خاص : بقلم – طارق يوسف :
حكايات هندية أم فارسية أم عربية ؟
القصة التي أوردتها على 3 أجزاء (عشب المحياة)، هي إحدى القصص التي تدور حول أصل كتاب (كليلة ودمنة)، وقد تعددت القصص حول أصل الكتاب، ومن ثم الآراء حول ذلك، حتى إننا لا نستطيع أن نوقن أي هذه الآراء صوابًا وأيها خطأ.
وعن كتاب (حكايات كليلة ودمنة)، يقول عميد الأدب العربي؛ الدكتور “طه حسين”: “لقد تنافسّت الأمم على اقتنائه، وحرصت كل أمة على أن تنقله إلى لغتها، فليس في لغات العالم لغة إلا تُرجم هذا الكتاب إليها… ففي هذا الكتاب حكمة الهند، وجهد الفرس، ولغة العرب. مما جعله جزءًا من التراث الإنساني الخالد”.
وعلى ما يبدو أن أهمية هذه الحكايات/ الكتاب لا ترجع فقط إلى كونها تُمثل: “حكمة الهند، وجهد الفرس، ولغة العرب”، بل إن هناك عوامل أخرى مثل اللغط والجدال الذي دار ويدور حول أصلها: وهل هو هندي نُقل إلى الفارسية، ومن ثم نقلها “ابن المقفع” وترجمها إلى العربية، أم أن “ابن المقفع” وضعها وألفها كاملة من الألف إلى الياء ؟
هل كتاب “كليلة ودمنة” هندي أم عربي ؟
يقول بعض المؤرخين والباحثين إن (كليلة ودمنة) كتاب هندي، تُرجم إلى اللغة الفارسية، ثم ترجمه “عبدالله بن المقفع” من الفارسية إلى العربية.. وقد أضاف “ابن المقفع” إلى أبواب الكتاب الأصلية بابًا يصف فيه كيف نُقل الكتاب من الهندية إلى الفارسية وهي حكاية “كسرى أنو شروان” و”برزويه”.. ووضع “ابن المقفع” هذا الباب في مقدمة الكتاب تحت اسم: “باب توجيه كسرى أنو شروان وبرزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب”؛ (وهي الحكاية التي سّردناها على مدى ثلاثة أجزاء تحت عنوان “عشب المحياة”).
لكن هناك على الطرف الآخر؛ من يرى من المؤرخين والباحثين أن “عبدالله بن المقفع” هو الذي وضع؛ (ألَّفَ)، هذا الكتاب، في القرن الثاني من الهجرة، التاسع من الميلاد.. وأن هناك أسبابًا سياسية وجيهة ـ من وجهة نظر هؤلاء الباحثين والمؤرخين ـ جعلت “ابن المقفع” يلجأ إلى الادعاء بأن الكتاب كتابٍ هندي، نُقل عن طريق “برزويه” الحكيم إلى الفارسية، ومن ثم نقله هو إلى العربية..
على أية حال؛ لكل رأي من الرأيين أدلته المسّتندة إلى حقائق وأدلة يرونها دامغة، ويُدللون بها على وجهة نظرهم.. وفي الأجزاء التالية سنعرض لأدلة هؤلاء وأولئك.. ولن نُرجح من جانبنا أي من وجهتي النظر.. وسنترك لكم صديقاتي وأصدقائي الحكم لترون أيهما أقرب إلى الصواب من وجهة نظر كل منكم..
“كليلة ودمنة” أصلها هندي..
نبدأ بالرأي الأول.. الذي يرى أن كتاب (كليلة ودمنة) أصله هندي، وهو الرأي الذي يسّتند إلى باب مقدمة الكتاب التي كتبها “علي بن الشاه الفارسي”، الواردة في نسّخة المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، 1937م.. فيروي قصة “بيدبا” الفيلسوف مع ملكه الهندي “دبشليم”..
وتقول القصة: إن “الإسكندر الأكبر” عندما غزا الهند عيَّن عليها ملكًا من أتباعه، وواصل السّير لاجتياح بلدان أخرى، لكن أهل الهند بمجرد أن غادرهم “الإسكندر”، خلعوا ذلك الحاكم الأجنبي، واختاروا “دبشليم” ملكًا عليهم، لكن “دبشليم” غير سياسته بعد فترة قصيرة، وتحول من ملك عادل إلى طاغية، مما دفع الفيلسوف “بيدبا” إلى تقديم النصح للملك، وبعد أن استمع الملك إلى كلام “بيدبا” غضب وأمر بقتله وصلبه، ثم خفف الحكم واكتفى بحبسه.. وبعد فترة أمر بإخراجه من السجن، وطلب منه إعادة كلامه عليه، فقام “بيدبا” بذلك، وكان “دبشليم” يستمع متأثرًا، ووعده بأنه سيعمل بكلامه ثم أمر بفك قيوده…
هذا الأمر كان بداية وضع الكتاب، حيث طلب “بيدبا” من الملك “دبشليم” أن يُدوَّن الكتاب ويُحفظ، فأجابه الملك إلى طلبه… وهنا كُتبت النسّخة الهندية من كتاب (كليلة ودمنة)، الذي يضم حكايات أبطالها حيوانات وطيور مملكة الغابة، وهي حكايات تتسّم بالحكمة وترمي إلى تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مملكتهم..
وبالتأكيد سوف نعرض لهذه الحكايات بشكلٍ مختصر في الجزء الأخير من هذه السلسلة..
هل ألف “ابن المقفع” حكايات “كليلة ودمنة” ؟
هناك رأي آخر شكّك في أن أصل حكايات (كليلة ودمنة) يعود إلى النسّخة الهندية.. ورأى بأن أصل الكتاب عربي، ومما يسّتند إليه أصحاب هذا الرأي ـ الذي يقول بأن “ابن المقفع” هو من ألَّف كتاب (كليلة ودمنة) ـ أن النسّخة العربية هي النسّخة الوحيدة التي بقيت محفوظة بخلاف النسّختين الهندية والفارسية اللتين فُقدتا، حيث لم يُوّفق الباحثون منذ عصر “ابن المقفّع” حتى اليوم في العثور على نسّخةٍ واحدةٍ هنديةٍ من هذا الكتاب، ولا حتى على النسّخة الفارسية التي تُرجمت في ذلك الوقت إلى العربية، مما يُثير هنا بعض الأسئلة: هل ضاعت هذه النُسّخ الهندية والفارسية ؟.. وإذا كان “ابن المقفع” وجد نسّخة منها ألا يستطيع غيره أن يجد مثلها ؟
ويرى أصحاب هذا الرأي؛ أن قصة انتقال الكتاب من “الهند” إلى “فارس”، والقصص التي رويت على ألسنة الحيوانات، كل هذا من وضع “عبدالله بن المقفع” نفسه، ليُبعد التهمة عنه، كونه خاف على نفسه من الهلاك، فقد خاف على نفسه من القتل فكتبه على ألسنة الحيوانات واخترع قصة انتقال الحكايات من “الهند” إلى “فارس” ليُبعد التهمة عنه، فقد كانت الحياة السياسية والاجتماعية، كما رويت عن الحكيم الهندي “بيدبا” مع الملك “دبشليم”، مشابهة لما كان هو عليه الحال مع الخليفة “المنصور”، الذي كان يُعرف بقوة بأسه وشدته على من يُخالفه الرأي، فكان “ابن المقفع” بحاجة إلى تقديم النصح للحاكم (الخليفة المنصور) بشكلٍ غير مباشر.
ومن النسّخة العربية انتشر الكتاب إلى الأدب العالمي، فالنسّخة العربية هي النسّخة التي تُرجم عنها الكتاب إلى مختلف اللغات الأخرى..
وقد ذكر دكتور “عبدالوهاب عزام”، في مقدمته التي حقق خلالها كتاب (كليلة ودمنة) بشكلٍ تفصيلي، أن الكتاب: “تنافسّت الأمم ذات الآداب في الحصول عليه، وحرصت كل أمة أن تنقله إلى لغتها، فليس هناك لغة من لغات العالم إلا تُرجم إليها…. فقد تُرجم إلى: السُريانية الحديثة، واليونانية، والفارسية، والعبرية، واللاتينية، والإسبانية، والإنكليزية، والإيطالية، والتركية، والألمانية، والدانماركية، والهولندية. وطُبعت النسّخة الألمانية من الكتاب، التي تحمل عنوان (كتاب الأمثال) سنة 1483م، وهو ما جعل الكتاب واحدًا من أوائل الكتب التي تمت طباعتها بواسطة مطبعة (غوتنبرغ) بعد الكتاب المقدس”.
وفي حقيقة الأمر؛ من الصعب الانحياز إلى أي من الرأيين فيما يتعلق بأصل كتاب (كليلة ودمنة)، فنحن نعرض كلا الرأيين دون ترجّيح أي منهما على الآخر..
إلا أن ما يمكن أن نُرجّحه تمامًا؛ وبلا أدنى شك، هو أن مخاوف “عبدالله بن المقفع” من الهلاك على يد “المنصور” كانت مشّروعة تمامًا. ففي عام 142 هجرية أمر الخليفة العباسي؛ “أبو جعفر المنصور”، بقتله، وقد أُشيع أنه قُتل بسبب اتهامه بالزندقة، وهو اتهام باطل، ويمكن التدليل على بطلانه بكل سهولة، إنما قُتل لسبب يتعلق بأنه لم يأخذ حذره في مؤلف آخر له، ذلك الحذر الذي توخاه في كتاب (كليلة ودمنة)..
لكن قصة مقتل “ابن المقفع”، وأسباب مقتله قصة أخرى سنُتابع أحداثها وما أحاط بها من ملابسّات في الجزء المقبل..
“ظل الله على الأرض” يغتال “ابن المقفع”..
ولد “روزيه بن داذويه”؛ في العام السادس بعد المئة من الهجرة، وهو من بلاد “خوز” التي تُعرف بـ”خوزستان”، كما يُسّميها العرب “الأهواز”، يتحدث أهل “خوز” لغة خاصة بهم ليست سُريانيّة ولا عبرانيّة، إلى جانب اللغة الفارسيّة والعربيّة التي يتحدث بها عامتهم. درس الفارسية وتعلّم العربية في كتب الأدباء، ونشأ على المجوسية وكان له نشاط في نشر تعاليمها وترجمتها إلى العربية.
“روزيه بن داذويه”.. يُصبح “ابن المقفع”..
فيما بعد أعلن إسلامه؛ فتغّير اسمه وأصبح: “عبدالله بن المقفع”. وقد لُقب والده بـ”المقفع”، لأنّ “الحجّاج بن يوسف الثقفي”، في أيام ولايته بلاد “فارس”، كان قد ولى والده؛ “داذويه”، خِراج “فارس”، فأخذ بعض المال خِلسّة، فضربه “الحجاج” حتى تقفّعت يداه؛ (أي تورمتا واعوجت أصابعه ومن ثم شُلتا).
ترجم “ابن المقفع” عن الفارسيّة كتبًا من وضع “الهند واليونان” منها أدبيّ ومنها فلسفيّ مثل كتب المنطق، فيُعدّ من أوائل الذين ترجموا كتبًا في المنطق. وقد قيل: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من “الخليل بن أحمد”، ولا كان في العجم أذكى من “ابن المقفع”..
أما مؤلفات أو إبداعات “ابن المقفع”، فهي أربع رسائل أدبية، في موضوعات مختلفة، وهي: (الأدب الكبير)، وفيه كلام عن السلطان وعلاقته بالرعية وعلاقة الرعية به، و(الأدب الصغير)، حول تهذيب النفس وترويضها على الأعمال الصالحة، و(الدرة اليتيمة)، وأخيرًا (رسالة الصحابة)، التي أدت به إلى نهايته الحزينة البشعة.
“رسالة الصحابة”.. وغضب الخليفة.ز
في سنة 136هـ، بعد موت “السفاح”؛ (أول خلفاء الدولة العباسية)، بمرض الجُدري، بويع “أبو جعفر المنصور”، ليُصبح الخليفة الثاني في الدولة العباسية.. وقد حكم “أبو جعفر المنصور” لمدة تزيد عن عشرين عامًا، أرسى خلالها دعائم الدولة وكان يقول عن نفسه: “أنا ظل الله الممّدود في أرضه، إن شاء بسّطه فأعطي، وإن شاء قبض فأمسّك”.
كتب “ابن المقفع”؛ (رسالة الصحابة)، وبعث بها إلى “المنصور” يُذكره بأمور تتعلق بشؤون الدولة وسياستها، وهي تُشابه من بعض الوجوه التقارير التي يرفعها رجال الدولة اليوم إلى الملوك..
وقصد “ابن المقفع”: بـ”الصحابة”، حاشية الخليفة “أبي جعفر المنصور” وأعوانه ورجاله من قضاة، وقادة جُند، وجُباة، وعمال خِراج، وولاة أقاليم… يقول الأستاذ “سليمان فياض” في كتابه (الوجه الآخر للخلافة الإسلامية): إن “ابن المقفع”: “خط رسالة الصحابة، وأعطاها للورّاقين، وبعث بها للخليفة أبي جعفر المنصور، كرسالة من ناصحٍ أمين، لا يُريد سوى الإصلاح ما استطاع”… وقد وضع “ابن المقفع” في (رسالة الصحابة)، يده على أمراض المجتمع العباسي الرئيسة، وأولها مرض السلطة الذي أصاب الخلفاء، ومرض الفساد الذي أصاب رجال البلاط، والجُند، والولاة، ومرض اضطراب أحكام القضاة لاختلاف معتقداتهم ومذاهبهم الدينية، وعدم وجود قوانین حاكمة فيما استجد من أمور على المجتمع الإسلامي.. وبالتأكيد، فإن ما أقدم عليه “ابن المقفع” من تعّرية لأمراض الحكم والحاكم والحاشية، لم يعجب “المنصور”، وقد أثار غضبه، وهو الذي يقول عن نفسه: “أنا ظل الله على الأرض”.
نهاية درامية حزينة..
مات “عبدالله بن المقفع” شابًا؛ فعندما وصلت (رسالة الصحابة)، التي كتبها إلى “أبي جعفر” وقرأها، استشاط غضبًا وصاح: “أما أحد يكفينيه” (يخلصني منه).. فتلقف حاكم البصرة “سفيان بن معاوية”، الخيط وقال: “أنا له يا أمير المؤمنين”…
فلما قبض “سفيان” على “ابن المقفع”؛ قال له: “والله لأقطعنك إربًا إربًا وعينك تنظر” !.. ثم أمر أن يأتوه بقِدرٍ كبير به زيت يغلي، وأمر بقطع يد “ابن المقفع”، ثم ألقي بها في القِدر، و”ابن المقفع” ينظر، وظل هكذا يُقطع جزءًا جزءًا من أعضاء “ابن المقفع” ويُلقى به في الزيت المغلي، حتى أتى على جميع جسده..
وكان يبلغ من العمر آنذاك: 36 سنة، وكان ذلك في عام 142هـ 759م..
وبعد مقتله على يد “سفيان” حاكم البصرة، بأمر من “أبي جعفر المنصور”، أشاعوا بين الناس أن “ابن المقفع” كان زنديقًا… اتهموه بالزندقة للتغطية، ولكن ليس في آثار “ابن المقفع” ما يدل على زندقته، ولم يكن هنالك دليل مادي يوجه اتهامات إليه لإثبات زندقته وتبرير قتله، فالزندقة ليست السبب الحقيقي لمقتله وإنما كانت للتغطية.
فإذا ما طالعنا مؤلفات “ابن المقفع” التي أنتجها خلال عمره القصير، لن نجد أي اثر يمكن أن يُشّير من قريب أو بعيد إلى صحة هذا الاتهام: “الزندقة”..
هذا الاتهام المعلب سابق التجهيز نال معظم ـ إن لم يكن كل ـ مفكر لا تكون أفكاره وطرحه السياسي أو اجتهاده، على هوى الحاكم، أو من يروج لطاعته…
والى الملتقى مع الجزء التالي من هذه السلسلة نعرض فيه لكتاب (كيلة ودمنة)..