8 أبريل، 2024 10:30 ص
Search
Close this search box.

حول الإحالة في النص الشعري الحداثي في السودان

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

كتب: صلاح محمد الحسن القويضي – السودان

[email protected]

 

على غير ما درج عليه الدرس البلاغي والنقدي والنحوي العربي التقليدي، نقصد بمصطلح الإحالة في هذه الكتابة (تضمين عنصر أو عناصر قد تكون نصية قاموسية – أو تراكيب لغوية – أو مكان أو حادثة أو فكرة أو كائن ما في نص معين تحيل المتلقي إلى وقائع أو أفكار أو أماكن أو نصوص أخرى، خارج النص لكنها تضيئه وتضيف إليه أو تلقي بظلالها عليه)

ولعل أبلغ مثال للإحالة قول الحمداني في وصف شِعب بوان:

(ملاعب جِنةٍ لو سار فيها سليمان لسار بترجمان

ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان)

فعنصري (جِنةٍ وسليمان) يحيلان المتلقي لنص آخر (حكايات النبي سليمان التوراتية والقرآنية مع الجن والخيل). وهي وقائع خارج النص الشعري لأبي فراس الحمداني تمامًا.

على مر العصور ظلت الإحالة مكونًا جماليًا مهمًا للقصيدة العربية حتى بلغت واحدة من قممها الشاهقة في الموشح الأندلسي:

(وروى النعمان عن ماء السما

كيف يروي مــــــالك عن انس. )

فالعناصر اللغوية (النعمان- ماء السماء- مالك- أنس) تستدعي لدى المتلقي (وقائع تاريخية) و(مفاهيم جمالية) و(حقائق بيولوجية/ نباتية) وربما غير ذلك مما هو (خارج) النص لكنه يضيئه ويؤطره.

تعرف جيلنا على (الإحالة الشعرية) في الشعر العربي الحديث من خلال نصوص كثيرة لشعراء عرب نشرتها مجلة آداب البيروتية وغيرها من الدوريات الأدبية خلال حقب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

في بداياتها، كانت هذه الإحالات شديدة التأثر بالميثولوجيا الإغريقية خصوصاً الإلياذة والأوديسا لهوميروس وأكثر شبهًا (بالترميز) بالمعنى الذي اكتسبه ذلك المصطلح في الدرس النقدي للشعر الأوربي الحديث.

لكن الإحالة، على يد حسب الشيخ جعفر وأمل دُنقل و(من بينهما)، بدأت تقترب رويدًا رويدًا من الموروث العربي الواقعي والأسطوري (بمعناه الأوسع). كما أخذت تبتعد من مفهوم الترميز (الأدونيسي) مقتربةً أكثر فأكثر من مفهوم (الإحالة) التي تجعل من المتلقي فاعلًا أصيلًا في إعادة إنتاج النص الإبداعي من خلال حرية التٌمثٌل ومن ثم التأويل.

على أن هذه الإحالات ظلت مباشرة عند معظم شعراء الحداثة العرب من الجيل الأول والثاني. غير أن الجيل الجديد من شعراء (القصيدة العربية الحداثية) انتقل بالإحالة نقلة كبرى بجعلها (مدسوسة) في ثنايا هندسة النص الشعري بما يترك للمتلقي كامل الحرية في (تمثُل) الإحالة وتأويلها (أو عدم تمثلها وتأويلها) بما يوافق فهمه للنص وثقافته ومعارفه السابقة وحالته الوجدانية. وبذلك اكتسب النص الشعري الحداثي العربي (خاصةً نصوصه بالغة القصر) مقدرة على شد انتباه جمهور أوسع.

استعرض فيما يلي نماذج من الإحالات الواردة في نصوص حديثة عارضًا (تأويلي) و(تمثلي) لها مما بفتح الباب لإيراد تأويلات وتمثلات أخرى لهذه النصوص وما فيها من إحالات.

من النصوص الغنية بالإحالات نص (العروج) للشاعر الشاب عمر محمد نور (السناري)، حيث يقول في مستهل النص.

(لو أن قناصًا بأعلى البرج

أغمض عينه اليمنى

ونشن جيدًا…

لرأى بأم العين عباسًا

يخرق في السفينة…

فالملوك سيأخذون النهر غصبًا

بعد حين.)

هذا النص يحيلنا مباشرة للنص القرآني الذي يحكي قصة لقاء النبي موسى وولي الله (الخضر). ومحرك الإحالة هنا هو العناصر اللغوية (يخرق – السفينة – يأخذون – غصبًا).

غير أن السناري – كعادة الشباب من مبدعي القصيدة العربية الحداثية – لا يلقي (إحالته) على (عواهنها) ولا يتركها (لمخزون الذاكرة) لدى المتلقي وإنما يحشد نصه بالدلالات اللغوية والبنائية التي تجعل مخيلة القاريء ملتصقة برمال (الحاضر) وهى تحلق في (الماضي). فالملك يستحيل إلى (ملوك) والمغتصب لن يكون (السفينة) وإنما (النهر) بأكمله. والنهر ذاته ليس بنهر وإنما هو (حشد بشري) يجري كما النهر.

أما زرقاء اليمامة فقد وجدتها حاضرة في نص السناري – من غير أن يذكر أسمها – يقول عمر محمد نور:

(عباس يا شجرًا مشى

بجذوره

نحو الرصاص).

وإذا كانت زرقاء اليمامة قد رأت (شجرًا) يسير فقد رأينا في جمهورية ساحة الإعتصام (شجرًا بشريًا) يتسابق نحو الرصاص مستهينًا بالموت مستخفًا ب(القصدير) في مشهد لم يتكرر في التاريخ إلا في مأثرة كرري التي تسابق فيها أنصار الإمام المهدي نحو (المكسيم) وهم يوقنون بأن الموت هو النتيجة الحتمية (وليست فقط المحتملة أو الراجحة) لفعلهم الباسل.

وهنا أيضًا يأتي السناري ب(عنصر الإحالة) شفيفًا ومؤطرًا بمعناه (المعاصر). وإذا كان قول زرقاء اليمامة (إنذارًا) و(تحذيرًا) لم يفهمه قومها وسخروا منه حتى أتاهم الخير اليقين بعد فوات الأوان، فإن الشجر البشري الذي مشى بجذوره نحو الرصاص في ساحة جمهورية الاعتصام قد كان إشارة لنصر قادم. إشارة/ فهمها شعبنا فحقق انتصاره (المنقوص) في مليونيات ٣٠ يونيو ٢٠١٩. ولا شك أنه سيستكمل ذلك النصر بفضل عزم ذات الشباب الذين (تراكضوا بجذورهم نحو الرصاص).

ويختتم السناري نصه – مثلما استهله – بإحالة أخرى مشغولة بعناية. يقول عمر محمد نور- على لسان المفقود – في ختام عروج عباس فرح لمراقي الشهداء:

(من منكم يراني أرتدي وطنًا…

إذا غطيت أسفله…

تعرى من علٍ …. )

يحيلنا النص لقصة مصعب بن عمير (زينة شباب مكة وفتاها المدلل) الذي لم يجد رفاقه لتغطيته عندما استشهد في (غزوة أحد) سوى (نمرة) كانوا إذا غطوا بها رأسه انكشفت رجلاه وإذا غطوا رجليه انكشفت رأسه.

وهي إحالة- كالكثير من إحالات السناري ورفاقه- تمزج الماضي بالحاضر والإنسان بالمكان والاستشهاد البشري باستشهاد الأوطان وتترك من بعد ذلك فضاءات واسعة للمتلقي يحلق فيها تمثلًا وتأويلًا وصياغةً لفهمه الخاص للنص على ضوء إشارات الشاعر اللماحة.

وليس غريبًا أن نجد الإحالة لذات الواقعة في نص للشاعرة عزاز حسان، فشـــعراء هذا الجـــيل يغترفون من نبع واحـــد. تقول عـزاز في رثاء والدها- الجار الطيب – محمد علي حسان:

(الحياة قصيرة…

كيفما ارتديتها لا تسترك…

لكن الموت يفعل …)

ولعل إحالة عزاز هنا تحمل مفهوم (التضمين). فالنص لا يحمل أي إشارة أو عنصر (لغوي) مباشر من (المحال إليه) – كما في إحالات السناري الأولى والثانية – لكن كامل (بناء الجملة الشعرية) تحمل المتلقي (الذي يرغب) إلى عوالم قصة استشهاد مصعب بن عمير. أقصد هنا أن (تمثل) الإحالة إجباريًا وأن (تأويلها) ليس موحدًا.

أما الشاعرة سارة عبد الله الأمين فتستهل ديوانها الأول (الموت في عنق زجاجة) بنص تقول فيه:

(في البدء كان الوَشْم ُ

نتوءً  حالمًا وكبيرًا

الموسيقى …

نشوة لم تُدرك

السريرةُ …

أنثي بقلبٍ مُتسلِّق

الكلامُ…

صِنارةٌ تلتهم قمرًا مُرَقَّطًا

إلي يومِ القيامة

التاريخُ …

مُزحة في فم شيطان

العشقُ …

بئرٌ ضامرةٌ

الوجودُ …

حِيلة للعبور

والأقراطُ…

نيازكًا لاهثة

ثُمَّ كانت أمّي…

كلّ الكائنات

وأنا أكورديون

يتدلّى…

يُطفئ وردها وينام. )

الإحالة هنا ناشئة عن (هندسة النص) والعناصر اللغوية في آن. فعبارة (في البدء كان الكلمة) هي العبارة التي استهل بها (سفر التكوين) من إنجيل يوحنا. فجاءت (في البدء كان الوشم) في مستهل النص (الأول) في ديوان الشاعرة (الأول) ولعل سارة عبد الله الأمين قد قصدت- من بين مقاصد أخرى- أن يكون ديوانها (سٍفر تكوين) للحب وإنجيلا للمحبة. وربما لم تقصد…

أحاول “فيما يلي” فض الاشتباك بين مصطلحي الإحالة و(التناص) مما التبس علي وربما يلتبس على البعض بسبب (تشابك) وتداخل حقلي شغلهما. يشتمل كل من (التناص) و(الإحالة) على مكون (التضمين) لعنصر أو عناصر في نص معين. غير أن (التناص) بقتصر – حسب التعريف المعتمد من أغلب الباحثين – على تضمين (نص) أو جزء منه في نص آخر، على اختلاف أشكال ذلك التضمين.

بينما الإحالة تتسع لتشمل تضمين عناصر: “نصية قاموسية- أو تراكيب لغوية- أو الإشارة لمكان أو حادثة أو فكرة أو كائن أو عوالم ما” في نص معين تحيل المتلقي إلى “وقائع أو أفكار أو أماكن أو نصوص أو أحداث أو حالات أخرى، خارج النص لكنها تضيء النص وتضيف إليه أو تلقي بظلالها عليه”. وبهذا المعنى يكون التناص واحدًا من تجليات الإحالة لا مرادفًا لها.

وبالعودة للأمثلة التطبيقية نجد خالد أبو شقة في ديوانه الأول (هذيان منتصف العمر) يقول:

(تعال تحديدًا

عند قولها… هيت لك)

بعبارة  واحدة (هيت لك) ينقلنا أبو شقة لعوالم النص القرآني الذي يحكي قصة النبي يوسف، بكل ما فيه من عوالم وقائع وأفكار وأماكن وأحداث.

ويفعل عفيف إسماعيل ذات الأمر عندما يقول في صفحة 45 من (الأعمال الكاملة):

(لماذا

كل ما

ننتظر

نصير

مثل “جودو”)

فكلمة “جودو” تؤطر كل النص بعوالم “صمويل بيكيت” وتحيل المتلقي لعوالمه (العبثية).

وقد تجيء الإحالة شفيفة خفيفة، وربما على غير قصد واع من الشاعر، كما في عبارة الشاعر الشاب بشير أبو سن حينما يقول في نص (انتفاضة) من ديوانه الأول (أغنيات في شارع الحرية):

(جيلي أنا

جيل الثلاثين خرابًا

واغترابًا واحترابًا

كلما دنا قليلًا

من أمانينا اقترابًا

زادنا الوقت عذابًا)

فرغم أن نص بشير أبو سن يتحدث عن معاناة جيله وعذاباته إلا أن عبارة “جيلي أنا” في مفتتح النص نقلتني لعوالم محمد وردي وهو يتغنى بملحمة محمد المكي إبراهيم التي يقرظ فيه (بطولات) الجيل الذي (هزم المحالات العتيقة وانبرى) ولعل بشير أراد بهذه الإحالة الشفيفة أن يقول بأن المعاناة والعذاب لا بد أن يعقبها نصر، وهو ما قد كان فعلًا … ولعله لم يرد.

وقد تأني الإحالة في جملة اعتراضية تنقل المتلقي لعوالم في نص سردي آخر. يقول عصام عيسى رجب في ديوانه (الخروج قبل الأخير للعباس بن الأحنف) – القاهرة 1999:

(لا شيء هنا

إلا فوضاك

وأنت تروقين

من الباب الخلفي

بغير حذاء).

ورغم أن عنوان نص عصام رب يؤطره بأجواء العصر الذي عاش فيه ابن الأحنف إلا أن جملة (تروقين من الباب الخلفي بغير حذاء) تنقل المتلقي لأجواء وعوالم سندريلا وهي تتسرب على عجل من (حفل رقص) الأمير فتترك حذاءها على عتبة الباب في علتها تلك.

وقد تأني الإحالة بسبب استخدام تركيب لغوي محدد- رغم اختلاف المفردات كما يفعل الأصمعي باشري حين يقول في ديوانه الأول – والأخير – (رصيف طويل للنسيان – المصورات 2017):

(عندما شئت قذف حزني

باتجاه أشجارك العالية

قالت لي الأرض رفقًا بالعصافير)

ف”رفقًا بالعصافير” تحيل المتلقي للحديث النبوي “رفقًا بالقوارير” لدرجة أنني كتبت الاقتباس كذلك في الوهلة الأولى لأعود وأصححه لاحقا.

وقد تكون الإحالة إلى (حالة) باستخدام (صورة شعرية). يقول أمل دنقل في ختام “الإصحاح الأول” من قصيدته “أغنية الكعكة الحجرية”:

(رايتي عظمتان وجمجة

وشعاري الصباح)

والعظمتان والجمجمة شعار (القراصنة) لا يجادل في ذلك مجادل. وقصيدة أمل دنقل هذه – كأغلب نصوصه – تحتشد بكم هائل من الإحالات والتناصات تجعل من قراءتها متعة تتطلب استحضار معارف عدة.

وقد تأتي الإحالة من اتخاذ (عنوان) يلقي بظلاله على قراءة المتلقي للنص. يعنون الشاعر (الشاب) – بين معقوفتين- أسامة سليمان نصًا له بعنوان (الروح صافنة):

(الروح صافنة

حطّ الغبارُ على الحروفِ ونام عصفور ٌعلى الشرفةْ

أرنو إلى الشباكِ

ثمة نجمةٌ تنضو الضياءَ من الملالِ، تقولُ- ساخرةً- لجارتها:

تعالي نغزلُ (اللاشيء) في هذا الفراغِ

تقول جارتها:

وتعبر في السماء سحابةٌ كسلى فينقطع الحوارُ

أعودُ للصمتِ، الستارةُ ظلُّها في حافةِ الشباكِ منسكبٌ

ولم تنبسْ بهمسِ تموّجٍ يشفي ولا رفّةْ

في صالةِ البيتِ السكونُ يسيلُ موتاً أبيضَ الأزهارُ تغفو في الأصائصِ،

تذهلُ الأسماكُ عن أحزانها وتدورُ في الحوضِ الزجاجيِّ الصغيرِ

فلم يعد سجناً فكلُّ البيت سجنٌ،

والسكونُ يفيضُ من خللِ الجدارِ فلا الغناءُ ولا الصراخُ يشلُّ نزفَهْ

ما يفعلُ الشعراءُ في هذا الفراغِ وقد تكدَّست المشاعرُ،

بعضهم يزهو بوزن مهملٍ،

أو يطلقُ الألحانَ من صندوقِهِ السحريِّ

لكن لا تطاوعه وتخلدُ للسكونِ،

فما الغناءُ،

الروحُ صافنةٌ

ونبضُ الشعرِ مرهونٌ

بما في الروحِ من قلقٍ وما في القلبِ من خفّةْ)

وكلمة صافنة تحيل مباشرة للخيل وخصوصًا الفرس (المطهمة المجهزة المستعدة المتحفزة المتوثبة) بينما نص أسامة يرسم حالة جمالية (للسكون والضجر والجمود) لدرجة التساؤل الممض عما يمكن أن يفعله الشعراء تجاه ذلك. بل يمضي النص أبعد من ذلك ليتساءل عن معنى (الغناء) وجدواه. هذا التناقض (الظاهري) بين العنوان والمتن يفجر حالة من العصف الذهني تقود لموقف متسائل حول (هل الروح الصافنة جاهزة للرحيل؟)، خصوصًا وأنني قرأت النص- وأظنه قد كتب- في أيام (عزلة) الكورونا (المربكة)- كما قال الشاعر الصديق يوسف الحبوب- وأجواء الموت الجماعي القاتمة التي صاحبت انتشار الكوفيد 19.

وبعد،

فعندما بدأت كتابة هذا المبحث انتويت أن يكون كتابة (فيسبوكية) خفيفة تسلي وتمتع، وقد تفيد. لكني أجد نفسي مدينا باعتذار لأصدقائي (الفيسبوكيين) لأن الأمر نحى بي منحىً غير الذي أريد. وحملتني تيارات (النصوص) إلى أعماق لم أكن أريد أن أغوص فيها.

على وعد بالعودة مرة أخرى لذات الموضوع لأتناول (أشكالًا) أخرى من الإحالة لم أتطرق إليها بعد، وخصوصًا الإحالة بتضمين عناصر (غير لغوية).

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب