خاص : كتبت – سماح عادل :
“حنا بطاطو”؛ كاتب ومؤرخ فلسطيني.. يعتبر أحد أهم مؤرخي الشرق الأوسط ومختصي تاريخ المشرق الحديث، ولد في فلسطين 1926 ونشأ فيها، ولد من أب مقدسي عربي وأم جزائرية، هاجر منذ 1948 إلى أميركا، وحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من “جامعة هارفارد” 1960؛ عن أطروحته (الشيخ والفلاح العراقي 1917 – 1958)، عمل في التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت خلال الفترة من 1962 – 1982، وفي جامعة “غورغتاون” في أميركا 1982 – 1994.
العراق..
بدأ “حنا بطاطو” دراسة تاريخ العراق في بدايات الخمسينيات؛ وبشكل خاص ركز على “الحزب الشيوعي العراقي”.. من أواخر الخمسينيات سافر إلى العراق عدة مرات واستطاع الوصول لعدة سجناء سياسيين شيوعيين، إضافة لملفات الشرطة والأمن العراقية السرية قبل حدوث ثورة 1958، مكنته هذه السجلات من وضع دراسته عن التغيرات السياسية في العراق بعنوان (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية الحديثة في العراق) الذي نشر عام 1978، ومع أن هذا العمل يركز بشكل كبير على “الحزب الشيوعي العراقي”؛ فإنه يعطي معلومات قيمة حول بقية الحركات الثورية العراقية في الريف والطبقات الحاكمة قبل عام 1958.
يعتبر هذا العمل مرجعاً أساسياً في تاريخ العراق الحديث، إضافة لأنه مؤسس على منهجية “حنا بطاطو”؛ التي تعتمد التحليل الاجتماعي السياسي وتبرز دور العوامل الاجتماعية للتطورات التي يغطيها أثناء تأريخه، وحتى التركيبة الاجتماعية للحركات محط البحث.
الطبقات الاجتماعية في العراق..
يقول المؤرخ العراقي، “سيار الجميل”، في مقال له نشر بـ (الحوار المتمدن)، بعنوان (البنى الاجتماعية هي التي تحرك التاريخ): “وفجأة وجدنا أمامنا كتابه الضخم بالإنكليزية عن (الطبقات الاجتماعية في العراق) عام 1978، وكنا ندرس يومئذ ببريطانيا، فهالنا عمله وجهده ومنهجه ورؤيته وتوظيفاته للوثائق والمعلومات النادرة التي دهشنا في كيفية وصوله إليها من وراء البحار، خصوصاً وأنه قد اختلف عن أعمال مؤرخ متخصص آخر بتاريخ العراق المعاصر؛ هو الأميركي، (من أصل عراقي موصلي)، البروفيسور مجيد خدوري المعروف هو الآخر بأعماله العديدة عن تاريخ العراق المعاصر، ولكن كرس اهتمامه لشؤونه السياسية. وأزعم أنني كنت أول من عّرف بكتاب حنا بطاطو لدى المؤرخين العرب والعراقيين.. وأول من نادى وطالب بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية. وبرغم ذلك كله، فقد بقي اسم حنا بطاطو مغموراً في ثقافتنا العربية المعاصرة حتى قام الصديق المناضل السوري الأستاذ هاني الهندي، (المولود في العراق)، والمهتم بشؤون العراق، (وكان وزيراً سابقاً في سوريا وأحد مؤسسي حركة القوميين العرب)، الإيعاز بترجمة كتاب بطاطو وكلف الأستاذ عفيف الرزاز بالمهمة، ولما سمعت بذلك أكبرت هذه المهمة، وقلت مع نفسي: يا لها من مشقة كبيرة أن يعّرب كتاب حنا بطاطو الذي يزيد عن 1200 صفحة بحروفه الناعمة وعشرات جداوله، ولكن يا نفع ثقافتنا العربية بذلك؛ وفعلاً أنجزت الترجمة ونشرت من خلال مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت بثلاث مجلدات قبل سنوات.. وبدأ اسم حنا بطاطو يتداوله الناس في الشرق الأوسط في التسعينيات”.
