26 ديسمبر، 2024 5:20 م

حملة “ألواح الطين” .. لإنقاذ قصر “أسرحدون” الآشوري

حملة “ألواح الطين” .. لإنقاذ قصر “أسرحدون” الآشوري

كتب – هاني رياض :

معركة ثقافية وأثرية تقودها مؤسسة “مدارك”، ومجموعة من منظمات المجتمع المدني بمشاركة مثقفين وأكاديميين ونشطاء مدنيين معنيين بحماية الآثار عبر حملتها “ألواح الطين” لحماية الآثار العراقية، والتى تهدف إلى الحفاظ على الإرث الحضاري للعراق، ضد ديوان الوقف السني، والحكومة المحلية في “نينوى” لوقف إعادة بناء مرقد وجامع “النبي يونس” الذي هدمه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في تموز/يوليو 2014، بعد سيطرته على مدينة الموصل العراقية، والتي أثبتت الاكتشافات الأثرية عن وجود قصر الملك الآشوري “أسرحدون” الأثري أسفل الجامع .

طوال ثلاثين عام، وتحديداً منذ عام 1986، أجمع المختصين والمسؤولين عن الآثار بالعراق بوجود قصر “أسرحدون” الذي أكتشفت التنقيبات الأثرية بوابته آنذاك، ولكن تم ايقاف التنقيب لاعتبارات دينية وأمنية، بسبب صعوبة هدم “مرقد النبي يونس”، أو الذي يظن أنه مرقد نبي الله يونس عند المسلمين، أو النبي ” يونان” عند المسيحيين، خوفاً من رد فعل الأهالي الذين يتبركون بالضريح، ولكن بعد احتلال “داعش” للموصل في تموز/يوليو 2014، وقيامه بتدمير مرقد النبي يونس الأثري، في تل “التوبة” بمحافظة نينوى، وحفر أنفاق أسفل الضريح، ظهرت أبواب القصر، وتماثيله المجنحة الآشورية الشهيرة، وتماثيل ضخمة كانت تزين القصر، وبعض الألواح الحجرية، وبعض المقتنيات الأثرية للقصر التى كان “داعش” يقوم بتهريبها وبيعها خارج العراق لتمويل التنظيم وأعماله المسلحة.

تكونت الحملة منذ شهرين وتحديداً بتاريخ 18 آذار/مارس2017، عندما تم الاعلان عن وضع حجر الاساس لبناء “جامع النبي يونس” على أنقاض قصر “أسرحدون”، والتي أصدرت بيان تؤكد فيه على أن الأرض كانت لمعبد آشوري داخل قصر “الملك اسرحدون”، وبدخول المسيحية تحول إلى دير النبي “يونان”، الذي كان مقراً للكرسي البطريركي لكنيسة المشرق في زمن البطريرك “حنا نيشوع”، وبعد الفتوحات الإسلامية تحول إلى جامع النبي يونس. تم دعوة المنظمات والشخصيات المهتمة إلى مؤتمر صحافي لإطلاق الحملة بتاريخ 20/5/2017 في بغداد، طالبت فيه الحملة الجهات المسؤولة إيقاف العمل مؤقتاً في إعادة بناء مسجد النبي يونس في تل التوبة إلى حين الانتهاء من أعمال التنقيب الخاصة بقصر “أسرحدون” لما له من أهمية تاريخية حضارية بالنسبة لشعوب العالم فضلاً عن الشعب العراقي، وأن تأجيل بناء المسجد مؤقتاً لن تلحق الضرر بقدسية المسجد أو المكانة الدينية والتراثية له.

لوضع حلول وتصورات علمية لتلك الأزمة يجب معرفة أهمية القيمة الحضارية والأثرية والتاريخية لقصر “أسرحدون”، وتاريخ الملك “أسرحدون” أهم ملوك الأمبراطورية الآشورية، وجهوده الكبيرة فى إساء الحضارة الآشورية وتوسعاته الخارجية، وعلاقة آشور بجيرانها في تلك الفترة، وكذلك تاريخ “جامع النبي يونس”، ومكانته الدينية والتاريخية.

قصر الملك الآشوري “أسرحدون”..

يعد “أسرحدون” الملك الرابع عشر من ملوك الإمبراطورية الآشورية الحديثة التي حكمت فى الفترة ما بين “911 – 610 ق. م”، وابن الملك “سنحاريب” أعظم ملوك الدولة الآشورية، والذي حكم من “704 – 681 ق. م”، والذي حكم بعد مقتل “سنحاريب” والده على أثر مؤامرة في القصر بقيادة أخيه، واستطاع القضاء على المؤامرة، والانتصار على أخيه، وتولى حكم البلاد في الفترة ما بين 681 – 669 ق. م، وأثناء حكمه قام بالتوفيق بين “آشور” و”بابل”، وقد اهتم بمدينة “بابل”، وقام بتشييد المعابد فيها، وبناء أسوارها، وأعفى سكانها من الضرائب والسخرة، بعدما قام “سنحاريب” بمعاداتها، كما قام بالتقرب إلى العرب، واسترضاءهم، وقام “أسرحدون” بتوسيع امبراطوريته شمالاً وغرباً، فقد توسع بجيشه نحو الشمال، وضم جبال “أرمينيا” إلى مملكته حتى “بحر قزوين”، والبحر المتوسط غرباً، وأسس عاصمة جديدة لحكمه هي “كالخو”.

كما استطاع مواجهة خصومه من “الكميريين”، بالإضافة إلى تصديه عام 671 ق. م لتمرد المدن الفينيقية التي كانت تدفع الجزية لآشور، وعلى رأسها صيدا التي تمردت على “أسرحدون” بتأييد من ملك مصر “طهرقا”، وقام بتشييد مدينة “كار – أسرحدون” بالقرب من صيدا، وقام بضم العديد من المدن مثل “جبيل، عكا، وأرواد”، واستطاع دخول مصر، والوصول إلى الدلتا، والسيطرة على العاصمة “ممفيس”، ولكن بعد مغادرة الجيش مصر استطاع “طهرقا” استعادة حكمه، فقام “أسرحدون” بشن حملة ثانية على مصر عام 669 ق. م، ولكنه توفى قبل الوصول إلى مصر، وانقسمت مملكته بعد وفاته بين ابنه “آشور – بانيبال”، وبين ابنه الآخر “شمش – شوم”، وقد تعرض القصر للدمار بعد سقوط مدينة نينوى عام 612 ق. م، وتم ترميم مرة أخرى على يد ابنه الملك “آشور بانيبال”.

وبجانب الانجازات العسكرية الكبيرة التي قام بها “أسرحدون”، أهتم أيضاً بالجانب المعماري في البلاد، ومنها تجديد القصر بعد توليه الحكم، ولأسرحدون مسلتين ضخمتين قام بتشييدهما تخليداً لذكراه، الأولى تم اكتشافها في “تل برسيب”، وموجودة الآن في متحف حلب، والثانية  اكتشفت في “زنجرلي” جنوب تركيا، وموجودة الآن في برلين، وتصور “أسرحدون” بهيئة ضخمة امام الملك “طهراقا” ملك مصر، وملك صور يركعان له طالبين الرحمة، وهي لوحة رمزية لسيطرة “أسرحدون” على مصر وصيدا فقط، وليس لوقوع الملكين في الآسر.

مقام النبي يونس..

يحظى “جامع النبي يونس” بمكانة خاصة عند أهالي الموصل، حيث يعتقد أنه يحتوي على مقام للنبي يونس الذي ذكر في القرآن الكريم باسم “ذو النون” صاحب الحوت، ويعرفه المسيحيين بالنبي “يونان”، حيث يقصده الآلاف من أهالي المدينة وخارجها للصلاة والتبرك، وهو من المساجد الأثرية، ولكن لا أحد يعرف تحديداً تاريخ بناء المسجد، ولكنه مذكور في كتاب “تحفة الانظار” للرحالة الشهير “أبن بطوطة”  703 – 779 هـ، وكان يزوره الحجاج الأتراك، بينما يذهب بعض المؤرخين أن الجامع ليس مرقد النبي يونس الحقيقي.

ويتألف الموقع, الذي يقع على تل عالي، وهو مكون من بنائين يفصل بينهما طريق عرضه 6 أمتار، وهما “بيت الوضوء والمصلى والحضرة”، كما ألحقت بالجامع داران للخطيب والمقيم، ومنارة الجامع مبنية من حجر “الحلان الأسمر”، وتشبه المنائر التركية في طراز بنائها، وقد بنيت سنة 1341 هجرية 1922 ميلادية، ومحراب الجامع غني بالكتابات العربية المميزة، وقد تعرض للتدمير على يد عناصر “داعش” الإرهابية، في حملة منظمة شنها التنظيم لهدم المراقد والشواهد التاريخية التي يعتقدون وفقاً لعقيدته السلفية كفر وشرك بالله ولا بد من هدمها.

وعن تصور ما بعد مرحلة استكمال التنقيب عن القصر واستخراج الآثار، قدمت الحملة في مؤتمرها الصحافي عدة توصيات وحلول مقترحة أهمها: “أن يتم بناء مبنى واحد ذو هندسة معمارية خاصة ذات دلالات للحقب التاريخية المتعاقبة، ويضم ثلاث مداخل: “الأول” يؤدي إلى الطابق الأرضي مخصص للمعبد الآشوري وقصر الملك “أسرحدون”، و”الثاني” يؤدي إلى كنيسة “مار يونان”، و”الثالث” يؤدي إلى جامع “النبي يونس”، يكون المبنى معلماُ حضارياُ كبير يرمز إلى التعايش والأصالة وقبول التنوع.

وقد استقبلت وزارة الثقافة لشؤون الآثار والتراث وفد من ديوان الوقف السني، وعقدت اجتماعاَ معهم للاتفاق على أن لا تتم المباشرة بالعمل في اعادة بناء المسجد إلا بموافقة وإشراف الآثار، وأن تشكل لجنة مشتركة لفرز وتوثيق وتخزين كل الحطام الذي أحدثه التفجير، وبعد الانتهاء من عملية الفرز يتم تشكيل لجنة أثرية للتحري عن أسس الجامع الأصلية، وتقوم هيئة الآثار بتشكيل بعثات تنقيب في قصر “أسرحدون” أسفل الجامع.. بناء الجامع يشمل المرقد والمصلى، وهو لا يتعدى عشرة امتار مربعة، وليس بالشكل الذي بناه ديوان الرئاسة المنحل.

وهكذا كان قصر “أسرحدون” رمزاً للإمبراطورية الآشورية وحكمها الممتد لثلاث قرون، وقد تحول بعد انتشار المسيحية في العراق إلى دير “النبي يونان”، وبعد الفتوحات الإسلامية تحول إلى جامع “النبي يونس”، فهو رمز للتعايش والتنوع الثقافي والحضاري لكل العراقيين عبر التاريخ الانساني، وهو ما يستلزم مرة أخرى أن يتم الحفاظ على هذا المزيج الحضاري والثقافي، بأن يصبح مجمعاً للحضارات “الآشورية والمسيحية والإسلامية”، فهو الخلاص والأمل في مواجهة كل دعاوي الفتنة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة