خاص : عرض – سماح عادل :
الحضارة القديمة في العراق كانت على ضفاف نهري “دجلة والفرات”.. لقد برهن اكتشاف الأدوات الحجرية من العصر الحجري القديم على أن شمال العراق شهد حضور الإنسان فيه منذ 100,000 ق. م، وتكشف وجود مستوطنات صغيرة للإنسان القديم منذ 9000 ق. م، ووجدت المستوطنات الزراعية في جنوب وادي الرافدين قبل عام 5000 ق. م، وبدأت أوائل المدن والكتابة فيها في أواخر الألفية الرابعة.
حضارة بلاد الرافدين..
شهد النصف الأول من الألفية الثالثة (عصر فجر السلالات) تطور دويلات المدن في كل مكان من بلاد الرافدين، وبعد عام 2400 ق. م بوقت قصير غزا “سرجون الأكدي” جميع دويلات المدن هذه، لكي يُكوِّن منها أول إمبراطورية (الإمبراطورية السرجونية) التي سيطرت على أغلب أجزاء الشرق الأدنى، وبعد انهيارها بقرن تقريباً، بنت دويلات المدن نفسها من جديد حتى ظهرت إمبراطورية ثانية هي (سلالة أور الثالثة) في القرن الأخير من الألفية الثالثة، التي إنهارت بدورها تحت ضغط البدو الأموريين من الناحية العرقية وكونوا الممالك (الحقبة البابلية القديمة)، وأحرزت إحدى الممالك وهي “بابل” الأسبقية القومية بعد عام 1800 ق. م, وأعطت البلاد كلها اسم “بابل” أو “بابلونيا”، وإنهارت زهاء 1600 ق. م، لتحل محلها السلالة (الكيشية) وحكمت حتى منتصف القرن الثاني عشر لتحل محلها سلالة محلية هي (سلالة إيسين الثالثة)، وبدأت هجرة بدوية جديدة، وبدأ منذ الثلث الأخير للقرن الثامن صراع ما بين الآشوريين والكلدانيين لتسقط بالنهاية في يد حلف من الكلدانيين والبابليين والميديين، وتشكل مع نهاية القرن السابع سلالة قوية جديدة هي (السلالة البابلية الجديدة), أو الكلدية, على يد أبي “نبوخذ نصَّر”، وبلغ الحكم البابلي المحلي نهايته عندما انتزع “قورش” الفارسي بابل عام 539 ق. م فيما يعرف بـ”الحقبة الإخمينية”.
المرأة في بلاد الرافدين خلال عصور ما قبل التاريخ..
تنقسم عصور ما قبل التاريخ في “وادي الرافدين” إلى ست مراحل:
1 . الإيوليت (العصر الحجري الفجري) 1 – 0.5 مليون سنة.
2 . الباليوليت (العصر الحجري القديم) 500,000 – 12,000 ق. م.
3 . الميزوليت (العصر الحجري المتوسط) 12,000 – 8,000 ق. م.
4 . النيوليت (العصر الحجري الحديث) 8,000 – 5,000 ق. م.
5 . الكالكوليت (العصر الحجري النحاسي) 5,000 – 3,200 ق. م.
6 . الشبيه بالكتابي (البروتولتريت العصر الشبيه بالتاريخي) 3200 – 2900 ق. م.
لقد ظهرت أولى بذور الدين في “الباليوليت” الأوسط مع ظهور الإنسان “النياندرتال”, وذلك من خلال طريقة الدفن الشعائري التي تمت في الكهوف، حيث كانت طريقة الدفن والأدوات التي تصاحب الجثة وتوجيهها تدل على أن الكهوف تحوّلت إلى معابد، وهو ما عبّرت عنه أيضاً الرسوم.
تشير الدراسات إلى أنّ “النياندرتال” كان أول نوع بشري عُني بدفن موتاه، فأساليب الدفن، حيث طي الجسد، وتوجيه الرأس نحو الشرق، ووجود بعض الألواح التي تحميه، ووجود بعض العظام لحيوانات وقرون مصطفة بشكل منتظم، كلها دلالات على أنّ “النياندرتال” كان يعتقد بأنّ الكائن الحي يتألف من جسد مادي وروح لطيفة، وأنّ هذه الروح تستقل عن جسد الميت لترحل إلى عالم آخر مواز لعالم الأحياء، وتكتسب قوة غير اعتيادية تتخذ شكلاً نافعاً أو ضاراً وفقاً لموقف الأحياء منها.
وشهد “الباليوليت” الأعلى، وهو آخر مراحل “الباليوليت”, والذي ظهر فيه الإنسان العاقل، ظهور “الدمى الفينوسية”، والتي اكتشفت في وقت بعيد عن زمن اكتشاف الزراعة الذي ستظهر فيه لاحقاً وبأعداد كبيرة، لأنّها ستكون معبّرة عن الزراعة والخصب، فظهورها في “الباليوليت” الأعلى وبأعداد محدودة، يدل على استمرار ظهور المقدس بصيغة أنثوية ولادية، ويمثّل ما جسدته هذه الدمى صورة من صور تجليات المقدس واستمرار تدفقه الديني ليفصل بين العالمين الإنساني والإلهي، لقد حاول إنسان “الباليوليت” أن ينقل إحساسه بالعالم القدسي عن طريق رسوم الكهوف، ثم استطاع أن يعبّر، من خلال تلك “الدمى العشتارية”، عن إحساسه بالآلهة التي كانت في تصوره أنثى.
منظومة واحدة..
قد تكون ميزات العصور الثلاثة الأولى لمجموعة عصور ما قبل التاريخ متشابهة وواحدة في جميع المناطق، إلا أنّ الكنوز الآثارية التي وجدها الباحثون في بلاد الرافدين أكدت على أنّ العصور الثلاثة التالية في وادي الرافدين حملت طابعاً خاصاً ميزها كمنظومة واحدة شكلت مهد “الحضارة الرافدينية”، هذه العصور سبقت الكتابة فسيطرت فيها الشفاهة، ورُسمت فيها بدايات التشكل الثقافي والسياسي والديني والاجتماعي، وشهدت ظهور تسع حضارات قبل “سومر” فكانت على التوالي: (جرمو، الصوان، حسونة، سامراء، حلف، أريدو، العبيد، أوروك، جمدت نصر)، التي كونت المادة الخام للحضارات التي تليها.
وكان التطور الذي جاءت به الزراعة في شمال العراق مفتتحة به عصر “النيوليت”, مدعاة لظهور ثقافات أو حضارات أربع هي: (جرمو، الصوان، حسونة، وسامراء)، وقد استغرق ظهورها حوالي ثلاثة آلاف سنة، وكانت جميعها زراعية فلاحية سادت فيها المرأة كزعيمة، وعبدت فيها الإلهة الأم، ثم جاءت الانعطافة النوعية الثانية التي جاء فيها اكتشاف المعادن وبدء “عصر الكالكوليت”, الذي انتقل مسرحه إلى جنوب العراق وظهرت فيه خمس ثقافات هي: (حلف، أريدو، العبيد، أوروك، جمدت نصر)، واستغرقت هذه الحضارات حوالي ألفي سنة، وكانت جميعها ذات طبيعة مدينية حرفية، إضافة لاهتمامها بالزراعة، وساد فيها الرجل كزعيم للقوم وظهر الإله الذكر ومن ثم ظهور الآلهة المتعددة، وخصوصاً تلك المرتبطة بالطبيعة.
اختراع الكتابة..
شكلت العصور التي سبقت اختراع الكتابة المهد الحقيقي لحضارة الرافدين على وجه الخصوص ولحضارات العالم على وجه العموم، فبعد تدجين الحيوانات واكتشاف الزراعة، وظهور أولى أشكال الدين ممثلاً في عبادة الإلهة الأم، إلى اكتشاف المعادن، توّج اختراع الكتابة الصورية في “أوروك” الأمر ليمهد الطريق لفجر الحضارات ممثلة في “حضارة سومر”. ولعل عبادة الإلهة الأنثى كانت نابعة من مكانة متميزة شغلتها المرأة في وجدان الإنسان ارتبطت بالخصب والنماء، ما دفعه ليصنع تلك “الدمى الفينوسية” التي تمثل المرأة في مختلف مراحل الأمومة.
وبالرغم من التحول إلى النظام الأبوي مع العصر “الكالكوليتي” إلا أنّ المكانة الرفيعة التي احتلتها المرأة مع الطور الأول من عصر فجر السلالات في بداية “العصر السومري”، وتمتعها باستقلال ذاتي كبير على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية استمرت كما هي.
الحضارة السومرية..
جمعت الحضارة السومرية جملة من أهم ركائز الحضارة في التاريخ الإنساني، وفي مقدمتها الكتابة التي كانت السبب الأساسي في حفظ الذاكرة الإنسانية وتدوينها، وشهدت تكوين المدن والقوانين والشرائع،والعلاقات الاقتصادية، والفن والموسيقى، فكان “أوركاجينا” أول مصلح في التاريخ، وكانت “آنخيدو – آنا” الكاهنة العليا وأول شاعرة في التاريخ، وأول من وقّع باسمه على النصوص.
وامتد تاريخ السومريين إلى 5000 ق. م، ويرجح الباحثون أنّ أجداد السومريين هم الذين اكتشفوا المعادن وطوعوها، وهم الذين طوروا أنظمة الزراعة المطرية الشمالية إلى أنظمة زراعية إروائية في الجنوب، وحصل هذا بعد “حضارة سامراء”, وهي الموطن الشمالي العراقي للسومريين قبل أن يبدأوا هجراتهم مع نهري دجلة والفرات إلى جنوب العراق في الألف الخامس قبل الميلاد.
عصر فجر السلالات الأول: وهو مرحلة انتقالية من “حضارة جمدت نصر” الشبيهة بالكتابية إلى العصر الكتابي، وينسب إليه نوع من الفخار اسمه (الفخار القرمزي), واستعمال اللبن المستوي – المحدب في البناء، يشير الباحثون إلى احتمال أنّ “نوح الطوفان” البابلي الوارد في الأساطير السومرية والبابلية كان يعيش في هذا العصر 2900 – 2700 ق. م.
عصر فجر السلالات الثاني: ابتدأ العصر التأريخي الصحيح في هذه الحقبة، وراح سكان وادي الرافدين يدونون بالمسمارية المتطورة شؤون حياتهم، وشهد هذا العصر ازدياداً ملحوظاً في التطور العمراني والمديني وظهور الحياة السياسية على هيئة دول مدن، ومن بعض السلالات الحاكمة في إثبات الملوك السومريين، “كيش” الأولى و”الوركاء” الأولى، ويمكن تحديد زمن هذا العصر بالسنين من حدود 2700 إلى 2550 ق. م، وتميز هذا العصر من الناحية الأثرية والحضارية بالآثار المادية والأبنية العامة كالمعابد والقصور، كما كشفت عنه المواقع الأثرية في “ديالي”، وتطور فن التعدين، وتحول فن النحت مع نهاية هذا العصر ليتحول إلى فن واقعي بعد أن كان تجريديّاً.
عصر فجر السلالات الثالث: في هذا العصر بلغت حضارة وادي الرافدين أوج الازدهار والنضج في مقوماتها الأساسية، وخاصة وفرة النصوص الكتابية من حكام السلالات وملوكها، وإليه تعود القبور الشهيرة، وقد قسم الباحثون هذا العصر إلى مرحلتين وهما مرحلة سلالة “أور” الأولى (ميسا نيبدا), وتميزها المقبرة الملكية الشهيرة في “أور”، ومرحلة “أور” الثانية (حكام لجش) أي سلالة “أور نانشة”، ويمتد هذا الطور زمنياً ما بين 2500 – 2370 ق. م.
الحضارة الأكادية..
العصر الوسيط (عصر الهيمنة الأكدية والكوتية) 2120 – 2371 ق. م: وقد أسسها العاهل “سرجون” في 2371 – 2230 ق. م، أي أنّها دامت أكثر من قرن ونصف القرن، وشمل حكمها القطر كله، واتسع بالفتوحات الخارجية إلى الأقطار المجاورة، والأكاديون ساميون نزحوا منذ أقدم العصور التاريخية، وعاشوا جنباً إلى جنب مع الأقوام الأخرى، وفي مقدمتهم السومريون. وفي غضون ذلك، تبدلت ملامح حضارة وادي الرافدين سياسياً من الناحية اللغوية والقومية والسياسية، وظهرت مقومات حضارية جديدة. اللغة الآكدية وهي سامية شرقية بدأت تأخذ المكان البارز في اللغة الرسمية. ويعد العاهل “نرام سين – محبوب الإله سين” من أشهر حكام السلالة وهو حفيد “سرجون” العظيم, وله إنجازات على الصعيد الحربي والتشريعي, ويشير الباحثون إلى تفرد هذا الملك ببدعة أنّه كان يصدر كتابة اسمه بالعلامة الدالة على الألوهية، وسار على هذا العرف من جاء من بعده، وكان يلقب نفسه بأنّه “إله أكاده”.
بعد سقوط الإمبراطورية الأكادية على يد البرابرة الكوتيين المنحدرين من بلاد “عيلام” الشرقية، دخلت البلاد مرحلة مظلمة استمرت حوالي القرن، ونجحت سلالات سومرية في “لجش” من تقوية نفوذها وبسط سيطرتها على أجزاء واسعة من القطر, وكان أول ملوكها “لوكال أو شمكال” وكذلك الملك العظيم “أور – بابا”, الذي أنجز الكثير من الأعمال العمرانية، وعيّن ابنته كاهنة عليا في معبد الإله القمر “ننا”, وظهرت في عهده مدرسة جديدة في فن النحت السومري والأدب السومري, بلغت ذروتها في عهد “كودية”, وتعد النصوص الأدبية التي خلفها “كودية” بعثاً جديداً للأدب السومري ومثلت اللغة السومرية في أوج نضجها.
حضارة أور الثالثة..
العصر الحديث (سلالة أور الثالثة) 2113 – 2006 ق. م: قامت سلالة “أور” الثالثة, والتي دام حكمها زهاء القرن الواحد 2112 – 2004 ق. م، وحكم منها خمسة ملوك، وأعيدت في عهدهم وحدة البلاد السياسية من بعد فترة حكم الكوتيين المظلمة.
المرأة وحقوقها..
تمتعت المرأة بكثير من الاعتبار والعديد من الحقوق التي لم يتسنَّ لها الحصول عليها, حتى في المدنيّة المعاصرة، فقد استمرت حصانتها المادية في الزواج كواحدة من أهم مظاهر الاستقلالية المالية، فالبائنة التي تفرض على والدها لتكون لها في زواجها وتبقى تحت تصرفها كانت حماية لها، فضلاً عما يقدمه الزوج، فهذه استقلالية للمرأة بملكيتها تمنحها بعداً اقتصادياً يعزز مكانتها في مؤسسة الزواج، وحتى التي تهب نفسها للمعبد ولا يمكنها أن تتزوج تُمنح بائنة الزواج، وهذا يعكس أمرين، وهما أنّ البائنة حق مكتسب للمرأة سواء تزوجت أم لا، وبأنّ وهبها نفسها لتكون للمعبد ولطقس البغاء لا يعني أبداً أنّها تمارس الدعارة، ولا يعني أنّها صارت غانية، بل هي تقدم طقساً دينياً تعبدياً له بعده الروحي، وله اعتباره على مستوى المجتمع وعلى مستوى المعبد.
وكان من اللافت في الحضارة السومرية تميُّز المرأة وتخصصها في مهنة الكتابة، إذ تشير بعض النصوص المسمارية إلى أنّ التعليم لم يكن مقتصراً على الذكور، بل شمل كذلك الإناث أيضاً، وكان بإمكان بعضهن التعلم ليصبحن كاتبات متمرسات في ما بعد، بكل ما يعنيه ذلك من صعوبات, أبرزها انخراط الإناث في سلك التعليم، ومشاركة الذكور في هذا المضمار بشكل واسع، بالإضافة إلى تكاليف الدراسة وأجورها الباهظة، وقد نالت بعض النسوة نصيبهن من التعليم أسوة بالرجال، كما تبين أنّ أعداد الكتبة في بلاد الرافدين كان كبيرا وهو ما يؤشر لحالة حضارية متطورة للمجتمع.
في العصر البابلي جاء ذكر العديد من “الناسخات”، من ضمن الموظفين التابعين إلى الدير في ما عرف, وكانت معظم الناسخات كاهنات من صنف “ناديتو”، ومن هذه الناسخات: “إنانا آمامو”, ذكرت هذه الناسخة في عدد من النصوص التي تعود إلى زمن “بنتاخون أيلا”، وهو أحد حكام مدينة “سبار”، قبل أن يضمها ملاك سلالة “بابل” الأولى، وجاء آخر ذكر لها في زمن الملك “سومو – لا – ايل” 1880 – 1845 ق. م, وتذكر أحد هذه النصوص أنّ والد هذه الكاتبة “أبا – طابم” كان كاتباً أيضاً.
واللافت أنّ الكاتبات النساء كنَّ متميزات, بحيث أتت أسماؤهن من بين الموظفين المسؤولين عن أرزاق القصور، فهي مهنة مرموقة تعكس تميزاً للمرأة في اكتسابها الخبرة والتعليم والثقة لتعمل ضمن نطاق القصور، وقد أشار الباحثون إلى أنّ عدم السماح للكاهنة “ناديتو” بإنجاب الأولاد سمح لها بأن تأخذ وقتها في التعلم.
لهجة للنساء..
أشار بعض الباحثين إلى أنّه كانت هناك لهجة أساسية من لهجات السومرية تدعى (إيميسال)، وتعني لغة النساء، وهي لغة تتميز عن الشكل الشائع، وجرى تكرارها على شفاه النساء وتعتبر أكثر تناسباً معهن، وتكررت “الإيميسال” في الملاحم والصلوات وبعض التراتيل، فكانت تستخدم لكلام النساء والإلهات، وكذلك كلام عبيدهن الذين كانوا خصياناً في العادة، استخدمت لهجة (إيميسال) في النصوص الأدبية عند النساء، ومن قبل الرجال في الجنائز والرثاء.
العزف والغناء..
على الصعيد الفني، مارست المرأة العزف والغناء، فالمعروف أنّ الموسيقى وآلات الطرب هي إحدى إبداعات وادي الرافدين، فقد استعمل العراقيون القدامى الموسيقى للتعبير عن مشاعرهم في مجالات مختلفة، منها الاحتفالات الدينية والدنيوية، وشاركت المرأة في هذا المجال ابتداء من عصر فجر السلالات، وحتى أواخر الأدوار الحضارية القديمة في وادي الرافدين، وعكست الأختام واللقى الأثرية مشاركة المرأة في الأدب وفي العزف والغناء على الآلات في مختلف عصور حضارات وادي الرافدين، وكانت مهنة العزف، وخاصة لعازفي المعابد، تعد من المهن المرموقة، وإلا لما ذُكر تميز الملك “شولكي”, ثاني ملوك سلالة “أور الثالثة”, بإجادته العزف والغناء وهو الملك.
كان في المجتمع العراقي القديم صنفان من الموسيقيين، صنف تابع إلى المعابد لإحياء الحفلات الدينية، وهم عبارة عن طبقة خاصة من الكهّان مدربين، ومنهم كاهنات يعزفن وينشدن أيضاً، أما الصنف الآخر فهم من الموسيقيين التابعين للقصور الملكية، ومعظمهم من العبيد والخدم.
حجاب المرأة..
رغم تقدير حضارة بلاد الرافدين للمرأة إلا أنها مع ذلك فقدت بعض الامتيازات التي كانت تحصل عليها في الأزمنة القديمة، وقت أن كانت مقدسة.
فقد ظهر الفرز الطبقي من خلال نوعية الثياب والمجوهرات والحلي، وتمتعت النساء من الطبقة الملكية بالرفاهية العالية التي ظهرت من خلال أدوات الزينة المذهبة والمطعمة باللازورد, والتي عُثر عليها في القبور الملكية.
ويتصل بملابس المرأة ما عرف بـ”الحجاب”، والذي انتشر بشكل واسع في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، إذ إن قراءة الأسطورة القديمة بعين تحليلية تكشف اللثام عنه وتسلط الضوء على تاريخه ومدلولات نشوئه واعتماده، فما حدث من “انقلاب ذكوري” على المرأة وهيمنة الرجل عليها اقتصادياً وجنسياً، قاد إلى فرز طبقي للنساء، بحيث تمّ الربط بين الطبقة والخدمات الجنسية التي تقدمها المرأة, وهذا ما ظهر بشكل واضح في التشريعات الآشورية التي قننت الجنس للمرأة، بحيث ميزت اجتماعياً ما بين المرأة الحرة والمرأة الجارية أو البغي، بواسطة غطاء الرأس.
وتنص إحدى مواد “القانون الآشوري” على أنّه “يمنع على زوجات السادة والأرامل والنساء الآشوريات اللواتي يخرجن إلى الشارع كشف رؤوسهن،….، إنّ محظية تخرج إلى الشارع مع سيدتها يجب أن تحجب نفسها، إنّ عاهرة مقدسة تزوجها رجل يجب أن تحجب نفسها في الشارع، ولكن واحدة لم يتزوجها رجل يجب ألا تحجب العاهرة نفسها، يجب أن يكون رأسها سافراً”.
ويتابع النص التشريعي: “إن الذي يرى عاهرة محجبة يجب أن يعتقلها، ويحضر شهوداً ويأخذها إلى محكمة القصر، يجب ألا يأخذوا مجوهراتها ولكن الذي اعتقلها يمكن أن يستولي على ملابسها، يجب أن يضربوها خمسين مرة بالعصا ويسكبوا القار على رأسها”, إذاً كانت الحرة تخرج وهى ترتدي غطاء للرأس، وكان ذلك أمراً إلزامياً لتمييز المرأة الحرة عن الجارية, التي لم يكن لها الحق في وضع غطاء للرأس إلا إذا أراد زوجها رفعها لمرتبة الزوجة، ويقوم بوضع الغطاء على رأسها أمام خمسة أو ستة شهود قائلاً: “هذه هي زوجتي”, والغطاء للرأس، كما يتضح، يعبر عن رمزية اجتماعية لتمييز المرأة الحرة عن الجارية، ولم يكن يحمل أي مضامين دينية، كما في الديانات التوحيدية اللاحقة، ولم يميز هذا القانون بين المرأة الحرة والأمة وحسب، وإنما بين المتزوجة ووما سميت في ذلك الوقت بـ”العاهرة”.
- المصدر:
بحث: (مكانة المرأة في بلاد وادي الرافدين وعصور ما قبل التاريخ), لميادة كيالي.. باحثة سورية – مؤسسة مؤمنون بلا حدود.