27 ديسمبر، 2024 10:46 ص

جيل الستينيات .. الحركة التجديدية الأقوى في الثقافة العراقية

جيل الستينيات .. الحركة التجديدية الأقوى في الثقافة العراقية

قراءة – سماح عادل :

في الستينيات ظهرت حركة أدبية وثقافية قوية ومجددة في العراق، امتدت ليس فقط إلى الأدب، شعراً ونثراً، وإنما شملت الفن التشكيلي والمسرح، وكان بها شباب كثيرون سعوا إلى عمل نهضة ثقافية لبلدهم العراق، اعتماداً على فهم جديد وجرئ للعالم والحياة، متأثرين بفترة الستينيات الشهيرة التي كانت بالنسبة للعالم أجمع أحد فترات التحرر الهامة.

الاتهام بالانهزامية..

أنصف كتاب “الروح الحية جيل الستينيات في العراق” لفاضل العزواي، إصدار دار المدى، جيل الستينيات والذي ينتمي المؤلف له، حيث قدم تحليلاً موضوعياً لظهور هذا الجيل، اعتماداً على الخلفية السياسية والاجتماعية لوقت ظهوره، يقول “العزاوي” في كتابه: “تعرض جيل الستينيات من الشعراء والأدباء في العراق، من جهات سياسية مختلفة، إلى الاتهام بنشر روح اليأس والهزيمة، وتبني المدارس والأفكار البرجوازية المنحطة، والتنكر لحركة الثورية، وكان الهجوم على هذا الجيل من الأجيال التي تلته، والتي شعرت بوطأة الدور الذي لعبه بعض من ينسب نفسه إلى الستينيات، في الهيمنة على المراكز الثقافية في العراق لعقدين من الزمان”.

الظهور..

يقول العزاوي: “في أواسط الستينيات، عندما ظهرت الأعمال الستينية الأولى، التي شكلت بذرة الاتجاه الجديد، كانت التسمية التي أطلقت على هذه الظاهرة “الموجة الجديد” و”أدب الاحتجاج” و”الكتابة المضادة” و”الكتابة الحرة” و”اللا قصيدة”، ولم يظهر مصطلح “جيل الستينيات” إلا بعد سنوات من ذلك، ضمن الكتابات النقدية، وغالباً من خصوم الحركة الجديدة، أثرت روح الستينيات كعقد متميز في تطور الوعي، ليس على المستويين العراقي والعربي، وإنما على المستوى العالمي أيضاً، بطرق مختلفة على الكتاب والفنانين الجدد، وتركت تأثيراتها على كتاباتهم، التي تنتمي إلى اتجاهات جمالية مختلفة، على المستوى الكوني غيرت فترة الستينيات، بحساسيتها الإنسانية الجديدة، الكثير من الرؤى المحافظة القديمة، وفتحت الطريق أمام التحرير الشامل للإنسان من أوهام وعبوديات فكر الماضي (الحركة النسوية، التحرير الجنسي، إعلان موت الايديولوجيات الشمولية، رفض كل سلطة وتقديس العفوية، مقاومة الرأسمالية والاشتراكية الستالينية على حد سواً)، فإذا كانت الحركة الستينية هناك قد اتخذت طابعاً جماهيرياً في الغرب، وخاضت طيلة أعوام معارك شوارع عنيفة ضد السلطات، فإنها اقتصرت في العراق على الأدب والفن وحده، بدون أي قاعدة شعبية فعلية”.

مضيفاً “امتلكت الحركة الستينية العراقية فرصتها لتقدم نفسها ثقافياً وأدبياً، ضمن الكثير من التباسات التطور في المجتمع العراقي، بعد فترة قصيرة من سقوط حكم البعث أواخر عام 1963، ضمن الانفراج السياسي النسبي الذي أعقب تلك العاصفة الدموية، وقد استمرت تلك الحركة التجديدية على مستوى الفكر والموقف والإبداع، رغم الهجمات القاسية التي كانت تتعرض لها حتى تموز/يوليو 1973، عندما أعلنت الجبهة الوطنية بين حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، والحزب الشيوعي العراقي، فقد تضمن البرنامج الثقافي لتلك الجبهة، التي افتقرت إلى أي شكل من الشرعية الديمقراطية، ما يمكن اعتباره تحريماً لكل الإبداع الستيني، من خلال إعلان الجبهة الحرب على ما أسمته “الأفكار والنظريات الليبرالية”.

قمع الحركة..

السياب

يواصل الكاتب: “وجد الستينيون، الرافضون لفكرة إخضاع الإبداع للسلطة، أنفسهم عملياً تحت رحمة شرطة الفكر، بطريقة لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل، في مواجهة هذا الواقع الصعب كان ثمة من فضل أن يطرق أبواب حزب البعث، ليضمن سلامته، وآخرون لجئوا إلى الحزب الشيوعي، آملين في حمايتهم لهم، وبخاصة أن الصراع الخفي تارة والعلني تارة أخرى بين البعثيين والشيوعيين ظل مستمراً في ظل الجبهة أيضاً، واتخذ أشكالاً مختلفة في الأعوام الخمسة للجبهة، التي انتهت بطريقة مأساوية في أواسط 1978، لم يتم الإجهاز على الرؤية الستينية فحسب وإنما جرت محاولات بائسة لتزوير حقيقتها ومعناها، بعد أن تكفلت الرقابة الحكومية بطمس أسماء روادها الحقيقيين، الذين اضطر الكثيرون منهم إلى مغادرة العراق حفاظاً على حقهم في حرية التعبير، أن الأصوات الستينية المستقلة، التي قمعت بضراوة من قبل الجميع، كانت أثمن ما امتلكته الثقافة العراقية في كل تاريخها، ففي الثمانينيات والتسعينيات بلغ الانحطاط الثقافي المرتبط بفكر السلطة وحروبها وقمعها المستمر مبلغاً كبيراً، بحيث وجد العديد من كتاب السلطة القدامى أنفسهم مطرودين من الحفلة، أمام جيش جديد من أميي الثقافة الذين يعتبرون الإبداع جزءاً من وسائل الإعلام، لم يعد الإبداع محاولة للوصول إلى حساسية إنسانية جديدة، تجعلنا أكثر وعياً بزمننا، وعصرنا، وقضايانا، وإنما معلقات مديح كاذب للحزب الحاكم، ودعاية مخجلة للحرب والقتل والإرهاب”.

وعي شامل..

يؤكد العزاوي على أن “لا تشبه الستينيات العراقية أي عقد آخر من العقود التالية التي مرت بالعراق، الأمر لا يتعلق بتجديد شكلي مجرد للكتابة، وإنما بتحول كامل في الوعي الفكري والسياسي والاجتماعي فرضته الأحداث، هذا الانتقال من شكل للوعي إلى شكل آخر له هو الذي كشف لنا قصور الحركة التجديدية الأدبية الأولى، التي كانت قد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد الأمر يقتصر على صراع بين شعر التفعيلة والشعر العمودي، بين الوزن واللاوزن، وإنما صار يتعلق قبل كل شئ بمحتوى الكتابة ذاتها، والمثل التي تتبناها وتدافع عنها، إن ما نسميه جيل الستينيات هو طفل ثورة 14 تموز/يوليو 1958 الذي بلغ سن الرشد في أواسط الستينيات، أما الرواد فقد كانوا أباء هذه الثورة التي بشروا بها، لذا لم يستطيعوا التمرد على أنفسهم”.

الحركة الثقافية في العراق..

راصداً الحركة الثقافية من بدايتها في العصر الحديث، يقول العزاوي: “نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 أدت إلى مرحلة جديدة في تطور الحركة الثقافية العراقية، بتأثير التغيير الشامل الذي حدث للعالم، استمرت تلك المرحلة حتى ثورة 14 تموز/يوليو 1958، ومن ثم سقوطها في 1963، ارتبط الشعر الحديث بأسماء شعراء غيروا خارطة الشعر العربي، “بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وحسين مردان”، والذي كان رائداً لقصيدة النثر في العراق، وفي القصة كانت هناك أسماء بارزة: “عبد الملك نوري” الذي أصدر مجموعة “نشيد الأرض” 1954، و”ذنون أيوب” الذي نشر أكثر من مجموعة قصصية ورواية، و”غائب طعمة فرمان” المولع بتصوير الأجواء الشعبية، و”فؤاد التركلي” الذي نشر في العام 1960 مجموعة “الوجه الآخر”، و”محمد روزنامجي” الذي قدم قصصاً تقوم على تحليل الأعماق الداخلية لأبطاله، و”يحيى بابان، وغانم الدباغ، وشاكر خصباك، ونزار سليم، ونزار عباس، وعبد الله نيازي، ومهدي عيسى الصقر، وغازي العبادي، وموفق خضر، وخضير عبد الأمير”، لم يكن الجو الثقافي يقتصر على هؤلاء وحدهم، كانت هناك أسماء أخرى ذات حضور أدبي عام ، في الطليعة “جبرا إبراهيم جبرا، ونجيب المانع”، وفي المسرح كان هناك “يوسف العاني، وفخرية عبد الكريم، وناهدة الرماح، وإبراهيم جلال، وخليل شوقي، وسامي عبد الحميد، وقاسم حول”.

جبرا إبراهيم جبرا

وعن جيل الستينيات يرصد: “كانت اللوحة السياسية في عراق منتصف الستينيات متنوعة، تحمل أثراً من كل لون، وسر ذلك يكمن في ضعف الدولة وكفها عن التدخل في حياة الناس، مما مكن الشعراء والكتاب من العودة إلى أنفسهم، فالروح الجديدة التي أطلقتها فترة الستينيات داخل المجتمع العراقي، متخذة شكل الانتفاضة الثقافية، وكانت الأساس الذي تشكل عليه حركة الستينيات الأدبية، لقد قدم الستينيون ثمناً باهظاً في الدفاع عن منتجهم الأدبي، سواء قصائد أو قصص أو لوحات أو مسرحيات، فقد تعرضوا إلى الاعتقال، التعذيب، الفصل من العمل، والمنفى، كان الجيل الستيني في الحقيقة أول جيل أدبي يطرح بجذرية فكرة الثقافة المضادة لثقافة القرون الوسطى، ليس في الكتابة وحدها وإنما في الحياة وداخل المجتمع أيضاً”.

اتجاهات جيل الستينيات..

قسم “فاضل العزاوي” الجيل إلى “داخل حركة الستينيات الأدبية كانت هناك ثلاثة اتجاهات:

1 – الاتجاه الطليعي الممثل لفكرة الحداثة الشاملة.

2 – الاتجاه الشكلي ذو المنحى الأدبي الصرف.

3 – الاتجاه التجديدي المواصل لتجربة الرواد.

أبرز من مثلوا الاتجاهين الأول والثاني من مجموعة الشباب الذين عرفوا باسم “مجموعة كركوك”، ومن المنحدرين من أصول ماركسية، فضلاً عن الشبان المتأثرين بالثقافة الغربية عن طريق اللغة الانكليزية، أما ممثلوا الاتجاه الثالث فكان يضم تشكيلة متنوعة من البعثيين السابقين والقوميين، فضلاً عن المنحدرين من أصول ماركسية، ولكن معظم هؤلاء تخلصوا إلى هذا الحد أو ذاك من أوهام وسذاجات أحزابهم وحركاتهم السياسية السابقة، إن العلاقة بالحركة الستينية لا تتحدد بالأساس الزمني والعمري، وإنما في تبني الأفكار والقيم الجمالية الجديدة التي ارتبطت بالستينيات، وإلا فانه يمكن أن نعتبر الجميع ستينيين، من “محمد جميل شلش، وعلي الحلي”، وحتى “الفريد سمعان، وهاشم الطعان، وعبد الرازق عبد الواحد”.

مفصلاً: “كانت الكتابة عند ممثلي الاتجاه الأول تعني ما هو أبعد من النص الأدبي المجرد، وترتبط بالوعي التاريخي لإشكالية الحداثة بأفقيها العربي والكوني، بينما الاتجاه الثاني لم يكن يملك رؤية سياسية أو فلسفية، مما أدى إلى اقتصاره على النص الأدبي كتقليد للكتابة الأوروبية، وتقديس للترجمة بدون وعي للمعنى السياسي والاجتماعي للحداثة العربية، التي تختلف بالضرورة عن الحداثة الغربية، بسبب اختلاف شروطهما التاريخية، كانت الحداثة في نظر ممثلي هذا الاتجاه تعني مدى القدرة على التقليد الشكلي للنصوص الغربية، والاتجاه الثالث كان اتجاه مواصل لتجربة الرواد وامتداد لفترة الخمسينات”.

العلاقة مع القراء..

فاضل العزواي

يقول الكتاب “العلاقة بين الكاتب وقراءه انعدمت في الستينيات، حيث لم يعد الكاتب يعبر عن موقف مشترك، وإنما عن رؤية إشكالية جعلت منه نعجة سوداء في الأغلب، بسبب انعدام القاعدة الشعبية والثقافية المستعدة لتبني رؤياه عن أفق التطور الجديد، لقد بدا بعض الكتاب الستينيين وكأنهم يتعمدون إفزاع قرائهم بكتابات مضادة لكل ما كانوا قد تعلموه من قبل، وهذا يفسر الموقع الهامشي والنخبوي لهذه الكتابات في وعي الناس، وهو موقع أوجده التقصير في بعض الإبداع الستيني، الذي عزل رؤيا الحداثة عن قضايا تتعلق بالهوية والطابع التاريخي لتطور البنية العربية”.

العلاقة بالتراث..

حول التراث وعلاقة جيل الستينيات يبين الكتاب: “اعتاد النقاد اتهام الحركة الستينية بأنها ضعيفة الصلة بالتراث، وهم يقصدون التطور الذي حدث داخل اللغة وطريقة اقتراب الشاعر والكاتب من موضوعه ووعيه الجديد بوظيفة الأدب، ولكن رغم غليان الحياة الأدبية والفكرية في الستينيات العراقية فإنها وجدت الكثير من الصعوبة في تقديم نفسها خارج العراق”.

“فاضل العزاوي”، شاعر وروائي ومترجم عراقي، ولد في كركوك في العراق عام 1940، حصل على بكالوريوس في اللغة الإنكليزية من جامعة بغداد عام 1966 ثم سافر إلى ألمانيا ليحصل على الدكتوراه من جامعة “لايبتزغ”، ويعتبر من مؤسسي “جماعة كركوك” التي تضم “سركون بولص، وجان دمو، ومؤيد الراوي، وصلاح فائق”، والتي اهتمت بقصيدة النثر.

من رواياته..

1 . رواية “مخلوقات فاضل العزاوي العجيبة”، التي صدرت سنة 1969.

2 . رواية “القلعة الخامسة”، التي صدرت عام 1969، وتم تحويلها إلى فيلم.

3 . رواية “الأسلاف”.

4 . رواية “آخر الملائكة”، التي صدرت عام 1992، والتي ترجمت إلى اللغة الإنكليزية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة