24 نوفمبر، 2024 4:23 ص
Search
Close this search box.

حقول الدم: الدين وتاريخ العنف

حقول الدم: الدين وتاريخ العنف

عرض: محمد أحمد مجاهد
كشفت كارين أرمسترونج – عالمة الأديان البريطانية – في مقدمة هذا الكتاب أن أحد أهدافها لتأليفه هو مقاومة الرؤية المشوهة للإسلام في أوربا والتي سادت منذ بداية القرن العشرين، والهدف الثاني هو محاولة إعادة النظر في الفكرة الرائجة في الغرب بأن الدين هو منبع الحروب والدمار الذي طال الجنس البشري على مر، وعبر رحلة زمنية طويلة بدأتها أرمسترونج من عصور ما قبل التاريخ، مرورا بالحضارات القديمة، وحضارات الأديان الإبراهيمية، وصولا إلى العصور الحديثة، قامت المؤلفة بالكشف عن الدوافع المركبة التي أنتجت العنف في الحضارات ما قبل الحديثة، وأبانت عن الكيفية التي استخدمت بها الدول الدينَ كدرع واق للمحافظة على وجودها، ولصبغ حروبها وعنفها تجاه أعدائها بالقدسية، مع محاولة إخفاء دوافعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي كانت السبب الرئيس في العنف والدمار.

أفردت المؤلفة الجزء الأكبر لمناقشة قضايا العنف في الديانات الإبراهيمية: اليهودية، المسيحية، والإسلام، لانتشار قناعة واسعة الانتشار مفادها أن الديانات التوحيدية المؤمنة بإله واحد، هي بشكل خاص عرضة لأن تكون عنيفة وغير متسامحة، وفي القسم الأخير من هذا الكتاب استعرضت المؤلفة بواكير ظهور الحداثة، ونشوء الدولة العلمانية وعنفها وإقصائها للدين، وصولا لموجة العنف التي بررت نفسها بطريقة دينية، والتي اندلعت في نهاية القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها في عملية 11 سبتمبر 2001، ولقد اعتبرت المؤلفة أن هذا العنف هو ابن الحداثة، والدولة العلمانية التي أقصت الدين، واستخدمت العنف تجاه كل من تسول له نفسه المساس بدين الدولة العلمانية الجديد وهو” دين الأمة القومية”.

البدايات:

من ملحمة جلجامش على أرض سومر القديمة، تبدأ كارين ارمسترونغ رحلتها التي تتنقل خلالها عبر أزمنة التاريخ المختلفة لإثبات صحة أطروحتها. قامت الحضارة السومرية على تراتبية طبقية ظالمة حيث اعتلى السلم الاجتماعي الطبقة الأرستقراطية الحاكمة، وتلتها طبقة المزارعين المقهورين الذين قامت على أكتافهم إنجازات تلك الحضارة.

لجأت الطبقة الأرستقراطية الحاكمة إلى “الدين” لشرعنة ظلمها واستمرار ولاء هؤلاء المزارعين في بناء الحضارة وتحمل يد هذه الطبقة الحاكمة الظالمة وتحقيق الثراء والرفاه لها بدون تذمّر ولا شكوى.

ادعى السومريون بأن مجتمعهم الطبقي الجديد ما هو إلا استمرار لنظام ساد لفترة سحيقة من الزمن قبل وجود الأنسان حيث كانت الآلهة هي التي تزرع وتطعم نفسها وتدير أنظمة الري، وقد انسحبت هذه الآلهة إلى السماء وعينّوا الأرستقراطيين السومريين ليحكموا المدن نيابة عنهم، فاستجاب الأرستقراطيون لطلب آلهتهم المقدسة، ولم يكن للطبقة الحاكمة رأي أو خيار في هذا الأمر. فهكذا ارتبط كل شخص داخل المدينة -بغض النظر عن وضاعة المهمة التي يقوم بها -بخدمة المقدس. هكذا استطاعت الطبقة السياسية الحاكمة في تطويع الأساطير الدينية لشرعنة ظلمها وعنفها تجاه الطبقات الأدنى لاستمرار عملهم في تحقيق الثراء والرفاه لهم.

اكتسبت الحرب في الهند وظيفة دينية بالإضافة إلى وظيفتها السياسية، فنجد أن الأساطير الدينية في الهند نسجت حول تمجيد الغزو الحملات العسكرية وإكسابهما صفة القدسية، وقد مجدت تلك الأساطير أعمال السرقة والنهب، فوجد الأرستقراطي الطريق مشرعا أمامه للسلب والنهب ومصادرة البضائع.

وكان الكهنة والحكماء يستخدمون الأساطير وخطب الحروب لتحطيم روح المحاربين وضمان ولائهم للطبقة الحاكمة واستمرار العزو لتحقيق طموحات تلك الطبقة.

وفقد أفردت المؤلفة فصلا عن المعضلة العبرانية حيث أجبر أنبياء بني إسرائيل الحكام على تحمّل مسؤولية المعاناة التي يتسببون بها للفقراء ووبّخوهم على جرائم الحرب التي ارتكبوها. وعاش الكهنة الكتبة للكتاب المقدس العبراني في مجتمع عنيف، ولم يكن بإمكانهم أن ينبذوا الحرب تماما، ولكنهم اعتقدوا بان المحاربين ملوّثون ومنّسون بالعنف الذي ارتكبوه، حتى لو كانت حروبهم مؤيدة من الله، ولهذا لم يُسمح لداوود ببنا هيكل يهوه.

المسيحية؛ السلام، التمكين، والعنف:

وفي هذا الفصل تغطي الكاتبة ظهور المسيحية من ولادة عيسى إلى أنا صارت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية على يد قسطنطين.

كانت السياسة والدين، في رسالة عيسى، أمرين لا يمكن الفصل بينهما، بيد أنه تظهر من تعاليمه لأتباعه أنه لم يرد سلوك طريق العنف للتمكين لرسالته، فقد حرّم على أتباعه أن يجرحوا أو يؤذوا الآخرين وحرّم عليهم الانتقام العدوني.

وحرص بولس بعد ذلك أن يعظ الذين ءامنوا بدعوته، والذين فارقوا المجتمع الوثني الروماني بإيمانهم التوحيدي الجديد أن يلتزموا باللباس السائد في مدنهم وأن يتعاملوا بلياقة وانضباط، وأن يطيعوا ويحترموا السلطات الرومانية، ودفع الضرائب لها، وعلى الرغم من تلك التعاليم فلم تنسجم المسيحية المبكرة مع المدن والمجتمعات اليونانية-الرومانية[1].

لم تشفع تلك التعاليم للمسيحين من وقوعهم تحت وطأة ظلم الدولة الرومانية وعنفها، فلم يكن المسيحيون محبوبون شعبيا، وفي أوقات التوتر والاضطراب كانوا هم كبش الفداء المنتظر، وعندما شبّ حريق روما الشهير في عهد نيرون اتهم المسيحين بإضرامه وقام بقتل كثير منهم.

جذبت تعاليم المسيحة التي تدعو للمساوة وتهتم بالعمل الخيري وخدمة الناس الكثير من أفراد الطبقات الدنيا والعبيد، وظلت المسيحية تتغلغل في طبقات المجتمع الروماني حتى أصبح لها سطوة وقوة بين الناس وكلما شعرت السلطة الرومانية الخطر المحدق بها وبمؤسساتها بحثت عن المسيحين وسامتهم سوء العذاب بالقتل والتشريد[2].

وفي عهد دقلديانوس عانى المسيحيون من عنف الدولة وقسوتها حيث تم قتل كل من أبى تقديم قرابين للآلهة الرومانية، وقتل أعداد كبيرة من المسيحين طواعية. وقد اتخذ المسيحيون من “الاستشهاد” وسيلة للاحتجاج على عنف الدولة وتصوير وحشيتها وقسوتها، وبدؤوا بتطوير تاريخ من المظلومية لشيطنة الحكم الروماني ومنح إيمانهم قوة دافعة جديدة.

وبعد أن اعتلى قسطنطين عرش الإمبراطورية الرومانية، وتحوّله إلى المسيحية، أصبحت المسيحية دينا معترفا به في القانون الروماني، وبعد أن تحوّل قسطنطين بمركز حكمه إلى الشرق، وتمازجت رغبته بتحقيق حكم عالمي مع رغبة المسيحية بأن تكون دينا عالميا؛ جعل المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية.

تبع ذلك فترة من رغد العيش عاشها المسيحيون في كنف قسطنطين، رجع ظلم الدولة بقسوة ووحشية على يد جوليان الذي اضطهد الذي المسيحيين وقتل أعدادا كثيرة منهم، وعزّز الشعائر الوثنية لمجابهة المسيحية، ردّ المسيحيون في هذه المرة على عنف الدولة بتحطيم تماثيل آلهة الوثنيين، وتدمير المعابد الوثنية التي كانت ترمز إلى تدهور المسيحية وكانوا يرفعون صوتهم تحديا لطغيان جوليان.

” من الواضح أن المسيحية قد اكتسبت تدريجيا سمات الإمبراطورية، ولم تكتسب الإمبراطورية سمات المسيحية”[3]

وبعد الانقسامات اللاهوتية بين أريوس وأثناسيوس وعقد مجمع نيقيه، والتشوش والارتياب الناتج عن عدم فهم واقتناع المسيحيين بتلك العقيدة الجديدة، قد أعطى قسطنطين الأساقفة سلطات لممارسة القوة الإمبراطورية، والتي استخدموها في التنافس على تولي أبرشية أو أسقفية، وقد استخدموا القوة والانقلابات للوصول إلى أهدافهم.

وفي فترات لا حقة، وبمباركة بعد الأباطرة قام المسيحيون بأعمال التخريب والهدم للمعابد الوثنية، وتخريب معابد اليهود واضطهادهم أيضًا.

المعضلة الإسلامية

وفي هذا الفصل تستجلي وتبين كارين أرمسترونج عن رسالة القرآن التي جاء بها، والتي تعادي وتنبذ في حقيقتها الظلم والعنف، وأن هذه الرؤية الغربية التي تلصق بالإسلام كل عمليات العنف والإرهاب التي تحدث في جنبات العالم هي محض كذب وافتراء على رسالة الإسلام.

في صحراء قاحلة، وبدو قساة رحّل، وقبائل لا تعرف قانونا غير السيف والسطو، وحروب قبلية ما تفتأ تنتهي حتى تبدأ من جديد، نشأ محمد في مكة التي طفحت بالظلم والجور وغياب العدل، جاء محمد برسالة واضحة تعمل على تشكيل المجتمع العادل الذي يتحدى العنف البنيوي الذي ظهر في مكة[4]: فقد كان القرآن يخبر العرب أنّ من الخطأ مراكمة الثروات الفردية، وأنّ من الخير مشاركة المال مع الفقراء والضعفاء، والذين يجب أن يُعاملوا بالمساواة والاحترام. أقام المسلمون ” أمة”، أي: مجتمعًا يقدّم بديلًا عن الطمع والظلم البنيوي للرأسمالية المكية.

قامت قريش بإيذاء المسلمين واضطهادهم ونبذهم اجتماعيا واقتصاديا لرفضهم الصريح للألهة المحلية، والتي ستضر تجارة قريش حيث تأتي القبائل كل عام لزيارة أصنامها التي وضعت حول الكعبة.

ونتيجة لهذا العنف هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة لتأسس “دولة” أولية من المهاجرين والأنصار، ولكنها على الفور، وعلى الرغم من أيديولوجيا ” الحلم” لم يكن أمامها خيار سوى الحرب لمجابهة عنف قريش وقسوتها. فبدأت مرحلة إرسال السرايا والبعوث، وخروج النبي في الغزوات[5].

ففي بعض الأحيان كان الله يطلب من المؤمنين الصبر وضبط النفس بدلا من القتال؛ وفي أحيان كان يأذن لهم بالحرب الدفاعية ويدين العدوان؛ ولكن في أحيان أخرى كان يطلب منهم القتال الهجومي وفق شروط محددة.

وبعد وفاة النبي، قاتل أبوبكر القبائل المرتدة، والذي استعاد السلام الإسلامي خلال عامين.

تنزع آرمسترونغ إلى تفسير التوسع الخارجي في عهد عمر بن الخطاب إلى حاجة القبائل إلى موارد اقتصادية لتعويض فقر الجزيرة، وتزعزع اقتصادها، ولم تستطيع تفسير نجاح الحملات العسكرية العربية التي أفضت في سنوات قليلة إلى بسط نفوذ الإسلام على العراق وسوريا وفلسطين ومصر، وأشادت آرمسترونج بطريقة تعامل المسلمين مع الرعايا الجدد الذي لم يفرضوا عليهم الدخول في الإسلام قسرا، وقد وجد أهل الذمة [6]في حكم المسلمين نوعا من الراحة بعد قرون من تسلط الإمبراطورية الرومانية ومحاولة فرض الإجماع الكنسي على السكان.

انفصل معسكر من أحداث الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية عرفوا لا حقًا ب “الخوارج”، كفّر هذا المعسكر كلا الطرفين، ولم يرضوا بتنازل علي لمعاوية، وفي النهاية اغتيل علي من قبل أحد الخوارج.

طبعت هذه الفتنة الحياة الإسلامية إلى الأبد، فقد طوّع الخوارج أحاديث القتال لفهمهم الخاص لسبغ معاركهم وإراقة الدماء بسبغة دينية، وأنزالها تحت لواء الجهاد. وبعد وفاة علي تمثّل الصراع السني/ الشيعي في تنازل الحسن بن علي عن حقه لخلافة المسلمين لمعاوية حقناً لدماء المسلمين.

تؤرخ أرمسترونج لما وسمته بـ “المعضلة الإسلامية ” منذ نقل معاوية عاصمة الخلافة من المدينة إلى دمشق، وتأسيس حكمًا وراثيا[7].

وبعد توريث معاوية الخلافة لابنه يزيد، ثار الشيعة احتجاجا على هذا الأمر، ومطالبتهم بتولية الحسين بن علي الأحق بالخلافة، ولكن يزيد سحق هذه الثورة بقسوة في كربلاء، وانتهت بمقتل الحسين بن علي. “رثى كل المسلمين مقتل سبط النبي، ولكن بالنسبة إلى الشيعة، فإن كربلاء كانت تلخص المعضلة الإسلامية: كيف يمكن للعدالة الإسلامية أن تطبّق واقعيًا في ظلّ دولة إمبراطورية تسلّطية؟

ورث العباسيون الأمويين بعد مقتل آخر خلفائهم مروان بن محمد، وارتكز الخطاب العباسي على أحقيته في الخلافة بناء على نسبهم المتصل بالعباس عمّ النبي، واعتمدوا على الفرس باعتبارهم يد الدولة الباطشة. ولكن على الرغم من اعتماد دعوتهم على الخطاب الشيعي؛ فقد نكلوا بالشيعة فور وصولهم للسلطة.

اعتبرت أرمسترونج أن الشريعة قدمت بديلًا مبدئيًا لحكم الأرستقراطية في المجتمع، ذلك بأنها رفضت قبول النظام الطبقي الوراثي. وبالتالي كانت الشريعة تستبطن بعدًا ثوريًا؛ حيث شارك اثنان من أئمة المذاهب الفقهية- مالك بن أنس والشافعي في ثورات الشيعة “الطالبيين” ضدّ العباسيين. وعرضت بعد ذلك رؤية الشافعي الفقهية للجهاد.

وبقي الشيعة يدينون العنف البنيوي للنظام للحكم العباسي إلى أن جاء جعفر الصادق الذي رفض الصراع المسلح الذي لم يجلب للثوار سوى القمع والقتل من قبل العباسيين، وقرر الانعزال عن التيار الأساس في الأمة[8]، والذي يعتبر نوعا من المعارضة الصامتة للظلم العباسي.

كان جعفر الصادق، بالنسبة إلى الشيعة، هو الأحق بقيادة الأمة، ولكن وظيفته الآن ستقتصر على القيادة الروحية. ويهذا كان جعفر الصادق، في الواقع، قد فصل بين الدين والسياسة. وستبقى هذه العلمانية المقدسة هي النموذج المهيمن على الشيعة حتى نهايات القرن العشرين.

الحروب الصليبية والجهاد:

استعرضت المؤلفة في بداية هذا الفصل، حقيقة الصراع الإمبراطوري البابوي وأثره في الدعوة للحروب الصليبية، فقد طفق الباباوات يؤكدون على حرية الكنيسة من القوة الصاعدة للحكام غير الدينين، وفي النهاية أدرك الباباوات أن الكنيسة لا يمكن أن تحافظ على وجودها دون ملك قوي، فقام الباب ليو الثالث بتتويج شارلمان كإمبراطور روماني مقدس، وذلك على إثر توسعاته العسكرية، وموارده الاقتصادية الثرية.

ثم عرّجت بالحديث عن نشأة نظام الرهبنة، والأنظمة الاجتماعية في العالم المسيحي الغربي، فنجد أن الفرسان تقوم حياتهم على الحروب حتى إذا عمّ السلام فترة قاموا بالاستيلاء على ممتلكات الغير فأجج هذا نار العنف والقسوة في باطن المجتمع، وكذلك النظام الإقطاعي الذي عسف بحقوق الفلاحين، وأثار احتجاجات وثورات على نطاق واسع.

كانت الحملات الصليبية مندفعة بعوامل اجتماعية واقتصادية بالإضافة إلى الحمية الدينية، فكان ظاهر دعوة الباب أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى في مجمع كليرمون بفرنسا تخليص المسيحين الشرقيين من اضطهاد المسلمين وظلمهم، وتحرر الأرض المقدسة من أيديهم، وباطنها زيادة النفوذ الكنسي، وتوجيه سيوف الفرسان والنبلاء إلى أرض بعيدة لتحقيق الثروة والتوّسع والشهرة والمكانة[9].

تمايز أرمسترونج بين أخلاق السلام المسيحية الحقة، والحرب المقدسة والأيدولوجية التي ألهمتها والتي أدت إلى هذه المذابح التي قام بها الصليبيون في حق المسلمين، إلى أن دخلوا القدس وأقاموا مجزرة دموية قتل فيها الرجال والنساء والأطفال، لدرجة أنهم لم يعرفوا ماذا يفعلون بالجثث!

تنتقل المؤلفة بعد ذلك للحديث عن استجابة المسلمين الضعيفة لهجوم الصليبين على ديار المسلمين، حيث أرجعت ذلك لتحول الصوفية من هامش المجتمع الإسلامي إلى حركة مهيمنة في جميع أجزائه، تبنت الصوفية في ذلك الوقت أشكالا جديدة من الروحانية بعيدة عن تقاليد الإسلام كوجوب الدعوة إلى لجهاد في مثل هذا الموقف، فالتعاليم الصوفية، والتي تتضمن الموسيقى والرقص، قد ساعدتهم على التخلص من النظرة المتعالية للأديان الأخرى، وخاصة تعاليم ابن عربي، فلم يحركوا ساكنا.

انتفض بعض العلماء والزهاد لمجابهة الوجود الصليبي، فقاد ابن الخشاب قاضي حلب، وفدا من الصوفية، والأئمة، والتجار إلى بغداد، لإخراج جيش لمحاربتهم ولكنه لم يحرك ساكنا، واستجابت بعض القوات لدعوة الفقهاء وانتصروا على إمارة أنطاكية، ثم سكنت حركة الجهاد مدة إلى أن جاء عماد الدين زنكي والذي استرد إمارة الرها، ثم توالت الحملات الصليبية، ثم ورث نور الدين محمود حكم أبيه عماد الدين زنكي بعد مقتله، وقد نذر نفسه للجهاد ، وتوحيد الصفوف، ويعد أنجازه الأكبر إخضاع مصر الفاطمية على يد صلاح الدين، والي تمكن بعد ذلك من استعادة بيت المقدس من يد الصليبين، دون عنف وذبح كما فعل الصليبيون.

فسرت آرمسترونج الموقف المتمايز في تعامل المسلمين والصليبين كل منهم مع الآخر إلى ان الجهاد متضمن في المنظومة الروحانية الممثلة بالجهاد الأكبر، والحروب الصليبية تتجه أكثر فأكثر نحو المصالح السياسية والمادية وتهمّش الجانب الديني منها.

الحداثة والدين:

افتتحت المؤلفة هذا الفصل بالحديث عن انتصار فرناندو ملك أرغون وإيزابيلا ملكة قشتالة على غرناطة مملكة المسلمين في جنوب إسبانيا، هذا الانتصار الذي خفف ولو قليلا من مرارة سقوط الإمبراطورية البيزنطية على أيدي العثمانيين، وعلى الرغم من نشوة الأوربيين بهذا الانتصار الذي دفعهم إلى الاعتقاد بأن ثمة عصر توحيدي للعالم المسيحي قادم على يد فرناندو والذي سيتمكن من هزيمة العثمانيين ونشر المسيحية في أرجاء العالم؛ إلا أن أوربا في ذلك الوقت كانت ما تزال متخلفة عن العالم الإسلامي­( العثمانيون ، والصفويون في إيران، والمغول في الهند).

بدأت أوربا محاولاتها الأولى للسيطرة على العالم بإرسال الكشوف الجغرافية، وتمكن كولومبوس من اكتشاف الامريكيتين، وذهب المستعمرون الإسبان والبرتغاليون لتقسيم ونهب ثروات تلك البلاد، عامل المستعمرون سكان تالك البلاد بقسوة ووحشية، وكانوا يقتلون السكان الأصليين ويستولون على الأراضي والغنائم والعبيد، وكانوا يدّعون غالبا بأنهم يقاتلون باسم المسيحية.

انتقلت المؤلفة مرة أخرى إلى أسبانيا للحديث عن محاكم التفتيش[10]، هذه السياسة العنيفة والعنصرية والتي تلّخص ما بات ينظر إليه على أنه عنف متعصّب في طبيعة الدين.

مع بداية القرن السادس عشر ازدادت وتيرة عجلة التحديث، فبعد الكشوف الجغرافية امتلك الأوربيون الثقة للتطلّع للمستقبل، فتوالت الابتكارات والاختراعات في المجالات المختلفة، وفي القرن التالي وضع الهولنديون حجر الأساس للرأسمالية الغربية في الشركة المساهمة، وبدأت تتداعى البنى الزراعية القديمة أمام البنى الاقتصادية الناشئة والتي تتبنى سياسة اقتصاد السوق، ولم يكن للكنيسة أية سلطة على هذه المؤسسات.

استعرضت المؤلفة بعد ذلك ما يعرف بحركة الإصلاح الديني[11] فبدأت بمارتن لوثر الذي أطلق مسار حرجة الإصلاح حيث هاجم الكنيسة لبيعها صكوك الغفران واستغلال الإكليروس للبسطاء، ودعا للفصل بين الدولة والكنيسة، واعتبر أن الدولة والكنيسة يجب أن يعملا باستقلال عن بعضهما البعض وأن يحترم كلّ منهما المجال المخصص للآخر، وهاجمته الكنيسة واعتبرته من الهراطقة، ولكن رجال الدين الشبان حملوا أفكاره ونشروها في كتبهم والتي انتشرت بسرعة كبيرة في عامة الناس بفضل تقنية الطباعة.

كان لوثر يشجع المسيحي على الانسحاب إلى عالم الاستقامة الجوّاني وترك المجتمع يذهب إلى الجحيم، وفي المقابل كان يقدّم تأييدا خطيرا لسلطة الدولة المطلقة، وظهر ذلك في استجابته لحرب الفلاحين في ألمانيا حيث ثار الفلاحون للمطالبة بحقوقهم التقليدية وانتزاعها من أيدي الأمراء، أيد لوثر قمع الدولة لهؤلاء الفلاحين حيث قتل ما يقرب من مائة ألف فلاح، وكان عليهم أن يطيعوا أوامر الإنجيل ويديروا خدّهم الآخر لمن يضربهم، فنصيبهم المقدّر هو الشقاء، ولم يكن من حقهم خلط الدين بالسياسة.

أدى انتشار الكتاب المقدس في أيدي الناس وقراءته بأنفسهم إلى اكتشاف التناقضات بين تعاليم الإنجيل وممارسات الإكليروس، وتكونت حركة تجديدية العماد التي تدعو إلى القراءة الحرفية للكتاب المقدس والتي أدت إلى إدانة الكثير من المؤسسات القديمة وطابت بالسماح بتعدد الزوجات ومنع حق الامتلاك، واتفق الكاثوليك والبروتستانت أن هذه الحركة تمثل تهديدا سياسيا، وقاموا بقتلهم في العام التالي.

“اثرت كارثة مونستر وحرب الفلاحين في الطريقة التي تعامل بها الملوك لا حقا مع المنشقين دينيا. في أوروبا الغربية، لم تكن “الهرطقة” مسألة لاهوتية تماما بقدر ما كانت سياسية، وقد قمعت الحركات “الهرطوقية” لأنها تمثل تهديدا للنظام الاجتماعي، وقد أنتجت حركة الإصلاح مأساة حقيقية حيث أعدم الآلاف قضائيا بتهمة الهرطقة.

تحدثت أرمسترونج عن الحروب الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت والتي لم تعتبرها حروبًا دينية بالمعنى الحديث، حيث لو كانت كذلك لما أمكننا أن نرى الكاثوليك والبروتستانت في الصف نفسه، ولكنهم فعلوا ذلك أحيانا، وكانوا بالتالي يحاربون أتباع مذهب في الجانب الآخر.

واعتبرت الحروب الدينية الفرنسية (1562-1598) لا تعدو سوى صراعا سياسيا بين فصائل الأرستقراطيين، وامتزجت بها العناصر السياسية والاجتماعية، ولم يكن الدين فيها سوى واجهة العلماني الدنيوي الخالص للملوك والنبلاء[12]، ثم تلتها حرب الثلاثين عاما والتي راح ضحيتها أكثر ثلث سكان القارة، والتي امتزجت فيها الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكانت العاطفة الدينية حاضرة في هذه الحرب حيث لم يكن الدين بعيدا عن شؤون الناس العامة في ذلك الوقت، فم يكن الصراع كاثوليكيا بروتستانتيا خالصاـ. وانتهت هذه الحرب باتفاقيات الصلح (صلح وستفاليا 1648م)، والذي اعتبر البيان التأسيسي لنشوء الدول القومية الحديثة.

انتصار العلماني:

تستعرض أرمسترونج في بداية هذا الفصل وصول المستوطنين البريطانيين إلى أمريكا الشمالية، وسياستهم الاستئصالية للسكان الأصليين[13]، مبررين عنفهم وفق قراءة انتقائية للكتاب المقدس، خفتت الحمية الدينية في قلوب المستوطنيين مع طول أمد الحروب والمعارك مع الهنود الحمر وظنوا ان الله عاقبهم بالهنود الجمر لتنكبهم عن طريق الله!، فقامت بعض الصحوات الدينية الجماهيرية التي دعت إلى الانكباب على الكتاب المقدس وضرورة الرجوع إلى طريق الله مرة أخرى، واعتبر أرمسترونج أن الصحوة الكبرى أظهرت أن الدين، بدلا من أن يكون عقبة في طريق الديمقراطية، يمكن أن يكون قوة إيجابية إلى التحديث.

نشبت ثورة جماهيرية عارمة عندما أرادت بريطانيا فرض الضرائب على المستعمرات الأمريكية لتمويل حربها ضد فرنسا، اعتبرت هذه الثورة حدثا علمانيا، وصراعا براغماتيا وعقلانيا ضد قوة إمبراطورية، وتم إعلان الاستقلال، وإقراره في الكونجرس، اعتمدت وثيقة الإعلان على مبادئ نظرية لوك في حقوق الإنسان – في الحياة، والحرية، والتملك، وعلى مبادئ التنوير في الحرية والمساواة.

فور صدور إعلان الاستقلال شرعت الولايات في كتابة دساتيرها، أقيمت الدساتير على مبادئ العلمانية حيث فصلت الدين عن الحيز العام، ظن الآباء المؤسسون أن المزج بين الكنيسة والدولة سيفضي إلى جعل البشر سذجا وكادحين. علقت آرمسترونج على هذا التصور قائلة: ما يزال علينا أن ننتظر لنرى إن كانت الولايات المتحدة الأمريكية العلمانية أقل عنفاً وإكراها مما كانت عليه الدينية السابقة.

أثقلت الدولة العلمانية الناشئة كاهل المواطنين بالضرائب ولم تلبي احتياجاتهم الأساسية، نشبت صحوة جديدة تدعو للمزيد من الديمقراطية والمناداة بأن أمريكا تقوم على مبادئ الكتاب المقدس، ولكن كانت الدولة العلمانية تسير بخطى ثابتة في اتجاه ترسيخ قيمها، وإنشاء دين جديد للدولة هو” دين الأمة القومية “[14] واستبداله مكان “المقدس”.

اعتبرت الكاتبة أن الاستعمار البريطاني للهند أحد أشكال العنف البنيوي للدولة القومية العلمانية، حيث أنهت بريطانيا حكم المغول المسلمين للهند، وبعد أن عاش المسلمون والسيخ والهندوس في المجتمع الهندي لفترات طويلة بلا صراعات، قام البريطانيون بتقسيم السكان إلى مجموعات مغلقة وثابتة، في مجتمعات للهندوس، والمسلمين، والسيخ، والمسيحيين، ومن المثير للغرابة والسخرية، أن يلجأ البريطانيون، الذين أقصوا” الدين” عن الحيز العام وحصروه في البيوت، إلى تصنيف شبه القارة الهندية بهذه المصطلحات الدينية الضيقة[15].

أضحت كل طائفة تشعر بانفصالها هوياتيا عن بنية المجتمع وتحاول التقرب من البريطانيين، ولقد دفع الاستعمار بمواقفه وسياسته في الهند إلى تفتت المجتمع ونشوب الحرب والنزاع بين طوائفه.

لقد أقصت الدول العلمانية الدين من الحيز العام، وتم الفصل بين الكنيسة والدولة لاعتقادهم ان هذه العلاقة كانت السبب الرئيس لظهور الدول الدينية والتي أذاقت الشعوب ويلات الحروب والعنف والدمار. لم تلبس الدول العلمانية الناشئة أن صنعت لنفسها دينًا جديدًا، دينًا يحل محل المقدس الذي يمثل قيمة عليا للإنسان ترخص روحه في الدفاع عنه؛ ألا وهو “دين الأمة القومية”، دفعت الدول القومية العلمانية شعوبها عبر تأجيج المشاعر القومية إلى حروب طاحنة، وكان أشدها فتكا وتدميرا الحرب العالمية الأولى، والتي أنذرت بقرن من المذابح والدمار التي قادته الدولة العلمانية القومية وليس الدين.

الدين يقاوم:

ترصد المؤلفة في هذا الفصل محاولات عديدة لمقاومة إقصاء الدولة الحديثة للحيز الخاص، فقد رغب البشر في أن يؤدي الدين دورا أكبر في الحياة العامة، ولقد أطلق على هذا النمط من التدين؛ “الأصولية”، ولا يحظى هذا المصطلح بسمعة جيدة في الغرب حيث يتم ربطه دائما بالعنف والإرهاب، ولكن الأصولية سواء كانت يهودية أم مسيحية أم إسلامية، ليست ظاهرة عنيفة في حدّ ذاتها[16]، قامت نسبة ضئيلة جدا فقط من الأصوليين بارتكاب أعمال إرهابية؛ فكان معظمهم ببساطة يسعون إلى عيش حياة دينية في عالم يبدو معاديًا للدين بشكل يتزايد.

تمايز أرمسترونج بين أنواع الأصوليات المختلفة ومسارات لجوئها للعنف المادي، فنجد أن الأصولية الأمريكية والتي كانت ردة فعل للحروب والدمار الذي نتج عن الحرب العالمية الأولى قد استخدمت مسارات الديمقراطية في التعبير عن آرائها واحتجاجها والتي ترسخت في المجتمع منذ ولادة الحداثة، وترجع تحوّل الأصوليون المسلمون- أحيانا- إلى العنف المادي، إلى الدخول المفاجئ والفج للحداثة إلى عالمهم عبر الاستعمار ومشاريع التحديث القسرية، وليس بسبب أن الإسلام بطبيعته الدستورية ميال للعنف أكثر من المسيحية البروتستانتية.

لم يترك الاستعمار البريطاني شبه القارة الهندية حتى فتت نسيجها وأضرم نار العداوة بين المسلمين والهندوس، وقام بتقسيمها إلى الهند الهندوسية وباكستان المسلمة في عام 1947م، ولكن أقيمت كلتا الدولتين على أساس علماني باسم الدين. كان محمد علي جناح مؤسس باكستان علمانيا، ولم يلبي هو وخلفائه تطلعات الجماعة الإسلامية لتطبيق الشريعة، وقامت السلطة في باكستان بقمع كل معارضة سياسية فانجرت الجماعة الإسلامية إلى العنف، ودخلت باكستان في دوامة من الانقلابات العسكرية المسلحة.

لقد مرت الحداثة الغربية في مسارات زمنية طويلة حتى حققت للأماكن التي احتضنتها الاستقلال السياسي والابتكارات التقنية، ولكن في الشرق الأوسط، جاءت الحداثة بالإخضاع الاستعماري، ولم تقدم سوى القليل على التحفيز والابتكار، فمع التقدم الكبير للغرب، لم يعد أمام المسلمين سوى التقليد. حصل المسلمون في الشرق الأوسط على استقلالهم السياسي، بعد تفكيك الاوربيون إمبراطورتيهم الاستعمارية، ولكنهم تركوا المنطقة للطبقات الحاكمة ذلتها في مرحلة ما قبل الاستعمار والتي كانت عاجزة عن التحديث، وفي معظم الدلول حصلت انقلابات عسكرية من قبل ضباط إصلاحيين تلقوا تعليمهم على الطراز الغربي، أراد هؤلاء الضباط إسراع عجل التحديث، وفرض العلمنة قسرًا على شعوبهم، ولكنهم لم يستوعبوا أنهم كانوا يحكمون أمما متدينة، ترى في الإسلام العلماني مصطلحا متناقضا داخليا، فقاموا بمهاجمة المؤسسات الدينية، وقمع كل من تخول له نفسه معارضة علمنة الدولة، وكانوا أكثر عنفا من العلمانية الغربية نفسها.

ذكرت أرمسترونج أمثلة على العنف الذي مارسه حكام دول ما بعد الاستعمار، في طريق سعيهم الحثيث في إسراع عجلة وفرضها قسرًا على شعوبهم، وقمع الحركات الدينية المعارضة، فرضا خان في إيران عزم على بناء هوية الدولة على الثقافة الفارسية القديمة بدلا من الإسلام، فمنع الإيرانيين من الذهاب للحج، وقلص دور المحاكم الشرعية، وأصدر قانون اللباس الموحد، فكان الجنود ينزعون الحجاب من على رؤوس النساء في الشوارع ويمزقونه، وعندما يجمهر بعض المتظاهرين السلميين اعتراضا ضد قانون اللباس الموحد، قامت الشرطة بإطلاق النار عليهم وقتل المئات، وفي مصر قام جمال عبدالناصر بقمع جماعة الإخوان المسلمين، وزج بالآلاف منهم في السجن، وأعدم الكثيرين أيضا، وقام بتقليص دور المؤسسات الدينية بضمها إلى مؤسسات الدولة.

في الغرب نشأت القومية العلمانية لكبح العنف الديني؛ ولكن القومية العلمانية كانت بالنسبة إلى آلاف الناس في الشرق الأوسط قوة دموية مدمّر حرمتهم من الدعم الروحي الذي لطالما كان سندهم الرئيس.

ومن المفارقات أنه عدما قامت الثورة الإسلامية في إيران، أمر الشاه بإطلاق النار على المتظاهرين وقتل ما يقرب من 900 شخص، وفي مساء اليوم ذاته اتصل كارتر بالشاه ليؤكد دعمه لع ودعم البيت الأبيض، متأسفا في على الخسائر في الأرواح، ومن الواضح أن قيم الحرية والاستقلال التي ناضل من أجلها الثوار الأمريكيون لم تكن لجميع البشر!

ولقد اعتبر الخميني بأن الثورة كانت تمردا على البراغماتية العقلانية للعالم الحديث.

الإرهاب المقدس:

وفي بداية هذا الفصل تحدثت المؤلفة عن بعض أسوء الحوادث في التاريخ الحديث، والتي قامت بها الدول القومية العلمانية، ففقد ارتكب الألمان وهم يعيشون في أكثر المجتمعات تطورا في أوربا أحد أفظع الحوادث في التاريخ فتم قتل أعداد كبيرة من اليهود في حملات إبادة ممنهجة. وفي أغسطس 1945م، قتل أكثر من 160 ألف إنسان على الفور على إثر إلقاء أمريكا قنبلتان نوويتان على هيروشيما وناغازاكي، وقد أظهرت هذه الحادثة وبعد إقرار المجتمع الدولي بشرعية الضربة النووية في سبيل حماية الامة، أن الامة القومية إن أصبحت هي القيمة المطلقة (بالمصطلح الديني “وثن”)، فلن يكون هناك أي سبب مقنع كي نمتنع عن القضاء على كل من يمكن أن يشكل خطرًا أو تهديدا علينا.

اعترفت المؤلفة أن كلمة الإرهاب محاطة بحالة من التشوّش المفهومي[17[، فهي مفردة انفعالية ومشحونة عاطفيا، ومن أكثر الكلمات تعبيرا عن الإساءة في اللغة الإنكليزية، وترفض باستمرار الكشف عن دلالتها، فكلا طرفي الصراع يستخدمها في إلقاء اللوم على الآخر، ولكن يتفق الجميع على أن الإرهاب سياسي بطبيعته، وهناك إجماع علمي عام بأن بعض أشكال العنف الإرهابي الكبرى ضد المدنيين قد قامت بها الدول، وليس المجموعات المستقلة أو الأفراد.

انتقلت المؤلفة بعد ذلك لأولى حوادث الإرهاب الإسلامي وهي اغتيال الرئيس أنور السادات، على يد الجماعة الإسلامية، وفي لبنان قام انتحاريو حزب الله بقتل 241 أمريكيا 58 فرنسيا من قوات حفظ السلام ، ولم تكن هذه العمليات مستلهمة من الحمية الدينية وإنما من هدف سياسي واضح: إجبار المحتلين الأجانب على مغادرة لبنان.

كانت القومية أكثر فعالية بكثير من الدين في إنتاج الإرهاب، فإنكار حقوق الشعوب في تقرير مصيرها واحتلال أراضيها من قبل قوات أجنبية كانا من العوامل الأبرز تاريخيا لدفع البشر نحو التطوّع في المنظمات الإرهابية، سواء أكانت هذه المنظمات دينية أو علمانية[18].

وفي نهاية الفصل تطرّقت المؤلفة للحديث عن العمليات الانتحارية والتي يعتبرها المحللون الغربيون متجذّرة في التقاليد الإسلامية، ولكن الهجمات الانتحارية قد ابتكرت على يد نمور التاميل في سيريلانكا، وهي حركة انفصالية قومية لا علاقة لها بالدين، وذلك قبل العمليات الانتحارية الإسلامية.

الجهاد العالمي:

وفي الفصل الآخير من هذا الكتاب تناقش المؤلفة بعض حوادث الجهاد العالمي ودور الحداثة والدول العلمانية في نشوئها وتيسير سبلها، فقد دعمت الولايات المتحدة المجاهدين الذي تدفقوا إلى أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفياتي في ثمانيات القرن الماضي، فقدمت لهم التمويل، والتسليح والتدريب، وبعد أن أجبر السوفيات على الانسحاب من أفغانستان في فبراير 1989، ، شعر الأفغان العرب بالفرح الغامر كما لو انهم- وهذا غير دقيق- قد هزموا قوة عالمية كبرى، وبؤوا يخططون وقتها لتنفيذ خطة عبد الله عزّام بالتوجه نحو تحرير باقي أراضي المسلمين المحتلة (555)

وقف العالم يراقب بصمت حملات الإبادة الجماعية والتطهير للمسلمين من قبل الصرب في البوسنة، كان الأفغان العرب وحدهم الذين قدموا المساعدة العسكرية، ولكن المسلمين البوسنيين وجدوهم غير متسامحين، وكانوا قلقين بشأن طموحاتهم الجهادية العالمية ورفضوا بحزم كل خططهم لإقامة دولة إسلامية.

وبعد انقلاب الجيش على جبهة الإنقاذ الجزائرية بعد فوزها بالانتخابات، وقمع الحكومة السعودية للصحوة غير العنيفة التي شاركت بن لادن سخطه من انتشار القوات الأمريكية في الجزيرة العربية أثناء هجوم صدام للكويت، وبعد فشل الظواهري وتنظيمه (طلائع الفتح) في اغتيال حسني مبارك وحكومته وإقامة دولة إسلامية في مصر، أدرك الجهاديون أن هناك حالة من الانسداد أما طموحاتهم في تكوين دولة إسلاميه في بلدانهم، فرجعوا إلى أفغانستان مرة أخرى.

أسس أسامة بن لادن تنظيم القاعدة، والتفّ حوّله المهجّرين الراديكاليين وخاصة الظاهري وأتباعه المصريين، وفي أغسطس 1996م، أصدر بن لادن ” إعلان الجهاد” على الولايات المتحدة وإسرائيل، ” الحلف الصليبي الصهيوني” وأن من واجب المسلمين جميعا أن يهاجموا الولايات المتحدة وحلفاءها في كل بقعة يستطيعون فيها فعل ذلك [19]

وفي 11 سبتمبر 2001م، نفذت القاعدة عملية مذهلة ومروعة بإسقاط برجي التجارة العالميتين، نفّذ الهجوم مجموعة من المجندين الذين يمتلكون قدرة تكنولوجية عالية، ويعيشون في المجتمعات الغربية، وبفحص سيرهم تبين أنه لا أحد منهم كان قد تلقى دراسة شرعية أو انتمى إلى المدارس الدينية، التي تتهم أحيانا بأنها منبع للإرهاب؛ بل إنهم درسوا في مدارس علمانية، وكانت معرفتهم بالإسلام وبالشريعة الإسلامية سطحية في أفضل الأحوال.

حدثت مجموعة من العمليات الإرهابية بعد 11 سبتمبر في مناطق متفرقة من العالم، وكان جميع هؤلاء الإرهابيين المستقلين يمتلكون معرفة سطحية بالقرآن، ولذا فمن العبث أن نحاول مناقشة تأويلهم للنص أو نلوم “الإسلام” عن جرائمهم، فليست المشكلة في الإسلام وإنما في الجهل بالإسلام.

استغل بوش الأحداث وأعلن ما يعرف ب”الحرب على الإرهاب”، وقام بمهاجمة أفغانستان، أظهرت التقارير أن قتل ما يقارب الثلاثة آلاف مدني في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، فضلًا عن استخدام أساليب تعذيب وحشية في السجون، وفي 2003م ادّعت أمريكا أن العراق تمتلك سلاحا نوويا، وتدعم القاعدة، وقامت بغزوها، وتم قتل وتعذيب مئات الآلاف من العراقيين.

تعلق المؤلفة في نهاية هذا الفصل قائلة:” نقوم بشكل روتيني وصائب بإدانة الإرهاب الذي يقتل المدنيين باسم الله، ولكننا لا يمكن أن ندّعي بأننا نقف على أرضية أخلاقية سامية إن تجاهلنا معاناة وموت الألاف من المدنيين في حروبنا باعتبارهم “أضرار جانبية. ساعدت الأساطير الدينية القديمة البشر على مواجهة معضلة عنف الدولة، ولكن يبدو أن أيديولوجياتنا القومية على النقيض من ذلك تقوم بتعزيز النكوص إلى الأنكار وإلى التصلب في قلوبنا” [20].

ختامًا ..

قد كشفت فصول الكتاب عن قدرة المؤلفة المتميزة في استخدام عدة حقول معرفية مختلفة لإثبات صحة أطروحتها، وخصوصًا سعة اطلاعها على التاريخ الإنساني، وقد يعاب عليها الإسهاب والتطويل في بعض الفصول، و قد استطاعت المؤلفة بحجة قوية إثبات صحة أطروحتها وتعرية الرؤية العلمانية الاختزالية للدين، وربطه بالعنف الدموي على مر التاريخ، ومجملًا فإن الدول القديمة قد استخدمت الدين كواجهة لتبرير عنفها الدموي لتوطيد وتثبيت قواعد حكمها، وقد كشفت آرمسترونج عن العنف الكامن في الدولة العلمانية الحديثة، وإقصائها للدين من الحيز العام، ولكنها اتخذت دينا جديدا لها هو “دين الأمة القومية”، هذا الدين الذي أذاق العالم ويلات الحروب والدمار على مدى قرون، ولم تنس أوربا إلى الآن الحرب العالمية الأولى، والثانية، وقد خلفت ملايين من القتلى، كل هذا الدمار كان نتاج الحداثة والعلمانية وليس الدين!

وفي معرض نقاشها للنظرة الرائجة في الغرب اليوم عن عنف الإسلام، وإلصاق كل حوادث الإرهاب بدموية الإسلام؛ اعتبرت أرمسترونج ان كل هذا العنف راجع إلى إقصاء العلمانية للدين من الحيز العام، وضغط الدول الاستعمارية، وعنف الحداثة ودمويتها، فالعنف التي تمارسه”داعش” مثلا هو ابن للحداثة وربيبها، وليس له علاقة بالإسلام الصحيح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات عن الكتاب
المؤلف: كارين أرمسترونج

عرض: محمد أحمد مجاهد

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر

عدد الصفحات: 654

الطبعة : الأولى 2016م
المصدر/ مركز نماء للبحوث والدراسات

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة