12 أبريل، 2024 12:24 م
Search
Close this search box.

حريق كاتدرائية “نوتردام” .. تحديات عملية الترميم وإنقاذ “كنوز” البشرية !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتبت – ابتهال علي :

عاشت “فرنسا” والعالم، بعد ظهر يوم الخامس عشر من نيسان/أبريل 2019، ليلة حزينة تضاهي في قسوتها يوم حريق “مكتبة الأسكندرية” القديمة، عام 391 م، وتدمير حركة (طالبان) الأفغانية تمثالي “بوذا” بوادي “باميان”؛ بوسط “أفغانستان” عام 2001، وتفجير “منارة الحدباء” لجامع “النوري” على آيدي تنظيم (داعش)، في مدينة “الموصل” العراقية، عام 2017.

فعلى مدى 15 ساعة كابدت “فرنسا” مأساة إحتراق كاتدرائية “نوتردام”، التي استغرق بناؤها 200 عام، بداية من منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، على نهر “السين” في العاصمة الفرنسية، “باريس”، وتعتبر من أبرز أمثلة العمارة القوطية الأوروبية في القرون الوسطى.

وتسبب الحريق الهائل، الذي اندلع في الكاتدرائية، بأضرار جسيمة في أجزاء منها؛ وعلى رأسها السقف والبرج المدبب الذي يقترب ارتفاعه عن سطح الأرض 93 مترًا.

“نوتردام” .. الدموع واللهب والرماد..

منذ الشرارة الأولى، تفاعلت وسائل الإعلام الفرنسية مع الحادث، فقد تصدرت صورة للكنيسة وبرجها المدبب الشهير ينهار تحت وطأة النيران غلاف صحيفة (لوبريزيان)؛ وجاء عنوان الغلاف: “نوتردام الدموع”، وأفردت الصحيفة الباريسية تسع صفحات كاملة لتغطية الكارثة.

ونشرت صحيفة (لوبوان) صورة على غلافها لحجم الدمار في الكاتدرائية؛ ذيلتها بعنوان: “تسع قرون من الحب”، في إشارة إلى حضور “نوتردام دي باري” الطاغي في تاريخ الأمة الفرنسية منذ القرون الوسطى.

وتحت عنوان: “سيدة البؤس”؛ أشارت مجلة (لوفيغارو) في افتتاحيتها إلى أنه لا يمكن فصل تاريخ “فرنسا” عن كاتدرائية “نوتردام”، التي تعد سجلًا خالدًا يحتفظ بذاكرة الأمة الفرنسية على مدى أكثر من ثمانية قرون كانت شاهدة فيها على الزيجات الملكية لملوك “فرنسا” و”أوروبا”؛ وتتويج “نابليون بونابرت” و”الثورة الفرنسية” و”الحرب العالمية الثانية”.

واختارت مجلة (سي نيوز) الفرنسية كلمة: “الخراب”؛ متصدرة غلافها لوصف الحادث الهائل الذي تعرضت له الكاتدرائية، في حين اكتفت صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية بكلمة واحدة على صورة للكاتدرائية وهي تكافح النيران، وهي: “نوتردرام”، أي “مأساتنا”، بدلًا من “نوتردام” أي “سيدتنا”.

وعبرت صحيفة (لاكروا) عن حجم حزن الفرنسيين والعالم على إنهيار أجزاء من الكاتدرائية بعنوان: “تحول القلب إلى رماد”.

استبعاد فرضية الإرهاب في مقابل ماس كهربائي..

واستبعدت السلطات الفرنسية وجود شبهة جنائية أو عمل إرهابي وراء مأساة “نوتردام”، وذكرت صحيفة (لوبريزيان)؛ أن المحققين يعتقدون أن ماسًا كهربائيًا قد يكون السبب المباشر في نشوب الحريق في الكاتدرائية. وأوضحت إن المحققين يدرسون احتمال وجود علاقة بين نشوب الحريق ووجود عطل في أجهزة الكمبيوتر أو المصاعد المؤقتة المستخدمة في أعمال الترميم التي كانت تجرى في المبنى.

برج “رصاصي” وأخشاب “بلوط”..

وعن حجم الخسائر المبدئية؛ حددت لجنة من المهندسين المعماريين ثلاثة ثقوب رئيسة في هيكل الكاتدرائية، أخطرها إنهيار البرج المدبب وسقوط ثلثي سقف المذبح وقبو الجزء الشمالي من المبنى، في المقابل تمّ إنقاذ ثلاثة من الآثار الهامة التي إحتوتها الكنيسة للسيد “المسيح”، من بينها أكليل الشوك الخاص بالسيد “المسيح”، عليه السلام، وقطعة من الصليب الذي صّلِب عليه.

وأكد “غابرييل بلوس”، المتحدث باسم جهاز الإطفاء في “باريس”، أن “البرج القوطي” الشهير لم يعد موجودًا، بينما لم يتأثر برجا الكاتدرائية في الجانب الغربي؛ وهما على الطراز القوطي تم الإنتهاء من بنائهما عام 1250 ميلاديًا، ويبلغ ارتفاع كل برج 68 مترًا.

ويعتقد أن التصميم الخشبي الداخلي المميز للكاتدرائية تحول لرماد، وهو ما يمثل خسارة فادحة، إذ يعود تاريخه إلى عام 1147، ومن الصعب العثور على أخشاب “بلوط” بمثل تلك الكمية والجودة لترميمها، ومن الصعب العثور على عمالة فنية مهرة لتقطيع ونحت الخشب بالنقوش المميزة.

ونقلت تقارير صحافية أن نحو 70% من الكنوز الفنية، سواء في المبنى أو القبو المتحفي، تضررت من الحريق، ويخشى عشاق الفن التشكيلي على مصير اللوحات الجدارية داخل الكاتدرائية التي كان من الصعب تفكيكها وإنقاذها بسبب وزنها الكبير، إذ يبلغ طول بعضها 4 أمتار.

وذكرت مصادر مسؤولة أنه تم إنقاذ نحو 76 لوحة من الأيقونات التي رسمها أبرز الفنانيين الأوروبيين لشخصيات دينية، وسيتم نقلها لمتحف “اللوفر”.

وتبارت وسائل الإعلام الفرنسية في استعراض العوامل التي جعلت من كاتدرائية، “نوتردام دي باري”، أيقونة فنية وتاريخية على مدى نحو تسعة قرون؛ وليست فقط رمزًا للكنيسة الكاثوليكية في “فرنسا”؛ فهي تمثل أيقونة فنية وتضم بين جنباتها مجموعة من المقتنيات الأثرية وأبرزها :

“إكليل الشوك” ورداء “لويس التاسع”..

ولـ”إكليل الشوك” قصة؛ حيث يعتقد أنه كان على رأس “السيد المسيح”، يوم صلبه، ويتكون من حلقة مجمعة من مجموعة قصب، محفوظًا في دائرة مصممة من الذهب، وظل الإكليل في مدينة “القدس” حتى عام 1063، عندما استولى عليه الرومان ونقل إلى “القسطنطينية”، إلى أن أهداه الأمبراطور، “بالدوين الثاني”، إلى الملك، “لويس التاسع”، عام 1239، الذي بنى كنيسة “القديس شابيل” لتضم الـ”إكليل المقدس”، قبل أن يتم تحويلها إلى “كاتدرائية نوتردام”. ومع إندلاع “الثورة الفرنسية”، نقله الإمبراطور “نابليون بونابرت” إلى المكتبة العامة لحمايته من عمليات النهب.

وطمأن “فرانك ريستر”، وزير الثقافة الفرنسي، العالم، أنه تم إنقاذ “الإكليل” مع رداء الملك “لويس التاسع”، الذي يعرف أيضًا باسم “رداء القديس لويس”، ويعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر.

ومن الآثار المقدسة الأخرى، جزء من “الصليب الأصلي”، الذي يُعتقد كثيرون بأن السيد “المسيح” صُلب عليه، وأحد المسامير الأصلية التي استخدمت في صلبه، ولم يعرف بعد ما إذا تم إنقاذ هذه القطع التاريخية والأثرية.

وأكد “ريستر”؛ على أن “الأرغن” الموسيقي الكبير، الذي يتكون من 8 آلاف أنبوب ويعود للقرن السادس عشر، لا يزال سليمًا، وأُنقذت أيضًا الأجراس العشرة الضخمة.

وذكرت صحيفة (لوموند) الفرنسية أن هذه الكنوز سوف تنقل إلى متحف “اللوفر” سوف تنقل هذه الأعمال الفنية إلى متحف “اللوفر”.

النوافذ الوردية العملاقة و”لويس التاسع”..

أكد “أندريه فينو”، الناطق باسم الكاتدرائية، على أن النوافذ العملاقة الثلاث، التي تعود للقرن الثالث عشر، لم تتضرر جراء الحريق وهي نوافذ من الزجاج الملون تتخذ شكل الورود، وتمثل قمة الإبداع في فن “المشكل” في صناعة الزجاج بأشكال هندسية تعكس أشعة الضوء.

وأعرب المؤرخ المعماري، “غوناثان فويل”، عن قلقه من أن تفقد الإنسانية النافذة الأكبر، البالغ طولها 19 مترَا، إذ تمثل أحد معالم الكاتدرائية النفيسة؛ وهي نافذة من الزجاج المعشق الملون تضم رسومًا للقديسين،  كانت هدية من ملك فرنسا، “لويس التاسع”، الذي قاد الحملات الصليبية على “بيت المقدس” وتم أسره في مدينة “المنصورة” المصرية عام 1240 ميلاديًا.

تماثيل الغرغول .. مساقط لمياه المطر..

وفي قمة البرجين، توجد تماثيل “الغرغول” الكائن الخرافي، التي تعمل كمساقط لمياه الأمطار، وهي من المعالم التي يحرص زوار “باريس” على مشاهدتها، وأشهر تمثال لهذه الكائنات الخرافية هوتمثال “ستريكس”، الذي يحمل رأسه بين يديه واقفًا على قمة المبنى ينظر إلى المدينة.

وانقذت عمليات الترميم، التي كانت تجرى في المبنى، مجموعة من الكنوز الأثرية من خطر النيران؛ مثل تماثيل “الرسل” النحاسية التي كانت في البرج الذي التهمته النيران وتم إزالتها منذ أسبوع فقط.

كنوز لم يعرف مصيرها..

ولا زالت كثير من الكنوز الفنية والأثرية لم يعرف مصيرها؛ ومنها “تمثال الصليب”، للنحات، “نيكولا كوستو”، المنصوب على المذبح العالي في الكاتدرائية، وأيضًا تمثال “السيدة العذراء والطفل”، المشهور باسم، “نوتردام دي باريس”، وهو منحوتًا في القرن الرابع عشر، علاوة على تمثال “القديس دينيس”، الذي نحته، “نيكولا كوستو”، في القرن الثامن عشر.

هل تنبأ “فيكتور هوغو” بالحريق منذ قرنيْن ؟

وأرتبطت كاتدرائية “نوتردام” برواية (أحدب نوتردام)؛ للروائي الفرنسي الشهير، “فيكتور هوغو”، عام 1831. كانت الكنيسة هي المكان الرئيس الذي دارت فيه أحداث الرواية، حيث عاش فيها “قارع الأجراس” المسكين، “كازيمودو”، الأحدب المسكين وبالتحديد في “برج الجرس”، الذي يرتفع عن الأرض 41 مترًا وتحرسه أربعة تماثيل تحمل أبواقًا، وكانت الكنيسة وقتها بناءًا كئيبًا ضخمًا في حالة يرثى لها.

ووصف “هوغو”، في الرواية التي كتبها منذ قرنين، حريقًا شبّ في الكاتدرائية، قائلًا: “شخصت العيون إلى أعلى الكنيسة، حيث التصقت النظرات بمشهد استثنائي، ففي أعلى الرواق، وفوق النافذة القزحية التي تحسبها معلّقة في السماء، كانت لظى النيران تتطاول بين البرجين ناثرة زخات من الشرر.. لهبٌ مضطّرب وغاضب، ألسنة محمّلة بالدخان أخذت تراقص الهواء المتفحِّم”.

الترميم لن ينتهي قبل عقود..

وناقش تقرير لقناة (يورونيوز)؛ جدوى النداء الذي أطلقه الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”، بالتبرع لترميم الكاتدرائية على أن تعود لحال أجمل من السابق خلال خمس سنوات، إذ أكد خبراء في ترميم المباني الأثرية أن ترميمها عملية معقدة ومكلفة ماديًا وتستلزم زمنًا طويلًا.

وقال “غوناثان فويل”، المتخصص في تاريخ العمارة، أن أهم تحديات أصعب مراحل ترميم المبنى هو تقدير حجم الضرر على القباب الحجرية الضخمة، إذ يتوقع أن تؤدي درجات الحرارة الشديدة بفعل النيران إلى حدوث تكلسات في الأحجار لتتحول لمسحوق.

وأشار إلى الأضرار الناجمة عن محاولات إخماد الحريق؛ حيث يمكن أن تتسبب الصدمة التي تتعرض لها الأحجار الملتهبة بفعل مياه إطفاء الحرائق الباردة في تحطم الأحجار.

وأضاف “فويل”؛ أن استبدال أخشاب هيكل السقف الذي إحترق بصورة كاملة يشكل تحديًا في حد ذاته؛ فهي أخشاب من غابات أشجار البلوط التي ولى زمنها.

وأعربت “أنابيل رادكليف-ترينر”، المعمارية المختصة بالمباني التاريخية في ولاية “نيوغيرسي” الأميركية، عن تفائلها بشأن إعادة إحياء الكاتدرائية، مشيرة إلى أنها شاركت في ترميم كنيسة، “سانت برنارد”، ذات الطراز القوطي أيضًا؛ عقب تعرضها لحريق، وكذلك عملية ترميم كنيسة، قلعة “وندسور”، المقر الملكي الشهير في “أنكلتر”، التي دمرها حريق عام 1992.

دوافع “ماكرون” و”أولمبياد باريس”..

وسلطت صحيفة (الغارديان) البريطانية الضوء على دوافع “ماكرون” وراء سرعة ترميم الكاتدرائية في خمس سنوات فقط، أي قبل استضافة بلاده “أولمبياد باريس 2024″، ووصف أحد أبرز مهندسي الصيانة الفرنسيين، “بيرلويغي بيريكولو”، الجدول الزمني الذي اقترحه “ماكرون”؛ بأنه طموح للغاية، مؤكدًا على أنها مهمة جسيمة لن تنتهي قبل 15 عامًا.

في حين نقلت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية، عن “كارولين بروزيليوس”، المتخصصة في تاريخ العمارة القوطية بجامعة “ديوك” بالولايات المتحدة، أن ترميم الكاتدرائية سوف يتسغرق 10 سنوات على الأقل، وطالبت بضرورة الإنتظار عدة أشهر لتقييم حجم الأضرار مع تغطية المبنى بالكامل لحمايته من الشمس والأمطار، وتدعيم الحوائط بدعامات خشبية لمنع إنهيار سقف القبو.

البرج القوطي يكون أو لا يكون ؟     

ويظل أمام الفرنسيين خياران قاسيان، هل يمكن إعادة البرج “القوطي” المدبب، البالغ إرتفاعه 93 مترًا، والذي التهمته النيران، وفقًا للمخطط المعماري القديم منذ القرن التاسع عشر ؟.. أو بناء برج جديد يواكب تكنولوجيا العصر الحالي ؟

مع العلم أن البرج المحترق كان مصنوعًا من الخشب المطلي بالرصاص؛ وهو ما ساعد على سرعة إشتعاله، وقد بُني البرج في القرن الثاني عشر، وتعرض للتدمير أثناء “الثورة الفرنسية” وأعيد بناؤه أواخر القرن التاسع عشر.

وأعلن رئيس الوزراء الفرنسي، “إدوار فيليب”، الأربعاء، إطلاق مسابقة دولية لمهندسين معماريين لإعادة بناء “برج الكاتدرائية”، وتندرج المسابقة ضمن مشروع قانون “نوتردام”، الذي يوفر إطارًا قانونيًا للتبرعات لإعادة بناء الكاتدرائية، وينص على خفض الضرائب. وسيمنح مشروع القانون الأفراد الذين يقومون بتبرعات تخفيضًا في الضريبة على الدخل بنسبة 75% لمن يتبرع بنحو ألف يورو.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب