“جوليان بارنز”.. اشتعل خياله منذ الطفولة متحديا أمه
خاص: إعداد- سماح عادل
“جوليان بارنز” كاتب روائي بريطاني..
ولد “جوليان باتريك بارنز” في مدينة ليستر الانجليزية سنة 1946 وتلقى تعليمه في مدرسة “سيتي أوف لندن” وتخرج من كلية “ماجدالين” في “اوكسفورد” سنة 1968 ثم عمل في معجم اوكسفورد للغة الانجليزية لمدة ثلاث سنوات ثم عمل صحفياً في ملحق التايمز الأدبي ومحررا في نيو ريفيو، وكان مساعدًا محررًا أدبيًا وناقدًا تلفزيونيًا لمجلة نيو ستيتسمان (1977-1981)، ونائب رئيس التحرير الأدبي لصحيفة صنداي تايمز (1980-1982) ومازال يكتب في الصحف مقالات متنوعة منها مقاله الأسبوعي في الغارديان “المتحذلق في المطبخ”.
نشأ بارنز في عائلة مكرسة حياتها لخدمات الأدب، كان والديه مدرسين للغة الفرنسية. شقيقه الأكبر “جوناثان بارنز” فيلسوف متخصص في الفلسفة القديمة وبسبب تلك الثقافة الفرنسية الموجودة في العائلة تأثر بارنز كثيراً بالتقاليد الكلاسيكية الأدبية الفرنسية ودرّس في فرنسا من عام 1966 إلى عام 1967، وحصل على درجة البكالوريوس في الآداب مع مرتبة الشرف في عام 1968 وهو يحظى بشعبية واسعة في فرنسا.
كانت زوجته “بات كافانا” وكيل أدبي بريطاني حتى وفاتها في 20 أكتوبر 2008 وكان قد تعرف عليها حيث أصبحت وكيلته الأدبية وارتبطا بعلاقة حب امتدت طويلاً جداً وحينما فاز بالبوكر صرح بأنه يهديها كل هذا النجاح الذي حصل عليه.
فيما يتعلق بحياته الشخصية، يحافظ جوليان بارنز على مستوى عالٍ من الخصوصية لا يعطي سوى مقتطفات من حياته الشخصية عندما يُجري المقابلات النادرة.
ضجيج العصر..
في حوار معه أجراه “جون فريمان” وترجمه “عبد الوهاب السليمان”: كتب المحاور تمهيدا عن رواية “ضجيج العصر”: “أسهمت رواية بارنز اﻷخيرة في التمدد لمنطقة أبعد. ضجيج العصر، الرواية المروعة والخاطفة عن المؤلف الموسيقي ديميتري سوشتاكوفيتش ومحاولته تأليف الموسيقى في عهد ستالين. يُفتتح الكتاب بديميتري المكتئب وهو يدخن سيجارة خارج باب شقته، مذعورًا من أي طرقة على الباب لدرجة النوم مرتديًا ثيابه، ثم إنه لا ينام بالمرة، منتظرًا مصيره في الردهة، ولا يريد أن يوقظ زوجته.
يصور بارنز في المئتي صفحة اللاحقة من الرواية عدد المساومات التي اضطر سوشتاكوفيتش إلى عرضها لقاء حياته، مظهرًا كيف كلفت هذه المقايضات سوشتاكوفيتش عاطفيًّا وفنيًّا. تقع أحداث الرواية في بلد شيوعي منهار، كما فعل بارنز قبلًا في روايته القصيرة (النيص) التي صدرت في عام ١٩٩١، ضجيج العصر عمل فتَّاك بمحاكاتها وبراعتها، وتبدو كمخطوطة شاهدة على العصر نُبشت من تحت اﻷرض، بعدما كانت مطموسة لإلقائها الضوء على سلطة ستالين وامتهاناتها الحادة.
جالسًا في منزله الواقع في شمال لندن، مرتديًا معطفه القطني السميك، شرح بارنز الذي بدأ مشواره في الكتابة واضعًا للمعاجم كيف يمكنه تحقيق التأثير في ما يكتبه، وتحدث عن البدايات الخاطئة قبل أن يعثر على النبرة الصحيحة كي تتجلى للقارئ حياة سوشتاكوفيتش المريعة من الداخل السوفييتي، ولا عجب في أن ذلك قد تحقق بفضل اختيار الكلمات الملائمة”.
يقول “جوليان بارنز” عن روايته “ضجيج العصر: “جربت أن أكتب الرواية بضمير المتكلم، كتبت نحو أربع صفحات عن رجل واقف خارج شقته، ثم توقفت. لا أعلم ما السبب وراء عدم جدوى ضمير المتكلم هنا، لم يُجدِ هذا اﻷسلوب بالمرة، إذ كتبت بالضمير الخاطئ. عدت إلى الرواية بعد تسعة أشهر، وبدأت كتابتها بضمير الغائب.
إنني أعتقد بصحة أنك ترتكب أخطاء جديدة مع كل كتاب جديد. على سبيل المثال، لنفترض أننا نكتب انطلاقًا من اقتباس لفلوبير، وفحواه أن الحياة الحديثة بلا أبطال أو وحوش، وبذلك على اﻷدب أن يخلو من اﻷبطال أو الوحوش، ونستهل الكتاب بومضة عن عودة الوحوش اضطرارًا، وأن الوحوش قد قتلت اﻷبطال جميعًا، فنعيش في عالم مليء بالوحوش وخالٍ من الأبطال. في النهاية سأمزق ما كتبته لما حواه من تشدق، وخلوه من الحس الروائي، إذ عليك البدء بنبرات مختلفة والصحيحة منها ما سيدخل حيز التنفيذ”.
وعن تعمده بناء الرواية بطريقة سيمفونية يوضح : “لا أظن ذلك. للكتاب ثمة سمات موسيقية من ناحيتَي التكرار والفكرة، لكنني أعتقد أن الشكل الموسيقي يختلف عن الشكل اﻷدبي، فالكلمات لا تعمل بطريقة الموسيقى. هنالك معالجة، وهنالك حس موسيقي. في الكتابة، يمكنك تكرار اﻷفكار، ويمكنك أن تبني موضوعًا، لكن لا يمكن لهذين العنصرين أن يتداخلا كما يحدث في الموسيقى. ما أعنيه، أنه يمكنك القول إن ثمة بطئًا في مقدمة روايتي، ثم تأتي النقلة اﻷولى كما في السيمفونيات الموسيقية. لم أفكر قَطُّ في كتابة الرواية بطريقة موسيقية”.
وعن أسلوبه في كتابة الرواية يقول: “حسن، أعتقد في حالة الروايات التي تحمل جانبًا من التاريخ والسيرة، كما المتخيل، أنها عبارة عن وجهة نظري الخاصة وأقول وجهة نظري ﻷنها لا تلائم معاييري الجمالية فحسب، بل واهتماماتي أيضًا وأفضل بعث للروح عن طريق اﻷسلوب، ومن استخدام العبارات وغرابتها، التي تُقرأ في مرات قليلة كأنها عبارات مترجمة. عبارة مثل “كان الضجيج عاليا بما فيه الكفاية لتشظية ألواح النوافذ الزجاجية” تبدو مربكة، وكأنها تُرجمت من الروسية.
في اﻹنجليزية نكتفي بقول “تحطيم النوافذ” أو شيء من هذا القبيل، ولكن “لتشظية ألواح النوافذ” أراها تمنح القارئ إحساسًا بالزمن والمكان والاختلاف. وأظنني لست مهتمًّا بكتابة شيء مثل: “لقد سار إلى الشارع كذا ثم شارع كذا، والتف يسارا، ورأى في الجهة المقابلة محل الحلويات القديم والشهير أو أيًّا كان”. هذه ليست طريقتي في خلق الزمان والمكان والإطار، وأفضل السرد المنثور على ذلك”.
وعن بطل الرواية شوستاكوفيتش في رسائله والذي يبدو أنه غارق في احتقار ذاته: “نعم، أعتقد أنه كان، في أواخر حياته، رجلًا محطمًا، محطمًا من قِبل الدولة، وطرأ في فكره بطريقة ما أنه عاش طويلًا وعليه أن يموت قريبًا. وكما ذكر في مفتتح الفصل الثالث: “إن أسوأ وقت ليس مثل أخطر وقت”. لقد أتوا من أجل القبض على روحه، ومن قراءتي له أنه في النهاية لم يستطع الانتظار حتى يموت وما تبقى سوى موسيقاه، حتى لا يضطر إلى التعامل مع الشيء المعقد الذي يُسمى الحياة، باﻹضافة إلى ذلك الشيء المفزع الذي يسمى السياسة والسلطة، فيما يمكن للموسيقى أن تهرب من الظروف الاجتماعية التي انبثقت منها.
أوه، إنني متعاطف معه بشكل كبير. أظن أنه بطل، من منطلق أنه قد نجا، ولقد فعل كل ما بوسعه لمساعدة اﻵخرين وحماية عائلته. لقد كان بارعًا في مطالبة الدولة والسلطة بمساعدة اﻵخرين، ولكنه لم يفعل الشيء ذاته لنفسه”.
إنتاج الأكاذيب..
في مقالة بعنوان (جوليان بارنز.. الأدب هو عملية إنتاج أكاذيب كبيرة وجميلة تجعلنا ندرك الحقيقة) كتب “رياض قاسم حسن العلي”: “حينما نشر “جوليان بارنز” أول أعماله السردية سنة 1980 وهي رواية “مترولاند” أخبرته والدته أنها منزعجة جداً منها بسبب ما تضمنته من محتوى جنسي وهي التي أخبرته عندما كان في العاشرة من عمره أن خياله قد صار متوحشًا للغاية.
لكن الشاعر والروائي الانكليزي “فيليب لاركين” كتب رسالة لبارنز قائلاً: “لقد استمتع بها كثيرًا” واستوحى “بارنز” هذه الرواية أثناء تنقله عبر مترو لندن حينما كان طالباً في المدرسة الثانوية وقد حاز بارنز على جائزة سومرست موم عن هذه الرواية.
هذه الرواية تحولت إلى فيلم سنة 1997 حيث كتب السيناريو “ادريان هوجز” وأخرجه “فيليب سافيل” وقام ببطولته كل من “كريستيان بيل” و”اميلي واتسون” وتلقى مراجعات نقدية جيدة حيث ذكر “ديفيد روني” الناقد السينمائي المعروف في مراجعته بمجلة Variety الأمريكية المتخصصة في الفن السينمائي والعروض المسرحية :” مخطط الفلاش باك في فترة باريس ودروس كريس وتوني المبكرة من ستينيات القرن العشرين منظمة ومباشرة للغاية، والملاحظات حول الإخلاص والالتزام والحل الوسط ليست جديدة. لكن الحوار الذكي الذي أجراه كاتب السيناريو أدريان هودجز ونهج المخرج سافيل المتواضع يجعل هذه التجربة أكثر إرضاء مما قد يشير إليه نطاقه الضيق”، ومن المثير للدهشة أن بارنز نشر هذه الرواية باسم مستعار مأخوذ من اسم زوجته. وفي سنة 1982 نشر روايته الثانية “قبل أن تقابلني” وهي قصة انتقام لمؤرخ غيور يصبح مهووسًا بماضي زوجته الثانية”.
الكتابة..
في مقالة بعنوان (جوليان بارنز.. كيف أصبحت كاتباً) ترجمة: “ميادة خليل”: “كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري كما أعتقد وأجلس مع أمي في الطابق الأعلى من الباص الأحمر ذي الطابقين. لا أتذكر عما كان يدور الحوار بيننا، لكني واثق من أني كنت متحررا مما يفعله الأطفال كنت أطارد الفكرة بعد الأخرى والكلمة بعد الأخرى. ثم قالت أمي: “لديك الكثير من الخيال” لم يكن يبدو ذلك توبيخاً قاسياً كان مثل تعليق لطيف أو حتى مسليا. لكني فهمت هذا “الخيال” لذا ليس من الضروري أن يكون أمراً سيئاً كان شيئا لا علاقة له بالموضوع لكن له علاقة بنهج الكبار الناضجين من أجل تحقيق طريق واحد في العالم وكسب لقمة العيش.
لذا كان مفتاح ذاكرتي ليس من التشجيع، التقدم المفاجئ في المعرفة، أو رؤية الطريق المحتمل أمامي، لكن من الإحباط، أو النصيحة لأبقي على عينيّ مفتوحتين. لكني أعتقد أن الكتّاب صُنُعوا بطرق مختلفة. بعضهم لديهم معلم ملهم، أو عم لطيف سمح لهم الركض بحرية في المكتبة، والخ”.
ويضيف: “أن تصبح كاتباً كان بالنسبة لي عملية معقدة تتكون من العديد من العناصر. لكن أحد هذه العناصر، وأنا واثق من ذلك إلى حد ما، كان التمرد اللاواعي على الأم. أنتِ تعتقدين أن الخيال مبالغة؟ إذن سوف أثبت لكِ أن الأمر ليس كذلك، سوف أثبت أن الارتباط العفوي بالطفولة يؤدي إلى خيال مقيّد، خيال اجتماعي مصطنع، سوف ترين ومن ثم تعرفين بأنكِ كنتِ على خطأ. هذه المواقف العدائية ليست مفتعلة على الإطلاق نحن كنا بريطانيين جداً في هذا الصدد. لم تعترف أمي أبداً بأنها كانت على خطأ. ليس لدي أدنى شك في أنها قد نسيت حورانا في الباص تماماً حتى صدور روايتي الأولى. لكن بطريقة أو بأخرى أشكرها على ذلك الإحباط”.