كتب – عمر رياض :
دون مبررات دقيقة وأسباب واضحة بدأت “وزارة الأوقاف” المصرية تطبيق قرار حظر مكبرات الصوت في صلاة التراويح لشهر رمضان 2017، منعاً لـ”الإزعاج” – التشتيت بالصوت – هي الحجة التي صدر بسببها القرار على حسب تعبير المسؤول، حيث جاء في نصه أن وزارة الأوقاف المصرية حظرت تشغيل مكبرات الصوت في صلوات التراويح خلال شهر رمضان، “منعاً للإزعاج”، وقوبل القرار ردود فعل واسعة ومتباينة, حملت اتجاهات المواطنين المسلمين، فى معظمهم من تيارات مختلفة، وحتى المعبرين عن المؤسسات الرسمية والمستقلة والمشاهير ونجوم الرياضة.
وكانت نسبة من الجماهير قد أيدت القرار من منطلق الحد من ازعاج المواطنين، خاصة الطلبة والمرضى والتعدي على الخصوصية بتشغيل “ميكروفون” يومياً لمدة قد تتجاوز الساعة، إلا ان قطاع آخر رأى أن القرار سطحي وغير عادل حيث أن ازعاج “الميكروفون” لا يقتصر على صلاة “التراويح” في رمضان فقط، بل يميد إلى أيام اخرى، وخُطب في غير مواعيدها و”كاسيت” السيارات في الشارع.
وقد اعاد القرار مرة أخرى جدلاً كان يعتمل على الهامش لزمن وترك سؤال مفتوح، حول مصدر الإزعاج الحقيقي “هل يكمن في الميكروفون أم في صاحب الصوت ؟”.
التلاوة الصحيحة والخاطئة من الرعيل الأول للتدوين والتسجيل..
كان ازعاج ميكروفون المسجد أو قارئ الميكروفون على السواء – حيث لا يفرق خبراء الاصوات وعلماء التلاوة بين الاثنين – مادة للجدل والنقاش لزمن طويل، وقد اتخذ بعض شيوخ التلاوة وروادها اتجاهاً لتصحيح وضبط هذا المجال حتى لا يصبح عشوائياً.
يعد الشيخ “محمد الهلباوي” – توفى في 2013 – من ضمن الذين ساهموا مؤخراً في ضبط مسار التلاوة، حيث كان، وعدد من هذا الجيل، يرى “إن لم يكن قد فات الآوان يمكن إعادة الجاذبية لتلاوة القرآن الكريم”، حيث تعد ركن تعريفي هام بالإسلام للوهلة الأولى.
وكان آخر ما تركه “الهلباوي” تسجيل فيلم بعنوان: “حلاوة التلاوة”، عبارة عن خلاصة تجاربه في مصر والعالم الإسلامي وتعلمه من المدارس السابقة.
يبدأ الفيلم بحديث النبي محمد (ص): “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ”، ويسترسل بعد ذلك في المقدمة، التي ينسب فيها علم التلاوة والمقامات الصوتية إلى من سبقوه من المقرئين الكبار “الرعيل الأول”، الذين أسسوا لهذا العلم، وقد حُفظت عنهم تلك التلاوات قبل حتى أن تدون.
ويشرح الفيلم، الأشبه بمسابقة بين مجموع شباب يقودهم “الهلباوي”، المقامات الصحيحة للتلاوة وعددها ثمانية، أيضاً ما يعرف بعلم “المواكبة” الذي يُدرس في بعض المعاهد والكليات المتخصصة في البلاد العربية، وقد قام “الهلباوي” نفسه ومقرئين آخرين بنقله إلى دول الغرب وآسيا وغيرها من البلاد، وهو ببساطة علم يشرح فن ملائمة الآيات للمقامات التي يجب أن تتلى منها سواء من طبقة أو درجة عالية أو منخفضة، وذلك لأسباب عدة منها أن يؤدي الصوت تأثير الآية في نفس المستمع ويكمل دورها.
ومن مقام “النهاوند” يذكر انه يجب أن تتلى على سبيل المثال آية: (للَّه مَا في السَّمَوَات وَمَا في الْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا, وَمَا تَحْت الثَّرَى)، لانها تواكب الملكية المطلقة لله فتقال من درجة عالية تواكب قدره.
خبير الأصوات “أحمد مصطفى كامل” في ورش التلاوة القديمة..
على خلاف الطريقة المعروفة لدى المقرئين تعلم خبير الأصوات الدولي “أحمد مصطفى كامل” – المولود في عام 1939 بحي الزيتون بالقاهرة – “فن التلاوة”، ليصبح بعد ذلك واحداً من عباقرة هذا العلم.
حيث كان يرافق والده وهو طفل صغير للإستمتاع بتلاوة القارئ الكبير الشيخ “مصطفى إسماعيل”، وقد دفعه ذلك إلى تقليده بنسبة مئة في المئة، ورغم كونه لم يتعلم القرآن في “الكُتَاب” على طريقة الكبار إلا انه أصبح اليوم مقصداً لمن يريدون ان يتعلموا فن تلاوة القرآن، ليس على المستوى المحلي ولكن تخطى ذلك بكثير حيث تم استضافته في العديد من الدول ليسعدوا بطريقة تعليمه الفريدة التي يؤديها ببراعة فائقة على الهواء مباشرة، كان ذلك قبل أن يستقر في المملكة العربية السعودية فترة كبيرة من حياته.
وعلى الرغم من انقطاع اخبار الأستاذ “كامل”، كما يطلق عليه معظم مشايخ الإذاعات العربية، الآن بسبب طول فترة مرضه إلا ان ما سجل من صوته وإبداعه على صفحات التواصل الإجتماعي المعنونة باسمه والقنوات المحلية والعالمية يعاد نشره يومياً.
يقول “كامل” عن الشيخ “مصطفى إسماعيل” في احدى التسجيلات:
“كانت تستوي عنده التلاوة، عبر مكبرات الصوت أو بدونها، وكان يستطيع ان يقرأ لمدة خمس ساعات متواصلة دون ان يتعب.. شرفت بمرافقته على مدى 29 عاماً”.
ويصفه أيضاً بأنه “هبة من السماء.. وهبه الله حنجرة ذهبية.. اقتبس منه عبد الوهاب وأم كلثوم واذكر ان صباح – الشحرورة – قالت ذات مرة عبر وسائل الاعلام: لا استطيع ان اغني إلا بعد ان استمع إلى الشيخ مصطفى إسماعيل – قالت هذا رغم انها مسيحية”.
إذا ما استعرضنا اهم التسجيلات لـ”كامل” سنجد أشهرها ما يتحدث فيه عن البسملة فقط، أو ما يجب أن تطول وتقصر فيه “البسملة”، في أول القراءة.
ثم تأتي في أكثر تسجيلاته متابعة ضبط أصوات ومقامات كبار قراء الإذاعات العربية.
وعن ضبط الأصوات وتعليمها، يقول أن فكرة تعليم وتدريب الاصوات بدأت حينما كان يقرأ في الحفلات، ليس لجمع المال، ولكن حباً في الشيخ “مصطفى.. حيث كان الناس يحبون سماعي وانا اقلده في العمر ثلاثين عاماً ومازلت أحتفظ بالتسجيلات”.
مستطرداً: “واذكر ذات مرة حينما كنت اقرأ في سهرة عام 2000، بينما انا اقرأ سورة الرحمن بالمقامات الموسيقية الثمانية ان انفعل احد الحضور ولم اكن اعرفه.. انفعل من فرط اعجابه بالآداء وقال بصوت عال: طالما انك تبدع هكذا فلماذا لا تفكر ان تعلم الاجيال الجديدة ؟.. فلا تبخل خاصة ان الله وهبك هذه النعمة الكبيرة”.
“من هنا اكرمني ربي واتجهت إلى اسلوب التدريب والتعليم، وبدأت مع “ياسر الشرقاوي” و”سمية الديب” واخواتها و”شريف أيمن” حيث علمتهم بدون اجر”.
اما عن قصة منحه الدكتوراة، فكانت في دولة الجزائر عندما توجه إليه رئيس مجلس الوزراء السوداني بسؤال: “هل فيه آية في القرآن تدعو لعدم التعصب للديانات ؟”.. فقال له: “نعم (لكم دينكم ولي دين)”. فطلب منه ان يصعد على مكان مرتفع ويقرأها بطريقة المقامات الثمانية. وبالفعل اخذ يقرأ الآية وكررها إلى ان انفعل رئيس الوزراء مع تلاوته وقال بأعلى صوت: “الله” !.. وامر بإعطائه الدكتوراة فوراً.
ربما يرى مدرب وخبير الأصوات أنه لا توجد في “دولة التلاوة” صوت يقارب صوت “مصطفى إسماعيل”، وان مازال هناك وقت لضبط ما ينفر من الأديان كنشاز الأصوات.
الرعيل الأول وأساتذة الأجيال في المنطقة العربية..
يعد الشيخ “إبراهيم الفران” احد أركان “الرعيل الأول” في مصر، وهو من مواليد حي المغربلين عام 1883، حفظ القرآن على يد الشيخ الكبير “الجريسي”، ليصبح رائد من رواد عصر النهضة في القرن التاسع عشر، ما كان يميز آداء “الفران” تمكنه من التنقل بين المقامات بسبب معرفته بدروب التلحين، بالإضافة إلى صوته الذي يصنف ضمن مجموعة الأصوات ذات الطبقات النادرة.
في عام 1938، وداخل مدينة حلب السورية، ولد “أديب الدايخ” احد اشهر أصوات التواشيح ورغم مسيرة نشاط لم تتجاوز 23 عام إلا انه صار علامة صوتية خاصة، بعد تحوله للغناء الملحن، قبل الغناء الاحترافي حفظ “أديب” القرآن الكريم والتواشيح وقصائد كبار الشعراء وتعلم القراءات السبع ليبدأ بالتلاوة والتواشيح ثم ينتقل لقصائد “أبن الفارض”، حتى وصل لمحطة غناء الحب على طريقة “أبن حزم” وموسيقى الأندلس، وقد توفى في العام 2001. من نفس تلك المدارس خرج عدد كبير من الأصوات في “مصر والعراق والمغرب” أيضاً.
“محمود الشحات” آخر القراءات الصحيحة من الريف للعالمية..
لا تتوقف الطبيعة عن منحها مزيد من المواهب في الحياة، هذا ما يمكن ما تلخصه المسيرة الصغيرة والمجيدة، في نفس الوقت، للقارئ “محمود محمد الشحات أنور”، الذي استطاع ان يصل لاجماع البسطاء والخبراء والعلماء معاً.
نجم اليوم هو ابن واحد من العمالقة ايضاً، وهو الشيخ “محمد الشحات أنور”، فكانت الموهبة أيضاً لدى الشيخ “الشحات” هي سر صيته.
بعد عام 1970، انتشرت أجهزة التسجيل في كل المدن والقرى المصرية، كما إنتشرت في المدن والقرى العربية، بطريقة ملحوظة وخاصة بعد “الانفتاح” وكثرة السفر للعمل خارج مصر. لدرجة أن كثيرين تمنوا السفر ليس لجمع المال ولكن ليكون لديهم جهاز تسجيل يسجلوا ويسمعوا عليه أصوات المشاهير من أمثال الشيخ “الشحات”. وكان ذلك سبباً في شهرة الشيخ “الشحات” عن طريق تسجيلاته التي انتشرت بسرعة البرق, ولو تم حصر تسجيلاته في تلك الفترة لزادت على عشرة آلاف ساعة من التلاوات الباهرة الفريدة التي جعلت الملايين من الناس يتوقعون لهذا القارئ الموهوب أنه سيكون أحد النجوم المضيئة في الإذاعة، نظراً لما كان يتمتع به من مزايا شخصية وإمكانيات صوتية لا تقل عن إمكانيات عمالقة القراء من “الرعيل الأول” لقراء الإذاعة.
هكذا اصغر ابنائه “محمود”، الذي برع في التلاوة المنضبطة، حتى بشهادة الموسيقيين العالميين في الكثير من الدول التي زارها، إلا ان النجاح الأول الذي لقاه كان من جموع مستمعي القرى، كما هو مسجل، قرية الزنكلون بالشرقية.
الجمهور الذي تربى على “الطرب الأصيل” بالآذن لان فيه الكثير ممن لا يقرأ، كان الشهادة الأولى على الموهبة وهذا سر آخر يحتاج إلى بحث.
وقد تعدت مشاهدات “محمود الشحات” ملايين المشاهدات، جميعها يقرأ فيها على الدرجات المنضبطة وتتنوع بين مقام “الصبا” و”العجم” ومقام “النهاوند” ومقام “الكُرد” ومقام “الحُجاز” ومقام “البياتي” ومقام “السيكا” ومقام “عجم” ومقام “الرست والسيكا”، و(5) جوابات في مقام “البيات”.