاشيته وبطانته نساء هذا الشعب، وضعوهن داخل هوة الفقر والعوز وافتقاد الأب والأخ والعائل، ودفعوا بجزء منهن إلى وحشية الاغتصاب والانتهاك، على سرير يعد المحور الأساسي للرواية سرير لطاغية من حاشية الحاكم، يجلب إليه كل يوم فريسة، ضحية، لكي يتلذذ بالتهامها وتصويرها، بانتزاع آخر قدرة لها على المقاومة، ومن ترفض باستبسال يكون مصيرها الحرق والتشويه وفقدان الأمان في مجتمع ضربته الحروب وخلخلت قواعده.
ديكتاتورية إلى النهاية
الرواية جريئة في تناولها، مما جعلها محط انتقاد للكثيرين.. خاصة حينما دارت في أجواء تبدو واقعية.. فقد حدد الراوي مكان وزمان الرواية، في بغداد، في فترة الثمانينات حيث الحرب الضروس مع إيران.. لا يهمنا هنا مقارنة واقع الرواية بالواقع الخارجي، أو التفتيش عن صحة ما روته الرواية بالنسبة لما حدث بالفعل في ذلك الزمان.. ما يهمنا قدرة الكاتب على عمل بناء متماسك، وبناء عالم روائي له تفاصيله الثرية والكاملة، وتبقى قيمة الرواية في أنها كشفت عن بشاعة الديكتاتورية العسكرية حين تصل لأقصى درجات توغلها وتحكمها، والتي، إن تجاهلنا الزمان والمكان في الرواية، تنطبق على كل الديكتاتوريات العسكرية التي حكمت في مختلف دول العالم
أبطال الرواية مهزومون.. “كريم” الذي يهرب من أداء الخدمة العسكرية لأنه يعرف أن الحرب لن تنتهي، ويتحصن بغرفته “يرسم”، ويجتر ذكريات حب أفقدته إياه شروط “جمهورية الخوف” التي تعطي القيمة للجنود المحاربين وتنزعها عن باقي الناس، ثم ومن دون إرادته يسحب إلى قصر الأستاذ، ظل الطاغية.. و”فائزة” التي تفقد عائلتها وتضطر إلى البحث عن عمل لتدفع هي أيضاً في النهاية لقصر الأستاذ بعد أن تظل تطارد كـ”فريسة” طوال الرواية.. و”فاتن”، رغم أنها قوادة، تتصيد الفتيات الجميلات للأستاذ، إلا أنها أيضاً تعاني من “انكساراتها”، ولها ضعفها وخوفها، كما أنها قتلت بنفس الطريقة التي ينتهك بها من هم خارج حاشية الطاغية، حيث قتل البشر فعل عادي يحدث كل يوم.
و”سندس” التي قاومت بكل ما أوتيت من قوة و”أحرقت” على سرير الأستاذ حتى انهزمت من الداخل.. و”رغد” التي حاولت أن تجد لها مكاناً لكنها قتلت بسبب سعيها للعب مع “الجلادين”.. وهناك الضباط “ناجي عباس، بطران، سامر” في الأمن العام، هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا إنسانيتهم وأصبحوا أداة تساند الطاغي في سلطانه، يستغلون النساء ويرمون بالرجال إلى “الهلاك” بتقاريرهم الأمنية الملفقة، بحيث يحكم الطاغية قبضته على الجميع، وحين يتجاوزون يهلكون هم أيضاً.
دمى “القائد الضرورة”
رصدت الرواية واقع الديكتاتورية الوحشي من خلال تصوير أدق التفاصيل.. إلتهام الكلاب الجائعة للشباب الذين يتهربون من العسكرية، التنكيل بمن لا يرضى عنه الأستاذ في نوبات جنونه ونزقه، وتعذيبهم، سواء بوضع الزجاجات في مؤخراتهم، أو إجبارهم على شرب البيرة من حذائه، حتى المحاربين الذين يجزل لهم ” القائد الضرورة” العطاء يدفعون إلى الجنون مثل والد رغد، لأنهم يجبرون على حرب يفقدون فيها إنسانيتهم، لكي تزداد مكاسب الطاغية، فيقتلون أو يفقدون أعضائهم.
السرد يسير بتمهل، يدور ما بين “كريم” و”فاتن” و”فائزة” و”سندس” الشخصيات الرئيسة في الرواية، يكشف عن مكنوناتهم، واستجابتهم تجاه الأحداث.. قد يرجع إلى الوراء ليحكي عن تاريخ الشخصيات.. حب كريم لنوال الذي أجهضه زواجها من ضابط في الجيش، زواج فاتن من غسان وتركها لطفلتها سمر ثم حنينها إليها وجنونها، كيف فقدت سندس أبوها الذي كان قيادة في الحزب وكان يقهر الشباب ثم تعرض للقهر بدوره، وأعدم بقضية فساد ملفقة، ثم يسير السرد بتصاعد نحو نهاية لا تخلو من رموز.
الحب.. مخرج
لا يوجد مخرج من تلك الوحشية سوى “الحب”.. يحاول الأستاذ إذلال كريم الذي يحتجزه ليرسم له ويتسلى بالسخرية منه، بأن يضعه على السرير وأمام الكاميرات، يجلب له في المرة الأولى امرأة أحبها وتمناها، الأرملة “أم سيف” ويعجز كريم على أن يكون لعبة في يد الأستاذ، فيقف جامداً، لا يفعل شيء كما طلب منه، ثم يمعن الأستاذ في إذلاله وكأنه يحيا على إذلال الآخرين ليرضى روحه الخربه، فيجلب له ابنة خالته فائزة، ويضعهما الاثنان في غرفته، بجانب السرير، ليتسلى بمشاهدة ردود أفعالهم وألمهم، وكأنهم حيوانات يضعهم في مأزق ليشاهد ردود أفعالهم إزاءه، لكن يحدث ما يخالف توقعاته، يلتحم كريم وفائزة، يندمجان في فعل الحب الجسدي ليتخلصا من أسر الطاغية، ها هو مخرجهم الوحيد، ليس لهم من مخرج غيره.. الحب ولذته.. التوحد في جسد واحد، ينصهران في بعضهما البعض ليتحقق تحررهما.. وكنت أتمنى أن تقف الرواية عند هذا الحد، لكن الرواية تعيد لنا كقراء وحشية الواقع حين تسمح للكلاب المفترسة بافتراس الحبيبين، لنعرف كقراء أن الديكتاتورية أثقل في وجودها من الحب وزوالها يتطلب مجهودا أكبر.
رواية “سرير الأستاذ”، صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع – عمان، وقد تضمنت 27 فصلاً، في 372 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافها الفنان نضال جمهور.
وهى الرواية الثالثة للكاتب الذي يعمل في الصحافة الأدبية منذ عام 1980، بعد روايتيه “مكان أسود” عام 99، و”حكاية امرأة” عام 2001. أما المجموعات القصصية فقد صدر له، “النواشي” عام 1983، و”غرفة الفراغ ” عام 2000.