خاص: إعداد- سماح عادل
هو “حامد فاضل حاشوش الغزي” كاتب وروائي ومسرحي وصحفي عراقي.
حياته..
ولد “حامد فاضل” في مدينة الرميثة بالعراق عام 1950، وحصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية وآدابها، وعمل في مجال التدريس. وعمل مراسلاً لجريدة «الزمان» من عام 2003 إلى عام 2005، ومراسلاً لجريدة «الأديب» الثقافية من عام 2004 إلى عام 2013، ومراسلاً لوكالة رويترز للأنباء من عام 2003 إلى عام 2008، وعمل مندوباً لمعهد المرأة القيادية من عام 2004 إلى عام 2009، كما قام بإعداد الصفحة الثقافية لجريدة «السماوة».
الكتابة..
نشر أول قصة له في مجلة «الطليعة» الأدبية عام 1975، وترجم ونشر بعض القصص من اللغتين الإنجليزية والألمانية.. نسب لعدة سنوات للعمل في النشاط المدرسي في قسم المسرح ثم مسئولا للقسم الأدبي وأعد وألف وأخرج العديد من المسرحيات والأوبرتات للنشاط المسرحي، وقد فاز معظمها بجوائز منها: مسرحية «الحرب»، أوبريت «نمور الهوية»، وأوبريت «حكايا لنساء رائعات»، ومسرحية «عرس وعصافير»، ومسرحية «بغداد يا بغداد»، وغيرها.
أعماله..
- «حكايات بيدبا» (قصص)، عام 1994م.
- «ما ترويه الشمس .. ما يرويه القمر» (قصص)، عام 2004م.
- «المفعاة» (قصص)، عام 2010م.
- «ثقافة الأمكنة مرائي الصحراء المسفوحة» (سرد)، عام 2012م؛ وهو كتاب أعاد طباعته الاتحاد العام لأدباء العراق ضمن منشوراته لعام 2021م.
- رواية «بلدة في علبة»، عام 2015م.
- «لقاء الجمعة»، عام 2020م.
الحكايات المأهولة بمخلوقات المخيال الساحرة..
في حوار معه أجراه “قاسم والي” يقول “حامد فاضل”عن بداياته: “لنعد إلى صندوق الطفولة، ذلك الصندوق المدهش، الموصد على بؤر الحكايات المأهولة بمخلوقات المخيال الساحرة، تلك المخلوقات التي تتلفع عباءات زمن البراءة.. في المساءات المضاءة بالفوانيس الشاحبة كوجوه الفقراء، واللوكسات التركية الفائضة كغرر النهار.. المساءات الشتوية الصاقعة، اللائذة بالمواقد المكتظة بالجمر المتوهج، والدلات المترعة بالقهوة، والفناجين المزنرة بالأزاهير، وشبابيك الزلابية الدبقة، وأكياس التبغ الحار، ودفاتر ورق اللفائف الشفافة، ومسابح اليسر الموشاة بالفضة، والعقل واليشاميخ الجنوبية، واللحى البيض، ووجوه الأجداد الموسومة بالبساطة، الطافحة بالسعادة برغم أخاديد العناء.. أو المساءات الصيفية القائظة، المندات بنضح جرار الماء المعممة بعمائم الخوص، المتروكة على قارعة الشرفات، حيث تتعرى أشياف الرقي مكشوفة لأعين السماء أمام مراوح النسيم، وتهفو الأكف إلى مهفات الخوص.. كنت أغذي أحلام اليقظة بما يتساقط من نخلة لا شعور الحكائين في مجلس جدي، كان غرين الحكايات/ يترسب/ يركد/ في قاع الذاكرة، ثم يطفح بتأثير محرض/ غامض/ مجهول/ ليلقي بأحداثه وشخوصه إلى أجراف المخيلة البكر/ فتهتز/ تربو/ تتناسل/ لتلد حكايات أخرى جديدة..
كان شيوخ محلتنا يحضرون إلى برانية جدي بمعية رجل يحمل كتاباً قديماً مصفر الأوراق، يمكثون من بعد صلاة العشاء، إلى أن يسمع صفير القطارين، الصاعد شمالاً إلى العاصمة، والنازل جنوباً نحو الميناء، إذ يلتقيان في محطة السماوة ليعلنا منتصف الليل. كنت مشدوداً إلى ذلك الحكاء وكتابه العجيب الغريب (عرفت فيما بعد أنه كتاب ألف ليلة وليلة) كنت أغور في أخاديد الأزمنة الغابرة حيث/ القلاع الحصينة/ السراديب المخيفة/ المطمورات المظلمة/ الملوك الجبابرة/ عفاريت الجن/ السحرة المارقين/ أو أحلق بأجنحة المخيال إلى/ القصور الفاخرة/ الحدائق الغناء/ الأميرات الجميلات/ الجنيات العاريات السابحات في نافورات الحليب/ الفرسان الشجعان/ الخيول البيض ذات الأعراف الغزيرة/ السيوف القواصل/ الحراب الطويلة/ الرماح الفتاكة/ بسط الريح/ المصابيح السحرية/ القماقم/ الرخاخ/ الآفات/..
كانت وجوه أبطال الحكايات تتشكل أمامي، تترأى لي من خلال غلالة الدخان الذي ينفثه الرجال وهم يحرقون لفائف ذلك الزمان/ التركي/ اللوكس/ الجمهوري/ .. كنت أرى أبطال الحكايات يتحركون أمامي في مشاهد من خيال الظل الذي ابتدعه الكمال أبن دانيال في القرن العاشر الهجري.. أرى عنترة بن شداد العبسي/ سيف بن ذي يزن/ المهلهل بن ربيعة/ الزير سالم/ الأميرة ذات الهمة/.. وآخرين غيرهم تستدعيهم الحكايات، أراهم يولدون في مجلس جدي/ يكبرون/ يتزوجون/ يخلفون/ يبنون/ يتقاتلون/ يتغربون/ يحيون/ يعمرون/ ثم يمتون/..
لكم أجبرتني الحكايات المرعبة على إطلاق عقيرتي بالغناء كلما مررت ليلاً بأزقة القشلة المترعة بالخرافات، فربما ينقلب الطنطل إلى تيس صغير، أو كرة من الصوف، وربما كانت السعلاة التي تكمن في الأركان المظلمة تتحين الفرصة لاختطاف أحد الأولاد، أو يتجول عبد الشط، وفريج الأقرع بحرية بعد صمت الأزقة.. كل تلك الحكايات المكنونة في صندوق الطفولة تتمترس خلف درقة الذاكرة من عصف النسيان، وهي ما تزال تروى لي بكرة وعشيا.. حين أخذ الزغب لون الليل، وسال في الخدين، وتحت الأنف، وفوق العانة. تعرفت إلى ذلك اللص الظريف أرسين لوبين، والمفتش الذكي هركول بوارو، والمغامر جيمس بوند..
صرت أقتصد في مصروفي لأشتري كتب/ موريس لبلان/ أجاثا كرستي/ أيان فليمنغ/.. في مرحلة الدراسة المتوسطة، استهلت رحلة القراءة لروائع الأدب العالمي بروائع الأدب الروسي، قرأت لمعظم الكتاب الروس الكبار، أعدت لأكثر من مرة قراءة ملحمة الحرب والسلم، لأقتحم تولستوي، التهمت رواية الأخوة كارامازوف برمتها، تقول فرنسزواز ساغان: (كلما قرأت لدوستوفسكي، شعرت بضآلة ما نكتب).. هناك قصة قصيرة لذلك الكاتب ذو الشارب الكث الذي أبدع في رواية الأم، تتحدث عن غانية تكتب الرسائل لنفسها من عاشق اختلقته، هذه القصة ما تزال تنبت كنخلة في الذاكرة لتذكرني بعظمة مكسيم غوركي.. رحلة القراءة الممتعة التي ابتدأت بقصة بوليسية ما تزال مستمرة ولن تتوقف إلا إذا توقف خفق جناح ذلك الطائر الصغير الحبيب الذي يدعونه القلب، وما تزال أسماء المؤلفين وعناوين الكتب تحشر في خرج الذاكرة، الأسماء والعناوين القديمة تفسح للأسماء والعناوين الجديدة، شخصيات روائية كثيرة حفرت أسماءها في لحاء الذاكرة/ راسكولنكوف عند دوستوفسكي/ زيفاكو عند بوريس باسترناك جان فالجان عند هيجو/ ديفيد كوبر فلد عند دكنز/ ستيفنسن عند جويس/ زوربا عند كازانتزاكيس/ هاري عند كولن ويلسنــ كم حاصرتني ضياع في سوهو بسطوتها في فترة المراهقةـــ/ ثم بنجي عند فوكنر/ ساما عند كافكا/ وهذان الكاتبان أبدعا أروع روايتين أثيرتين عندي هما الصخب والعنف، والتحول أو المسخ”.
ويضيف: “ساعدتني درايتي باللغتين الانكليزية والألمانية على قراءة القصص الرائعة بلغتها الأم.. في منتصف السبعينات نشرت أول قصة لي ولما أقرأ لأي كاتب عراقي.. قرأت بعد ذلك لمعظم الكتاب العراقيين لأكتشف أروع مجموعة قصصية هي المملكة السوداء لمحمد خضير، ثم الرجع البعيد لفؤاد التكرلي وهي أروع رواية عراقية قرأتها لحد الآن.. أخيراً لا أعرف من الذي قال: الشيء الوحيد الذي كنت احتاجه كي أصبح كاتبا جيدا هو أني كنت قارئا جيدا”.
البحث عن المغاير..
وعن تجربته الأدبية يقول “حامد فاضل”: “منذ أن دحا الخالق ألأرض وأثثها بالكائنات، والعالم السفلي ينزع نحو التجديد، وهذا أمر قائم مادام الحاضر الذي يتوسط الماضي والمستقبل، هو عماد خيمة الحياة، فمن الغد يُصبح اليوم، ومن اليوم يَصير الأمس، فالحياة إذن حالة متجددة تستبدل الزائل بالجديد، وقد أدرك الشاعر السومري ذلك وعبر عنه في ملحمة الخلود. وكذلك هو حال كل مبدع في أي فن من فنون الأدب.. عالمنا ملئ بالأدباء من الشعراء والساردين، لكننا لا نرى في نصاعة التأريخ الأدبي الخالد إلا الثلة من المجددين أولئك الذين يخلعون على إبداعهم سواء كان شعراً أم سردا ثياباً جديدة ليخرج مزهواً كالطفل في العيد..
المروية متاحة للجميع، لكن سر خلودها الذي يجعلها متجددة في الذاكرة الجمعية يكمن في ما يضيفه الراوي المقتدر الذي يتمتع بمخيلة خلاقة.. حرصت دائما على أن لا أكرر ما قيل أو كُتب، فالكتابة عندي هي عملية بحث دائم عن مواضيع مغايرة.. خلود الإبداع يكمن في هذه الأسئلة الثلاثة، متى تكتب؟ ماذا تكتب؟ كيف تكتب؟ والإجابة عن متى، هي عندما يستدعي الواقع المعاش/ العرض/ التنبيه/ التحريض/ الأمل/ أما ماذا، فالإجابة عنها تنتج من انصهار/ الواقعي/ الغرائبي/ الرؤيوي/ المخيالي/ في بوتقة القص.
أما كيف، فالإجابة عنها تتلخص في الابتعاد عن/ السذاجة/ العجالة/ الإنشائية/ الفوتوغرافية/.. في “حكايات بيدبا”، الأحداث البسيطة التي حدثت للناس البسطاء الذين عرفتهم عن كثب وعايشت همومهم، تلك الأحداث مزقت شرانقها وحلقت بأجنحة ثيمات ملونة، لتخرج من محراب القصص بزينتها كحكايات جديدة استطاعت أن تأتي بقبس من نصاعة النقد العراق، رغم أني كنت قد تركت الكتابة لبضع سنين قبل نشر حكايات بيدبا الذي جاء بتشجيع من الصديق القاص وارد بدر السالم..
بينما جاءت مجموعة “ما ترويه الشمس”، ما يرويه القمر، لتُري ما تعكسه مرآة الرمل المسفوحة في صحراء السماوة، لتروي لنا ذلك الإرث الشفاهي، ذلك العالم الرملي المدهش الكامن مثل الكمأ الذي ينبت بلا عروق في انتظار الكماي العارف، المقتدر الذي يفقأ أسنمته ليبزغ في نصاعة نهار الصحراء.. وإذا كانت المروية تستدعي الراوي كما يقول تودوروف، فقد اختار النهار الصحراوي المفعم/ بالشواظ/ الصهد/ السراب/عواصف الرمل/ الشمس لتكون راويته، كما اختار الليل الصحراوي/ المقمر/ الندي/ الذي يخفي في أكمامه كائنات الصحراء كافة.
ذلك الليل الخرافي الصافن كجواد مطهم، اختار القمر ليكون راويته، فالشمس تروي، والقمر يروي ما داما دائبين، ونحن المنصتون مبهورين بما نسمع من حكايات الصحراء المبثوثة على مرآة الرمل المفتوحة على الآماد والتي يسميها الناقد زهير الجبوري سلطة الفراغ.. حتى إذا أتينا قصص المعفاة ألفيناها تعرض واقعا مفترضا، وتفرض واقعا في بلدة ما، ربما تكون السماوة ، ربما يكون العراق ، وما بين الواقع المفترض ، والواقع المفروض، يمكن ملاحظة المقارنة من خلال الامتلاء الداخلي والخارجي للواقعين بالأحداث المعلن منها والمخفي.. والقارئ للمجاميع الثلاثة سيرى وبكل وضوح سيماء التجديد والمغايرة في اللغة والمواضيع وطريقة طرحها.. أما أنا فما زلت غير راض عما حاولته لحد الآن، ومن فضائل عدم الرضا البحث الدائم عما هو جديد، والحفر في اللغة والمواضيع وخلفيات القص”.
مرائي الصحراء المسفوحة..
وعن (مرائي الصحراء المسفوحة) يقول: “في كتاب المرائي، هناك انتقاله من الاشتغال على المروية الشفاهية لتحويلها إلى قصة فنية كما في مجموعة ما ترويه الشمس، ما يرويه القمر إلى الحفر في الخلفية الميثولوجية الصحراوية، واستغلال المكان الصحراوي كسداة لنسج غزل حكايات الصحراء، فكتاب المرائي هو بوتقة تنصهر في متون نصوصه/ الأمكنة/ الأزمنة/ الميثولوجيا/ التأريخ/ الأساطير/ المرويات/ الشعر/ المينوغرافيا/ السحر/ الجن/ الحداء/ القصيد البدوي/ لتنتج أحداثاً من عالم رملي لا يُرى سحره الباطن إلا من خلال عين المخيال، وهو محاولة في حفريات النص الصحراوي المؤثث بالكائن الحي.
نصوص المرائي هي التنصت على صمت الصحراء المكتنز بالحكايات الغرائبية ، وأحسب أنها تجربة جديدة في ثقافة الأمكنة.. هناك في المرائي مشاركة في صنع الأثر الكلي بين الحكاء والقارئ، وقد أختار الدكتور لؤي حمزة عباس المرأى المعنون (دلو في بئر بصية) ليكون أحد فصول كتابه (المكان العراقي) الذي صدر في بيروت، رغم أن المرائي لم تصدر بعد”.
كتابة الجمال..
وعن هواجس كتاباتك التي تنشغل بالهم الإنساني العام، والهم العراقي وكيف يتسنى كتابة الجمال في الخضم المشوه يوضح: “القصة ليست كالشعر الذي هو وليد قدح اللحظات.. القصة أو الرواية هي نتاج رحم المعاناة، والكاتب هو دفة التغير في سفينة الحياة التي تمخر عباب الزمن محملة بهموم الإنسانية كافة.. عندما نقرأ أمهات القصص العالمية سواء في زمن الحروب/ الإقطاع/ البرجوازية/ الفوضوية/ الأوتوقراطية/ الدكتاتورية/ نجد أن الهم الإنساني هَمٌ واحد، إذن عندما تكون العذابات أقسى، تكون الكتابات أجمل، ولذلك فقد لامست ذاكرتي، ثم تجسدت أمامي وقائع رواية (وقت للحب، وقت للموت) للكاتب الألماني أريش ماريا ريمارك عندما كنت جنديا في الحجابات في جبهة مجنون أبان الحرب العراقية الإيرانية..
وكنت كلما تناسلت النوائب من حولي، قرأت قصة من الأدب الروسي الذي هو أدب إنساني بكل معنى الكلمة، حيث أشعر كأن ذلك الكاتب إنما قصدنا نحن العراقيين بأحداث قصته تلك.. من هنا نخلص إلى أن العذاب العراقي هو جزء من العذاب الإنساني، ولما كانت عملية الكتابة هي المواكبة والتجسيد/ التأريخي/ التسجيلي/ الفني/ الواقعي/ المخيالي/ للأحداث وأزمنتها وأمكنتها، فإن هناك الكثير من السمات المشتركة في عذابات الشعوب، ولا يمكن لكاتب يؤمن بأن الكتابة هي عملية/ استشراف/ توعية/ تنوير/ تحريض/ تغيير/ أن يتنصل عن واجبه في الكتابة عن هموم وطنه، وعذابات مجتمعه، وأقول جازماً أن لا وجود للكاتب غير الملتزم، فالكتابة هي أحد أوجه الالتزام، أن لم تكن الالتزام بأكمله”.
جنون المثقف..
وفي حوار آخر معه عن نصه “القناع” أجرته “ميادة أبو شنب” يقول “حامد فاضل” عن كون شخصية المجنون تسكن المثقف في المجتمع المنغلق: “من المعروف والمؤكد أن المثقف غريب في المجتمع المتخلف والمنغلق.. نعم يستطيع المثقف التكيف مع المجتمع المتخلف ثم يعمل على تغييره، وتلك هي رسالته، ولكنه يصطدم بمصدات سلفية المجتمع المنغلق الذي لا يجنح إلى التغيير لأنه يعيش ضمن إطار الماضي، فهو إذن لا يدرك أن الحياة حالة متجددة تستبدل عالماً قديماٌ بعالم جديد.. بينما يستشرف المثقف أثر الواقع Real Effect ضمن تلك التفاصيل الجزئية التي تأتي ضمن سياق السرد الوصفي وهو المفهوم الذي أكده بارت Barthe . ولأن المثقف يعيش الحاضر مفكراً للمستقبل، إذن لا يمكن أن يحل الانسجام بينه وبين الواقع المنغلق، وبالتالي سيكون عليه العيش ضمن واقع بديل يخلقه لنفسه، وقد تنتج عن هذه القطيعة بين المثقف والمجتمع المنغلق حالة فصام وهناك شواهد كثيرة على مثقفين مرضى أو أنصاف مرضى بسبب عدم الانسجام مع مجتمعاتهم”.
قصة “الفريسة” ل”حامد فاضل”..
“أنت يا امرأة تَسَيَدْتِ منبر الليالي، وظللتِ عاكفة في حضرة التاج والصولجان، تحرقين البخور، تشعلين الشموع، تعرضين بضاعة الحكي، وتنثرين حلوى الكلام، تقصين الحكايات وتطيلينها كي تطيلين عمرك، تَرْشين جلادك بالقصص كي لا يجرد السيف من غمده.. نعم أنت، أعنيك أنت، ألست التي اتقيت بدرقة الحكي سيفاً تسلط فوق رقاب العذارى، حيث لم تكن فيهن واحدة مثلك تجيد نسج الحكاية بنول الكلام.. ألا تسمعين! الديك صاح، أتى الصباح، ولم يعد الكلام لك مباح، لك أنت منبر الحكي في الليالي، ولي أنا منبر الحكي في الصباحات.. لقد جاء دوري، فهلا تخلين لي زمام الحكايات، هلا سكت وأعطيتني فرصة للحكي.
وستسمعين ما لم يحك من قبل للخلفاء، أو الملوك، أو المدمنين الأرق، وقد تسألين: من أنت يا من أتيت تنفخ في الصور لتوقظني من سبات طويل؟ فأجيب: أنا غير ذاك الذي ظللت لألف ليلة وليلة تقصين عليه أجمل القصص، وتخشين أن يصله بريد الملل، فلا قصر عندي، ولا فوق رأسي تاج، ولا بيدي صولجان، ولا جند تحمي ثغور قلاعي، ولا يسرع بين يدي الخدم.. أنا أيتها الحكاءة حكاء مثلك أعرض بضاعة الكلام كما تعرضين، فدعيني أنصب خيمة في غابة الرمل لتسترنا من الريح، وشواظ الشمس، ومن المختلسين النظر، سؤقد كانون نار من غضا البيد، وأتركه كي يشيع في الخيمة الدفء، أدس الدلال بجمر الغضا، أعطر القهوة بالقرنفل، أصبها بالفناجين، وأعد لك متكأ يطل على مرايا من الرمل مسفوحة بلا أطر، حيث لا مصدات تمنع عينيك أن تسرحا في مراعي المدى الشاسعات.. هلمي تعالي لأحكي لك، وأصبري فالحكاية عندي مقدسة، لها طقسها وشعيرتها، فلا مشموم يزين مائدتي، ولا زق خمر يترع كأسي، ولا ندماء أجالسهم/ ولا في خزائني غنائم حرب/ ولا نساء سبايا إذا ما انتشيت أضاجعهن، وأقتلهن إذا ما غضبت/ ولا شعراء/ ولا محظيات، ولا راقصات/ ولا عازفات/ ولا من تغني آخر الليل لي بمجون لتثيرني قبل أغارة خيلي على ثغور الحسان..
هلا اقتربت، نعم هنا مكانك جيد، خذي راحتك، سأستهل حكايتي مثلما كنت تستهلين فأقول: بلغني أيتها الراوية السعيدة، أن بدوية معمرة رشيدة، عاشت ببادية السماوة العتيدة، حكت لأحفادها قرب موقد الشتاء حكاية عن صبية قصدت البئر تستسقي منه ذات صباح، فقالت: الليل قوض بيته وراح ينأى تاركاً وشماً من الغبش الشفيف على التلال، وبدا لعين الأفق بَيْتُ الشَعْرِ خالاً فوق خد من رمال، وعلى ضفاف الفيضة الخضراء حطت قبرات، واختفت في فروة العشب المبلل بالندى، وتطلع الصقر الذي يختال أعلى وكره بالحبارى العائدات الى الديار، لعل أحداهن تنظر في عينيه فتعرف أنها طريدته، سيفصلها الخوف عن سربها/ تحط/ تحلق/ تناور/ تهرب/ تقاتل/ تتخبط / ترشقه بالذروق ولكنه يصطادها لا محال..
وسيفرد النسر جناحيه، يبكر في ارتقاء الجو بحثاً عن طرائد ، ولربما انسابت أفاعي الرمل نحو جحورها ملئا البطون، أو قد يمد الضَبُ كفاً كي يعيد حصاته التي تُرِكَتْ طوال الليل خارج جحره، ويروح يلحس ما تجمع من ندى فوق الحصاة ، وإذا هوت من فوق (كارتها 1) القريبه حجارة، سحلية ستزوغ عنها، ويختفي اليربوع خوفاً من ( السلوقي 2) المفكر بالفطور.. الليل ولى ساحباَ أذيال ثوبه، وكائنات الليل تتبع ليلها، والفجر يختال بخطو وئيد، لتستهل الكائنات نهارها، هي سنة الصحراء مذ وجدت، لا آكل يبقى ولا مأكول، وهناك خلف ستارة الغيم الشفيف، قمر خجول متشبث بالأفق لا يرضى الأفول، لكنه سرعان ما ينقلب على عقبيه، حين يرى سفيرة الفجر الجديد، محمولة على سنام الشرق، وكأنها بدوية في هودج فوق البعير، وعلى سجاجيد الرمال بها يسير.
حيث الكلاب المتعبات الناعسات، بسطن أذرعهن بعد ما بحت حناجرهن من النباح.. ومن المدى المسفوح نحو الأفق صوت قد تناهى إلى بعير جاثم قدام بيت الشَعْرِ: ( نِجْرُ3) الشروق يُدَقُ فانهض أيها الفحل الذي وسموه (بالمرياع 4)، وَقُدْ إلى المرعى النياق، فرغى البعير يقول: أني قد أفقت وأيدته أناثه، فعلا الرغاء لِيُسْمِعَ الشمس التي لما تزل تخطو على مُهَلٍ، وبأثره سُمِعَ ثغاء أطلقته بعض أكباش القطيع، لكنه قد ضاع حين علا النهيق من الحمير.. وأَذّن الأفق المضمخ بالندى: يا كائنات البادية، هبي فذا فجر وليد، قد جاء يطرق باب يومكم الجديد، ومنازل الصحراء غير بعيدة عن نوره.. الليل ولى والصباح أتى لينصب خيمته، يعد موقده ويذكي جذوته، حتى إذا ما جاءت الشمس البتول، تخطو على الرمل البليل، ستهلل الصحراء هامسة بصوت العشب، حفيف أغصان السدر، وخفق أجنحة القطا، وتعد متكأ لها كي تستريح.
هو هكذا أمر الصباح في كل يوم حين يسفح ضوءه فوق الرمال، تقوم منشدة إليه البادية، فيسير في خطو وئيد، ويروح يستمع النشيد، وعلى النشيد تقوم صحراء السماوة كي تضيف لعمرها يوماً جديد .. وأزيح شك الخيمة السوداء عن بدوية هرعت الى الكانون، أذكت جذوة تحت الرماد، فانساب منها أفعوان من دخان، ولسان نار صار يلحس بالدلال، نهضت فبان قوامها كغصن الخيزران، صبية سمراء فارعة، وكأنها خلقت لتعشقها الفلاة ، سبقتها رائحة الأنوثة إلى أجمة البئر القريب، وهي تسير كأنها (خشف5) يروم الورد من ماء ( القليب6)، قبضت بكف مثل قبرة على الحبل الطويل، أدلت بدلو، أترعته بما تدر الأرض من أثدائها ماء قراح..
ومثلما انكشفت لعين الشمس وافتتنت بها، انكشفت لعينين كامنتين في لحية العشب الكثيف، هي لم تكن تدري بأن هناك كائن من كائنات البَرِ يكمن قربها، ما ناش مخلبه صيداً طوال الليل، أو ذاق الطعام، قد شم منها طيبها، ورأى إلى الوجه الصبوح، فصار يلهث واللعاب يسيل من شدقيه، ولأنه/ الحذر/ المخطط / والدقيق/ راح ينسج خطةً، وبنظرة المتمرس القناص مسح الجهات، لا انسٌ لا جِنٌ هناك سوى الصبية، هي وحدها والفجر والبئر القديم، وبدت لعينيه اللتين تتلظيان كجمرتين، مشغولة تستسقي ماء البئر، شفتاها تبتسمان فربما كانت تغني لنفسها، لا لم تكن تثير صوتاً أي صوت، هي كالغزالة في وداعتها..
سحلية مرت سريعاً قربها لم تنتبه، والكامن الوحش الذكي تلمظ، وراح يحصي ما تناثر من أثاث حول منطقة الكمين، قدامه الصحراء مسفوحة، وعلى الرمال آثار أقدام، ووشم زواحف، وقوافل من النمل تسعى، وهناك أخدود صغير، وأشجار سدر، وسيقان حلفاء، وعاقول، وعرد، وشيء جاثم لم يستطع تعريفه، وزنار أعشاب يطوق خصر البئر، وأساور أحجار مدورة، وحصى عبثت به كف الطبيعة.. الرمل مسفوح على مرآته، والكائنات نضت ثياب الليل، والصبح حلقّ مثل حمامة بيضاء، والسماء تظلل الصحراء، تنصب خيمة زرقاء، وثمة غيمة شفافة بيضاء مرت محلقة على بساط الريح، وهناك في الأفق البعيد ضبحت خيول الصبح، وهو أبن ليل لا يليق به التجول في الصباح، وأخيراً اتخذ القرار..
سار كأنه لم يسر، محاذراً أن تنكشف عباءة العشب التي يتلفعُ، ثم انبطح، وصار يزحف كي يسد الدرب في وجه الصبية، هي لم تره لكنها علمت به من قلبها ولسانها.. القلب لاذ بجوفها، وبحلقها احتبس اللسان، أطرافها شلت، فتكومت فوق الرمال.. ورأته وهو يمر مثل البرق من قدامها، ويدور حول البئر مثل الزوبعة، عيناه صفراوان تتلظيان لكنه يتحاشى أن يلتقيا بعينيها.. هي لم تر من قبل ذئباَ رغم أنها تلتقيه ويلتقيها في المنام، والذئب ضيف دائم في حكايات الخيام، الموقد الشتوي والدفء في بيت الشَعَرْ/ الجمر/ والدلة/ والفنجان/ والقهوة/ والهيل/ والزعفران/ وحكاية لا تخلو من ذئب يصول على قطيع، فيقتل الكبش الكبير، ويخطف الحمل الوديع، ومن رجال بارعين، صرعوه في غمضة عين، ومن كلاب حتى الممات تقاتلت هي والذئاب، ومن حكايا أخريات فيها الذئاب تحن على الصغار من الجراء، وتحفظ البِرَ للوالدين..
هي لم تره من قبل لحظتها هذه في الصباح، لكنه في ليلها دوماً مقيم/ ذئب/ وديع/ جميل/ طويل/ رشيق/ جسور/ سريع/ يخرج من محراب حلم جميل/ بفرو كثيف/ وعينين صفراوين/ وأذنين قصيرتين/ وبوز طويل/ وخصر نحيل/ ويدين قويتين/ وساقين رشيقين/ وذيل غليظ/ يروح يداعبها في حنين، فتمسح بكفها في حنو على رأسه، فيلقي به على صدرها، يكور جسمه في حجرها، ويغفو كطفل بمهد صغير..
ولكنها الآن في غير حلم، هي وحدها وذئب خطير، هي وحدها فبمن تستجير، وما حولها غير بئر عميق، ودلو قديم، وعشب طويل، وسدر كثيف، وكثيب رمل، وكوم حجارة، وحفنة من حصى، ولا سلاح لديها إلا إيمانها بالعلي القدير، وما فوقها غير خيمة الله، وما تحتها غير ما بسطته يداه، فكيف لها أن تقدّر ما سوف يحدث، وأنى لها بمعرفة ما قد يصير.. ها هو الذئب يستعرض قدامها كل ما قد يخيف، هو ليس ذلك الذئب الذي رأته مرارا بأحلامها، إنه الآن ذئب حقيقي، ربما لم يصب ليلة الأمس صيداً وفير، وها قد رآها كصيد يسير، فمتى يا ترى سيهاجمها، ليذبحها ويقطعّها ويأكلها كطعام شهي، ورأته يتحرك قدامها، يتقدم منها، وينأى، وهي ما بين إقدامه وإحجامه/ تموت/ وتحيا/..
تسلق صخرة، فتسلق قلبها خلفه، وضع يديه على قمة الصخرة فازداد طولاً، رفع رأسه فبان جمال عنقه وصدره، وترّ أذنيه ومدّ ذيله، قدم ساقاً وأخر أخرى. فكرت ربما لو أنها ركضت الآن نحو خيمة العائلة، فهل يتركها الذئب خشية أن تراه الكلاب، ولكنها فضلت أن تظل ساكنة كي لا تثيره فيهاجمها.. نزل الذئب من على صخرته، وعاد إليها يسير ببطء شديد، فراقبته بعين امرأة يسربلها الخوف من قمة رأسها إلى أخمص القدمين، فرأته حين يمد يده اليمنى الى أمام، يغرز مخالب كفها بالرمال، وحين يؤخر يسراه يحني كفها نحو بطنه الضامره، ، تارة يرفع ذيله، وتارة يصفع به وجه الرمال، وفي لحظات قصار تراشق هو والفريسة بالنظرات، عيناه خارقتان من نسج الخيال، عيناها مكحلتان بكحل العذارى، ولأنه لم ير من البشر غير الرعاة، ولأن له قدرة التميز بين الذكور وبين الإناث، ولأنه يعرف من خاف منه ومن لا يخاف، أقعى أمام تلك الصبية، وراح يتملى خُلَعَ الجمال التي جاد بها عليها الإله..
الطول روطة خيزران، الجبين فلقة فجر، القَصيبتان غصنا ربيع، العينان فيضتان، الحاجبان هلالان، الأنف (شاهول ) سبحة ، والفم فردة تمر.. وراحت هي تتملى جمال الذئب الذي أترعتها بالخوف منه الحكايات. أذنان بلون الحناء منتصبتان، يبطنهما شعر ناعم مصفر، وصليب من فرو معتم ينزل من جبهته حتى أسفل عينيه، خطمه رمادي، أنفه أسود، ولسانه مبلل باللعاب، يلهث وقد سال أسفل حنكه فرو كعشب هائج، فيما تلفع فروة بلون ستارة الرمل التي تسدلها الريح على التلال.. نظرت إلى عينيه، فغض بطرفه، وتساءلت أوحش وخجول!..
قام، فقامت، ولكنه لم يدنو منها، وبدا لها وكأنه لم يكن يتهيأ للانقضاض.. أيعقل أن يفترسها الذئب وهي قريبة من أهلها، وكلابهم لما تزل أمام خيمتهم باسطة أذرعها بالوصيد، ربما تفطن أمها لتأخرها فتأتي للبحث عنها، أو يمر من هنا أحد الرعاة فْيفهِمَ الذئب أن كرته خاسرة، ربما يعطش كلبها فيتبع رائحتها إلى البئر عندها سيرى الذئب أي كلب يواجه: غيري أيتها الريح اتجاهك لتشم الكلاب رائحة الذئب.. فكرت لو تتراجع ببطء لترى ردة فعله، خطت إلى الخلف خطوة واحدة. ضرب الذئب الأرض بذيله، وتقدم ليبقي المسافة على حالها.. تذكرت الصبية أن الجدات ذكرن في حكاياتهن أن الذئب يأنف أن يفترس امرأة تكشف عن مفاتنها، فاستغشت ثوبها كاشفة ما بين ساقيها تاركة زمام حياتها بيد القدر.. تفاجأ الذئب بحركة الصبية، توقف عن جلد الأرض بذيله، وعاد ليقعي قبالتها صامتاً.. طال/ الصمت/ السكون/ الانتظار/ وصدر الصبية ليل شتائي تضج به طبول الرعود.. لم تتقهقر وهي تترقب لحظة الانقضاض، التي تقهقرت هي ذاكرتها، إذ رأت جدتها التي طواها الثرى قبل عام، جاءت تتوكأ على عصا من الخيزران، أخائفة سألتها وأنت ابنة البادية!؟، ربيت في حجر جدتك التي بعصاها كانت تطارد أعتى الذئاب..
وتذكرت أنها أنقذت مرة ظبية غرزت بالرمال، حملتها إلى خيمة الشَعْرِ، أطعمتها، سقتها، وتركتها لتغفو قرب الرماد الذي لما يزل دافئاَ، فكانت صديقتها التي أحبتها أكثر من كل جدي جميل يزدان به قطيع الشياه، حتى إذا خطفتها الذئاب في ليلة جفاها القمر، بكتها كثيراَ، ورثتها بما تحسنه من قصيد.. وتساءلت تُرى لِمَ لَمْ تأت كلبتي النسرة إلى البئر كعادتها كل صباح؟ ربما هي الآن متمتعة بأمومتها، غافية على دغدغات الجراء التي ولدت منذ أيام.. ولم تدر أني وذئب هنا، والمسافة التي بيننا يحددها مخلب ويقصرها ناب..
فريسة أنا هنا، ومفترسي ذئب، وخيول الوقت جامحة، أحس وقع حوافرها بين الحياة وبين الممات.. الوقت ذئب آخر كلما مَرّ قربني من مخالبه، أنا هنا ومفترسي ذئب، سيفعل بي كما يفعل بكل فرائسه، سيمزق صدري ليأكل قلبي، يلتهم أحشائي، ثم يحمل ما تبقى إلى مغارته، ويترك ثوبي ممزقاً مصبوغاً بالدم ويمضي/ شبعاناً/ رياناً/ منتشياً/ لأنه لبى حاجته وأنجز ما عليه.. شعرت برغبة شديدة لقضاء حاجتها، ولكنها لم تتحرك/ الوقت يمضي/ القلب يدق/ الأطراف ترتجف/ والذئب يقعي/ وهي/ وهو/ والبئر/ والدلو/ والعشب/ والرمل/ والشجيرات/ تحت كساء السكون، وحتى الهواء أناخ ناقته لتبرك بثقل كلكلها على البئر وما حوله/ سكون/ صمت/ انتظار/ فلا صوت يصدر من الذئب، لا نأمة، ولا حركة، ولا صوت يصدر من الصبية غير صوت تنفسها، ودقات قلبها..
فتأكدت أن الجدات أصدقنها القول بشان عفاف الذئاب، أعادت ثوبها لتستر محارمها فلم تر الذئب.. كان الذي يواجهها رجل يتأملها باشتهاء”.
وفاته..
توفى “حامد فاضل” يوم الثلاثاء 15 يونيو 2021م عن عمر يناهز الـ71 عاماً.