وعن لقاء مطّول مع، “حنا بطاطو”، يستطرد “سيار الجميل”: “التقيت بالمؤرخ حنا بطاطو مرة واحدة في مؤتمر جامعة اكستر البريطانية قبل سنين، وألقى في تاريخ سوريا المعاصر، وكان يسكت على مضض وهو يسمع التهكم عليه من قبل بعض المماحكين الإنكليز والعرب عندما كانوا ينادونه بـ “مستر بتيتو” !!.. وكان لي لقاء مطول واحد معه في المساء؛ وقد كان يلح علي أن أراه مذ عرف بأنني من العراق ومن مدينة الموصل بالذات، وبقدر ما وجهت له من أسئلة في المنهج، فقد كان يسرع في طرح أسئلته علي وكنت أجيبه بما أعرفه من معلومات تاريخية، وخصوصاً ما يخص العلاقات الاجتماعية العراقية وتراكيبها التي خبرتها من خلال عملي في سجلات المحاكم الشرعية ووثائق الطابو ودوائر المساحة والبلديات؛ ناهيكم عن السجلات الوقفية التي لم يكن قد أطلع عليها.. ولكنني اختلف مع بعض أسئلته التي لم تكن محرجة أو معقدة، بقدر ما تبعث على الملل؛ لأنها تعني بالجزئيات التي قد تفيده بشيء من الاشياء !.. لكنني والحق يقال، وجدته موسوعة تاريخية تتحرك في شؤون العراق المعاصر، وله قدرة عجيبة في استخدام مرجعية التشكيلات الاجتماعية العراقية المعقدة لقرنين عثمانيين سابقين على القرن العشرين.. ولم تكن قد اختفت عنده ميوله الماركسية، وقت ذاك، كما أحسست ليس من قراءة كتابه حسب بل من تحليلاته الشفوية، إذ كان يعلل كل التناقضات الاجتماعية المعقدة في حياة العراق إلى حجج مادية ليس إلا !.. ويؤمن إيماناً عصياً بمسألة القرابة والدم والعصبية والرحم وتأثيراتها في صنع السياسة المحلية العربية متأثراً بشكل كبير بمنهج ماكس فيبر في السوسيولوجيا السياسية !.. لقد نجح حنا بطاطو في الوقوف على أثمن الوثائق الرسمية الخاصة والأضابير الشخصية للمسؤولين والساسة العراقيين؛ وهي الأوراق الخاصة بالدوائر الرسمية من خلال سفرتين مطولتين له في عقد الستينيات إلى العراق الجمهوري في حين لم يستطع أي مؤرخ وطني عراقي من الوقوف على عشر معشار ما وقف عليه المؤرخ بطاطو القادم من الولايات المتحدة الأميركية !.. وهذا هو الفرق بينه وبين مجيد خدوري أو بينه وبين بقية المؤرخين الذين اعتنوا بتاريخ العراق المعاصر !.. وقد جازفت معه لأسأله عن سر توغله المعمّق في الوثائق العراقية وما سر فتح الحكومة العراقية مغاليقها وأضابير شخصياتها وأسرارها أمامه في العهدين العارفي والبعثي، لكنه لم يحر جواباً ونجح في تغيير الموضوع بأسلوب مراوغ، فابتسمت طويلاً، فقرأ قسمات وجهي التي عبرت له فيها عن جواب خفي منه إلي !”.
رؤية مسبقة..
يضيف “سيار الجميل”؛ عن منهج “حنا بطاطو”: “لابد لي أن أقول أيضاً، صحيح أنه كان مستحدثاً في منهجه وتفسيره، ولكن كانت له رؤية مسبقة؛ كما وخفيت عنه أشياء في نسيج البنى الداخلية العراقية المعقدة، لأنه لم يكن باستطاعته أن يدركها !.. كما وانتقدت بعض معلوماته الخاطئة التي سجلها عن روايات شفوية لبعض الساسة العراقيين القدماء الذين قابلهم !.. وقد طلب مني أن أرسل له قائمة فيها الأخطاء في المعلومات التاريخية التي وقع فيها، وفعلاً أرسلتها إليه فأرسل لي يشكرني جداً على ذلك، وقال سأتدارك ذلك لاحقاً.. ولكن النتيجة التي باستطاعة أي مؤرخ جاد الخروج بها هي القائلة: بأن تاريخ العراق الحديث والمعاصر هو الأصعب والأثقل والأغنى بين تواريخ العرب الحديثة والمعاصرة، وحتى تواريخ الإقليم كله في منطقة الشرق الأوسط من دون منازع !”.
وعن تعاطفه مع العراق، يجزم “سيار الجميل”: “ويذكر العديد من الزملاء الذين كنت أحادثهم بشأن حنّا بطاطو أن عند الرجل نزعة قومية عربية قوية، ولكنها خفية مستترة، وأنه تألم جداً عندما كان الأميركان يضربون العراق عام 1991 على مدى 41 يوماً، قبل تحرير الكويت، وكان يدعو زملاء له لكي يحاضرون بمعيته في الشأن العراقي، ولكنه لم يظهر أبداً على شاشات التليفزيون أو على واجهات الصحف، وبرغم سكوته؛ لكن قلبه كان محروقاً على العراق ـ كما أخبرتني الدكتورة هاله فّتاح وكانت إحدى زميلاته ـ.. ويقال أن دولة الكويت سحبت كرسي الأستاذية، الذي مولته قبل عام 1990 وكان بطاطو يشغله في جامعة جورج تاون. ويشاع الكثير عن إنسانيته وتألمه من جراء الحصار على العراق إبان التسعينيات؛ وكان يتألم لما كان يعانيه شعب العراق إبان تلك المرحلة الصعبة. إن من أهم سمات حنا بطاطو وصفاته: تواضعه وعزلته وإنغلاقه على نفسه وتقبله لإحجيات الآخرين مهما كانوا، كما ويتمتع بتصرفات الأطفال في بعض الأحيان !.. كان بطيئاً في إلقائه لمحاضراته، ولكنه يصغي لكل شاردة وواردة إذا ما صادف واكتشف شخصيات معينة يمكنه أن يستفيد من معلوماتها التاريخية وحتى الشخصية.. ثقافته التاريخية واسعة في شؤون الشرق الأوسط، وخصوصاً عن العراق، الذي يكّن له ولشعبه وتاريخهم عشقاً كبيراً.. كان الرجل أعزباً يسكن بعيداً عن نيويورك لوحده قرب إحدى الغابات، سيارته متواضعة لا يهتم بالمظاهر والشهرة والأضواء.. يساعد طلبته الفقراء مادياً ومعنوياً، وقد درس بعضهم على حسابه الخاص”.
تاريخ سوريا والسعودية..
أما عن منهجه البنيوي المتفوق في كتابة تاريخ سوريا والسعودية، يقول “سيار الجميل”: “لقد تفوق حنا بطاطو كثيراً في كتابة تاريخ العراق أكثر من كتابته تاريخ سوريا، وإنني أدعو للإسراع بتعريب الأخير فضلاً عن تعريب بقية أعماله، وقد قمت بتصوير نسخة من كتابه في تاريخ سوريا المعاصر؛ وهو كتاب مهم وخطير أيضاً وسلمته إلى الأخ الناشر أحمد أبو طوق في عمّان بالأردن، والذي وعدني أن ينشر ترجمته بعد الحصول على الترخيص بذلك، وطلب مني أن أقدم الكتاب وترجمته العربية للقراء وللمؤرخين والمثقفين العرب، ومضى أكثر من سنتين وقد أخبرني أبو طوق، قبل عام، بأن هناك أطرافاً وحكومات في بلاد الشام لا يرضيها أبداً نشر كتاب بطاطو عن سوريا نظراً لخطورة الكتاب !!.. وأنني اعترف بأن كتابه عن سوريا لا يقل خطورة عن كتابه الخاص بالعراق المعاصر، فضلاً عن أنه قد كشف جملة من الإرتباطات التاريخية والمعلومات الخاصة عن شخصيات سياسية.. وقد سمعت أيضاً بأنه أنجز مخطوطته بالإنكليزية عن التاريخ المعاصر للمملكة العربية السعودية، فلا أدري هل ستجد طريقها إلى النشر برعاية من زملائه وطلبته ومحبيه أم سيطويها الزمن ؟.. ومن جملة ما علمته بأنه أتبع المنهج نفسه وأنه لم يحضر حفلة أو مناسبة إلا ويسأل عن القرابة والجوار في التاريخ الذي يشتغل عليه.. وسيبقى اسمه وعمله ومنهجه إضاءات ساطعة في تاريخ العرب إبان القرن العشرين، وستبقى ذكراه الطيبة سارية عبر الزمن. لقد تفوق المؤرخ بطاطو كثيراً في منهجه ودراساته التي ركز العمل أجمعه من خلال السوسيولوجيا التاريخية منطلقاً من المبادئ التي كان قد أسسها الفيلسوف الألماني المعروف ماكس فيبر، فلقد نجح بطاطو في تطبيقاته لهذا المنهج في دراسة العراق وسوريا نجاحاً باهراً.. ولعل أهم ما ميزه تأكيداته على عنصر القرابة والدم في صنع الأحزمة السياسية مؤكداً على الدور الاجتماعي في صناعة التاريخ”.
فلاحو سورية..
يقول الكاتب السوري، “سمير سعيفان”، عن كتاب “حنا بطاطو”، (فلاحو سورية): “يعد كتاب حنا بطاطو من الكتب المهمة والقليلة التي درست فئة الفلاحين في سورية، يتضح لدى قراءة كتاب بطاطو الجهد المبذول فيه خلال السنوات التي عمل فيها على الكتاب، والتي تمتد نحو عقدين من الزمن؛ إذ بدأ العمل به منذ عام 1980، كما يشير في مقدمته، بينما نشر الكتاب عام 1999. ويوثّق الكتاب كثيرًا من المعلومات التي تستند إلى كثيرٍ من الوثائق من جهة، كما أنه غني بمعلومات إستقاها من كثيرٍ من المقابلات والزيارات الميدانية لمختلف مناطق سورية؛ مما يعطي للكتاب حيوية. وقد تجنّب “استخدام اللغة الأكاديمية في هذا العمل”، كي يكون في متناول شريحة واسعة من القراء. يتكوّن الكتاب من أربعةِ أقسام وخمسةٍ وعشرين فصلًا في أكثر من 700 صفحة، ويعالج موضوعين يرتبطان ببعضهما، فالأقسام الثلاثة الأولى التي تشكل نصف الكتاب تدور حول الفلاحين السوريين من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قبل عام 1963 وبعده حتى سيطرة حافظ الأسد على السلطة في عام 1970. أما القسم الرابع، الذي يشكل وحده أقل من نصف الكتاب بقليل، فهو يدور حول شخصية حافظ الأسد ومنهجه في الحكم كأول رئيس من أصل فلاحي ومن فئة اجتماعية كانت مهمّشة. وسنتناول في هذه المراجعة الموضوع الأول فقط، وسنترك ما يخص شخصية حافظ أسد ومنهجه في الحكم لمادة أخرى”.
اتفاق مع “عبدالكريم قاسم”..
فيما يقول الكاتب العراقي، “صباح ناهي”، عن تأريخ “حنا بطاطو” للعراق: “منجزه العلمي الذي خرج به خلال دراسة استمرت عشرين سنة عن التاريخ المعاصر للعراق بمنجزين: أطروحته للدكتوراه عن (الشيخ والفلاح في العراق)؛ التي قدمها لجامعة “كامبريدغ” ونال عنها الدكتوراه، وبحثه الموسوم (العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية)؛ بالإنكليزية في لندن العام 1976 ونشر بالعربية ضمن ثلاثة أجزاء، البحث الذي عدهُ بعض الأوروبيين، “إنجيل العراق”، كما أسماه عالم أنثربولوجي ألماني، لما تضمنه من ولوج غير مسبوق في تفاصيل التاريخ العراقي، وكيف يتفاعل ما هو اجتماعي وسياسي وإثني مع المال والسلطة والحكم.. أما كيف وصل بطاطو إلى معرفته بملفات الأمن العراقية، فهذه قصة القصص، وكيف وظفّها في خدمة بحثه الأكاديمي ببراعة الباحث الموضوعي الذي يسعى للمعرفة دون سواها، قصة أخرى حتى نالت اهتمام العراقيين وسواهم بل وانتزعت الإعجاب منقطع النظير لهذا الباحث الذي عاش فقيراً في أميركا مفجوعاً باحتلال وطنه، “القدس”، بعد أن غادرها العام 1948، دون رجعة، ثم انتقل إلى بيروت أستاذاً في الجامعة الأميركية مع زوجته الجزائرية، يعيش على الكفاف ويعكف على التأليف وسبر غور الحقيقة العراقية أولا ثم السورية، وكأنه قد غادر أميركا ليقترب من مسرح الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط، ويوصف ويشخّص حالها بمنهج علمي، ليصل إلى وضع أهم كتاب عن التاريخ العراقي المعاصر. كيف ذلك ؟.. هذا هو السؤال الأهم في حكاية بطاطو؛ الذي وصل إلى ملفات الأمن العام العراقي الحصينة بعد سقوط النظام الملكي وقيام العهد الجمهوري العام 1958، بعد أن عقد صداقة مع الزعيم “عبدالكريم قاسم” الذي منحه فرصة الدخول في المحظور العراقي؛ وهي ملفات الأمن العام وأضابيره الصفراء، وخرج بمعطيات لم تتح لغيره، مكنّته من معرفة ما يدور في فضاء الخفاء السلطوي.. كُتاب وباحثون عراقيون أنجزوا أخيراً مؤلفاً عن بطاطو عرفانا لمنجزه يحمل اسم (حنا بطاطو في سيرته ومنهجه وتفسيره لتاريخ العراق المعاصر) لمجموعة من اليساريين الذين عرفوا بطاطو والتقوه، والذين أجمعوا على فرادة منهجية؛ والتي بدا من خلالها مؤرخاً موضوعياً فذاً للحركات الثورية في العراق لم يسبقه أحد في توصيف دينامياتها”.
وفاته..
توفي “حنا بطاطو” في “وينستد” – كونيكتيكوت أميركا في يوم 24 حزيران/يونيو 2000.