11 أبريل، 2024 5:01 م
Search
Close this search box.

جورج طرابيشي.. حاول تحرير العقل العربي الذي تحجر وانكفأ على ذاته

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتبت – سماح عادل :

“جورج طرابيشي”؛ مفكر وكاتب وناقد ومترجم سوري.. ولد في مدينة “حلب” عام 1939، حصل على الإجازة باللغة العربية والماجستير بالتربية من “جامعة دمشق”، عمل مديراً لإذاعة دمشق من (1963 – 1964)، ورئيساً لتحرير مجلة (دراسات عربية)، 1972 – 1984, ومحرراً رئيساً لمجلة (الوحدة)، 1984 – 1989.. أقام في “لبنان” عدة سنوات، ثم سافر بعد الحرب الأهلية، إلى “فرنسا” وعاش فيها حتى موته؛ متفرغاً للكتابة والتأليف.

الكتابة..

تميز “جورج طرابيشي” بغزارة ترجماته ومؤلفاته، حيث ترجم لـ (فرويد وهيغل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار) وآخرين. وصلت ترجماته إلى ما يزيد عن مائتي كتاب في الفلسفة والإيديولوجيا والتحليل النفسي والرواية. كما له مؤلفات هامة في الماركسية والنظرية القومية وفي النقد الأدبي للرواية العربية؛ التي كان سباقاً في اللغة العربية إلى تطبيق مناهج التحليل النفسي عليها.

من أبرز مؤلفاته: (معجم الفلاسفة) و(من النهضة إلى الردة) و(هرطقات 1 و2)؛ ومشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاماً وصدر منه خمسة مجلدات في (نقد نقد العقل العربي)، كان آخرها الجزء الخامس: (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) 2010، أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي، “محمد عابد الجابري”، في نقد العقل العربي، ويوصف هذا العمل بأنه موسوعي إذ احتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي ليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي، وقد حاول فيه الإجابة عن هذا السؤال الأساس: “هل استقالة العقل في الإسلام جاءت نتيجةً لعامل خارجي، وقابلة للتعليق على مشجب الغير ؟.. أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه ؟”.

مساره الفكري..

أهم مراحل المسار الفكري لـ”جورج طرابيشي”؛ هي الفكر القومي والثوري والوجودية والماركسية، وقد انتهى “جورج طرابيشي” إلى تبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.

جذور العلمانية في الإسلام..

في حوار مع “جورج طرابيشي”، أجراه معه “هادي يحمد”، في باريس عام 2010، يقول عن محاولته لعمل تأصيل تاريخي للعلمانية في التاريخ والتراث الإسلامي: “من الأسلحة الفتاكة التي حوربت بها العَلمانية، (بفتح العين نسبة إلى العالم)، في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي معاً القول إن العلمانية إختراع مسيحي، أو إستقراء لأوروبا المسيحية التي أوجدت العلمانية حلاً للصراع الكبير الذي إمتد أكثر من مئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت، وجاء عمل الإستشراق ليؤكد أن العلمانية هي بالفعل من وجهة نظر إستشراقية إبتكار مسيحي لا يمكن أن يطبق على التاريخ الإسلامي؛ لأن العلمانية موجودة بالنص التأسيسي للمسيحيين الذي هو الإنجيل، ولا وجود لها في النصين التأسيسيين للإسلام اللذين هما القرآن والسنة معاً. ولكن عَلام يستند هؤلاء المستشرقون في دعواهم هذه ؟.. إنهم يستشهدون بآية واحدة وجدت في الإنجيل، وهي قول المسيح لفقهاء اليهود الذين سادوه (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، واعتبروا أن هذه الجملة الوحيدة في الإنجيل ميزت بين حكم الدنيا وحكم الآخرة، وبين الدولة والدين، وبالتالي أمكن لأوروبا المسيحية أن تنجز العلمانية. ما وجدته في تاريخ الإسلام يعادل، بل يزيد بكثير عن هذه الجملة الإنجيلية المميزة بين الله وقيصر، ففي حديث الرسول؛ والمعروف بحديث “تأبير النخل”، حيث كان الرسول ماراً بحي من أحياء المدينة، فسمع أزيزاً فأستغربه، فقال: “ما هذا ؟”؛ فقالوا: “النخل يؤبرونه”؛ أي يلقحونه، فقال – وهو الذي لم تكن له خبرة في الزراعة: “لو لم يفعلوا لصلح”، فأمسكوا عن التلقيح، فجاء النخل شيصاً، أي لم يثمر، فلما أرتدوا إليه يسألونه قال قولته المشهورة: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وقد روى هذا الحديث – من جملة رواته – عائشة، وأنس بن مالك بصيغ أخرى”.

ويضيف “جورج طرابيشي”: “وفي حديث القضاء أيضاً معنى آخر لهذا الفصل، حيث يقول (إني أقضي بينكم بما أسمع، فإن قضيت لمسلم من حق أخيه بالباطل، فإني أكون قطعت له قطعة من جهنم)، فالرسول يعترف بالجانب البشري من شخصيته، وفيه شيء يؤديه عن الله أي الجانب الرسالي وهذا تمييز كبير أيضاً يؤكد التمييز بين المستويين الأخروي والدنيوي. إن الجملة الإنجيلية ليست هي التي صنعت العلمانية الأوروبية، بل العلمانية الأوروبية الحديثة هي التي اكتشفت أهمية هذه الجملة في الإنجيل، وأنا أقول الشيء نفسه في الإسلام فليس حديث (تأبير النخل)، هو الذي سيصنع العلمانية، وإنما عندما يحدث وعي علماني سنكتشف أهمية الجملة الموجودة في الحديث وغيرها. الإسلام على إمتداد تاريخه عرف إزدواجية الدنيا والآخرة، وإزدواجية الدولة والدين، والنبوة والملك، والخلافة والسلطان، فليست العلمانية من حيث أنها تميز بين المستويين بالجديد الطارئ على الإسلام”.

القطع مع التراث..

يجيب “جورج طرابيشي” عن سؤال عن وجوب القطيعة مع نصوص الأحاديث ونصوص القرآن كما يفترض أن يفعل المفكر الحداثي: “لا أنا لا أفسر الحداثة على أنها قطع، فالقطيعة المعرفية شيء، والقطيعة من النص شيء آخر، والحداثة هي قطيعة معرفية.. وما هي القطيعة المعرفية ؟: أن تتم على مستوى النصوص وفهمها، وإعادة تأويلها، وليس إهمالها، فنحن أمة تراثية، ملبوسون بالتراث من قمة رأسنا إلى أخمص قدمنا، وبالتالي لا نستطيع أن ندخل الحداثة عراة من هذه النصوص فهي مؤسسة لكل ما فينا. إذاً حتى ندخل الحداثة لا يجب علينا أن ننقطع من النصوص، ولكن يجب علينا إعادة تأويلها، وأن نربط النصوص بتاريخها وسياقها، ونفهمها على ضوء حاجاتنا نحن لا كما فهمها الأقدمون على ضوء حاجاتهم هم، وكما كان يقال: هم رجال ونحن رجال”.

العلمانية والصراع الطائفي..

يقول “جورج طرابيشي” عن العلمانية كحل للصراع الطائفي: “لا أربط ضرورة العلمانية بالصراع الطائفي، ولكن لا دواء للصراع الطائفي إلا بالعلمانية، والطائفية موجودة في كل البلدان العربية والإسلامية باستثناء حالات قليلة جداً، فحتى الجزائر التي قالوا إنها سنية مالكية بعربها وبربرها، مع أن مشكلة العرب والبربر هذه مشكلة كبيرة، ودون الدخول في التفاصيل فإن البربر يتقدمون برؤية تقدمية للإسلام، والعرب صاروا مع الأسف يقدمون رؤية نكوصية للإسلام”.

الثورات العربية..

خلال حوار آخر مع “جورج طرابيشي”، أجراه “عاصم الشيدي”، يقول عن قراءته لمشهد الثورات العربية: “عندما يكون الإنسان في قلب الحدث من الصعب أن يمسك بتلابيبه كله، وخاصة الحدث الذي يجتاح المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وليس محصورًا في بلد واحد ولكل قطر عربي تجربته الخاصة، ضمن السياق العام أنا مقيم في فرنسا من ربع قرن، ولست على تماس مباشر بأي بلد ولا حتى بوطني الأصلي سوريا، وبالتالي رؤيتي هي وجدانية عن قرب، ولكنها عقلية عن بعد، فلا أستطيع، ولست مجايلاً لهذه الثورات. وفي الواقع أفضل أن أسميها انتفاضات لأن الانتفاضات من شأنها أن تسقط أنظمة، أمَّا الثورات فليست مهمتها إسقاط أنظمة فقط، بل بناء أنظمة جديدة تتجاوزها وتتقدم عليها. السؤال الكبير هل ستنجح الانتفاضات العربية لأن تتطور إلى ثورات ؟.. هذا سؤال أساس في اعتقادي. وكل ما أستطيع أن أقوله، بدون أن يكون عندي أي توقعات نهائية لأن لكل بلد ظرفه الخاص ومعادلاته الخاصة. أعتقد أن إسقاط الأنظمة أسهل من بناء أنظمة جديدة، وقد يكون أقل كلفة من بناء أنظمة جديدة أيضًا، ونحن بالفرحة العامة بما حدث من الصعب أن نفكر بما سيأتي؛ ولكن باعتباري لست من المعارضين السياسيين بالمعنى السياسي العادي للكلمة، باعتباري ملتزمًا بنهج فكري أكثر مما أنا ملتزم بنهج سياسي، بكل فرحي بما حدث في العالم العربي وبكل إيماني بحتمية ما حدث لأن الأنظمة القائمة في كل مكان في العالم العربي تقريبًا، بلا استثناء، أنظمة سدت أفق التطور ولجمت حركة الواقع، وحركة التغيير التاريخي مدة نصف قرن، أنظمة مستمرة وليست من الصدفة أن تكون، حتى الأنظمة الجمهورية التي باتت تعرف (جملكية)، أصبحت جمهوريات وراثية تورث للأبناء ما تركه الآباء ولو استمروا لأورث الأبناء أبناءهم أيضًا. فأوصلتنا هذه الأنظمة القائمة في العالم العربي إلى طريق لم يترك معه مجالاً آخر سوى الانتفاض عليه لأنهم سدوا كل الطرق الممكنة للإصلاح أو إلى تطور يقود إلى الديمقراطية. ولكن هل سنستطيع أن تكون هذه الأنظمة وهذه الانتفاضات واعدة بما سينجم عنها من أنظمة جديدة ؟.. هل ستقودنا الانتفاضات إلى أنظمة ديمقراطية أم لا ؟.. أعتقد أن هذا دور المفكرين أن يطرحوا ذلك، هل الربيع العربي سيزهر أم سيتحول إلى صيف جميل، ولكن الربيع مفروض يأتي بعده الصيف”.

سوريا وإبتلاع الدولة..

عن سوريا، يقول: “لا تختلف حالة الإنسداد السورية عن غيرها. كل بلد له صورته الخاصة، ولكن الجوهر واحد. هي حالة الإنسداد نفسها التي عرفناها في رومانيا وبلغاريا والبرتغال. الصورة نفسها والمنطق نفسه حدث في سوريا على مدى نصف القرن الماضي، وهو أن السلطة إبتلعت الدولة، وهذا أكبر خطر في الداخل السوري. لماذا كل هذا وهي أول دولة، وكانت أكثر تقدمًا لبناء دولة لها شخصية سيادية مستقلة عن سلطة الحاكم. ما جرى في سوريا هو إبتلاع الدولة، السلطة أبتلعت الدولة، وقد اختلفت مع بعض الزملاء السوريين في هذا التقييم من الذين شتموا الدولة. أحدهم كتب كتاب الدولة ضد الأمة وأنا وقفت محتجًا وقلت إن السلطة ضد الدولة، ولذلك الصراع في سوريا ليس مع رجل الشرطة، الصراع في سوريا مع رجل المباحث. لقد ألغوا دور رجل الشرطة، ممثل الدولة، وأدخلوا ممثل السلطة وهو، رجل المباحث. أعتقد أن هذه هي الأزمة الحقيقية الكبيرة في سوريا، مع خصوصية سوريا المتعلقة بالتعدد الديني والطائفي والإثني. نحن أمام نوع مركب من قطاعات كثيرة تشكل في النهاية سوريا. أخشى ما أخشاه على سوريا هو تمزق النسيج الوطني والاجتماعي فيها. ليس هناك أية ضمانات بأن لا تتمخض إلى حرب طوائف وأقليات وقد يكون لها إمتدادات قوية بالنظر إلى أن العلويين لهم إمتداد تركي، والأكراد لهم إمتداد تركي وعراقي، والدروز لهم إمتداد إلى لبنان. المشكلة في سوريا معقدة كثيرًا وبصراحة أقول أحد رهانات النظام هو تجييش هذه المشاعر حتى تستقطب منها قوى تسانده. ولكن بغض النظر عن تكتيكات النظام هذه، هذا واقع في سوريا، هناك تخوف حقيقي من تحولها حرب طوائف وحرب أهلية، خاصة إذ تحولت المعارضة السلمية إلى معارضة مسلحة. عندما تتكلم لغة الدم تتوقف لغة العقل. ومع الأسف عندما تصبح الردود طائفية، كما حدث في مدينة “حمص”، تتجاوز حتى السلطات ويحدث القتال حتى فيما نسميه المجتمع المدني. الخوف الكبير أن سوريا غير مصر، وغير تونس وغير ليبيا طبعًا. هناك يمكن أن تأتي النتيجة عبر صندوق الاقتراع، أما في سوريا فأخشى أن تأتي نتائج الحرب المشروعة ضد هذا النظام القائم إلى بديل قد لا يقل بشاعة. بصراحة مطلقة وأقول شخصيًا وهذا نهاية موقفي: نحن بين حدين، وبالفعل نبكي فرحًا لسقوط هذه الأنظمة ولكن قد نبكي حزنًا للأنظمة التي ستحل محلها”.

نقد نقد العقل العربي..

يوضح “جورج طرابيشي” عمله في “مشروع نقد نقد العقل العربي”، وكيفية قراءة المشروع مع “محمد عابد الجابري”: “أعتقد أن ما من إنسان مفكر أو ناقد تحمس لمشروع الجابري كما تحمست له أنا شخصيًا، لأنه عندما صدر كتابه تكوين العقل العربي، وكنت أعمل في دار الطليعة في مجلة (دراسات عربية)، وأخذت قراري بالإرتحال من لبنان نتيجة الحرب اللبنانية وقررت الهجرة إلى باريس، بعد أن كنت هاجرت من وطني الأول سوريا نتيجة الظروف السياسية، خرجت من السجن إلى بيروت؛ المهم خرجت وأنا أحمل معي من المطبعة نسخة كتابه (تكوين العقل العربي)، وهذا الكتاب بدأت أقرأه وأنا في الطائرة، ولما وصلت إلى باريس مع كل قلق الهجرة، كان هذا الكتاب رفيقي. قرأته مرتين في أول أسبوع من إقامتي في باريس فمثَّل لي نوعًا من مرفأ أمان، وأُخذت به أي مأخذ، وكان أول مقال كتبته في باريس، في مجلة (الوحدة) وكانت شهرية، عن هذا الكتاب. أشدت به وبثورته المنهجية، وأذكر أنني قلت بالحرف الواحد: “هذا كتاب من يقرأه لن يعود، هذا كتاب ليس فقط يثقف بل يغير، فمن يقرأه لا يعود كما كان قبل أن يقرأه”. ومن ثم قامت علاقة صداقة بيني وبين الجابري، هنا قلت لك كانت خيانتي أنا نفسي. لماذا ؟.. لأني مع الأسف لا أريد أن أقول تفاصيل طويلة، هناك شاهد كان يعتمر في نفسي، الوحيد الذي كان لي مأخذ نقدي عليه، إنه لما درست في الجامعة في قسم اللغة العربية مر علينا “إخوان الصفا” ودورهم وكان عندي إنطباع أنهم أناس خدموا الثقافة والفلسفة، لم تكن الصورة المتكونة في ذهني عنهم صورة سلبية، والصورة التي رسمها الجابري لـ”إخوان الصفا” سلبية سوداء إلى أقصى حد. هنا المأخذ الوحيد. وكان عليَّ أن أعيد قراءة “رسائل إخوان الصفا”، فتفاجأت أن الشواهد التي إستشهد بها الجابري من “إخوان الصفا” شواهد مغشوشة. وهو موضوع كبير. وقال عنهم إنهم ضد الفلسفة وضد المنطق وقالوا إنه يجب أن يلغى المنطق في التعامل بين البشر. وأنا فوجئت عندما حصلت على المجلدات الأربعة من الرسائل، فوجئت من بداية فهرستهم لكتبهم يقولون: “يقوم المنطق للعقل مقام النحو للسان والكلام”. وعندما بدأت قراءة الرسائل، إذا بهم يشرحوا في الرسائل، من العاشرة إلى الخامسة عشر، ويخصصونها لشرح الفلسفة.. أعتقد أنه لم يقرأ رسائل إخوان الصفا، لا من قريب ولا من بعيد، وهنا أخذت قرارًا بتتبع شواهده، وهنا بدأ مشروعي مع الجابري”.

ويواصل “جورج طرابيشي”: “إنني اشتغلت ربع قرن مع الجابري، أعدت تفكيك جميع شواهده ووقعت على عشرات الشواهد المغلوطة والمقطوعة من سياقها والمفسرة من غير سياقها. ولكن ما الذي قدَّمه لي الجابري، وأنا له ممتن على كل ما وقع بيننا. أجبرني على إعادة ثقافتي التراثية أنا ابن القومية والوجودية وابن الماركسية وابن التحليل النفسي. طبعًا درست في الجامعة الأدب العربي وأعشق الشعر العربي، ولكن لم يكن لي مدخل للثقافة التراثية مثل كتب الحديث والفقه وعلم الكلام، فأنا أشكر الجابري لأنه أجبرني على قراءتها. لم أكتف بالرد على الجابري، بل أعدت بناء ثقافتي التراثية وأعتقد أنني قدمت مشروعًا جديدًا. كل نقد يتضمن بناء. النقد ليس مجرد تفنيد. لا تستطيع أن تنقد إذا لم تبنِ ما تنقده، أعتقد أنني اشتغلت على البناء وفي الجزء الأخير من مشروعي والذي أستغرق مني خمسة أجزاء من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث أعدت طرح السؤال الكبير: ما الذي هزم العقل العربي الإسلامي، لماذا تحول من عقل حضاري بنى واحدة من كبرى الحضارات إلى عقل صنع التخلف، ما هي الآليات التي قادت هذا العقل للإنكفاء على ذاته وتحول من أداة فاعلة في التاريخ إلى أداة مفعول بها إذا جاز التعبير ؟.. أعتقد أن من يقرأ الكتاب يجد المفاتيح الأساسية لهذا التحول أو لهذه القراءة. ولذلك أيضًا لم أدرج الكتاب رسميًا في مشروع نقد نقد العقل العربي لأن حضور الجابري في هذا الكتاب ضئيل جدًا. لأن نظريتي في النهاية والتي بنيتها عن الجابري أسميتها “نظرية حصان طروادة”. والجابري يقول: تسللت أنظمة اللامعقول من غنوصية وهرميسية وأفلاطونية مشرقية إلى داخل قلعة العقل العربي الإسلامي ودمرته من داخله بواسطة غزوه على طريقة حصان طروادة، مسلحة من خارجها بسلاح العقل ومن داخلها أشعة اللامعقول، هذه نظرية الجابري. ما وصلت إليه في كتابي أن كل هذه الدعاوى عن غزوة خارجية غير صحيحة تاريخيًا ولا معرفيًا، وأن الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وإلى غروبه في الحضارة الإسلامية هي آليات داخلية نابعة من إنكفاء ذاتي ومن إنكماش ذاتي لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية. أنا أحمِّل هذا العقل مسؤولية ما آل إليه. وبالتالي أراهن على هذا العقل كي ينتفض على نفسه وأن يعيد تأسيس نفسه في عقل منفتح ومتقدم على الحضارة من جديد. وفي هذا الكتاب بنيت تصوري الجديد، بين القراء من سيعتقد إنه مجرد رد على الجابري. لكن لا يوجد نقد من دون إعادة بناء”.

وفاته..

توفي المفكر والفيلسوف “جورج طرابيشي”، يوم الأربعاء 16 آذار/مارس 2016، في “باريس” عن عمرٍ 77 عاماً.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب