22 ديسمبر، 2024 5:32 م

جمالية المكانية .. فى مجموعة “الوفاة السعيدة لعبده الحلاق”

جمالية المكانية .. فى مجموعة “الوفاة السعيدة لعبده الحلاق”

نبهان رمضان
كاتب مصري
روائي وقاص وناقد أدبي

مجموعة (الوفاة السعيدة لعبده الحلاق) للمؤلف والكاتب “أشرف حسن” الحائز على جائزة الطيب صالح في دورتها الرابعة، تكترث بالمضطهدين والمقهورين والأقلية.. بداية من “إستر” القبرصية اليونانية والمشكلة القبرصية العرقية، حتى الأستاذ “سالم” المظلوم تحت قهر النظام فى قصة (لبان دكر).

من يقرأ هذه المجموعة الثرية يكتشف تكنيكات ثرية ومتنوعة ومتعددة، لكنه لا يستطيع ان يتغافل او يغض الطرف عن إعتماد “د. أشرف” للمكانية ببراعة واعتماده عليها بصفة اساسية لتتضح فكرة وابرازها امام أعين المتلقى.

إن الحيز المكانى هو الفضاء الذى تتحدد داخله مختلف المشاهد والصور والمناظر والدلالات والرموز التى تشكل العمود الفقرى للنص السردى.

آليات المكان ما هى إلا وسيلة من الوسائل الرئيسية لرصد الوقائع على مستوى السرد، أى على مستوى الموقف والرؤية.

فى قصة “إستر” مثلاً – أول قصص المجموعة – نجد إستغلال المكان ليوضح الحالة النفسية والداخلية لبطل القصة.. نجده يذكر الاماكن الدالة على الأقليات فى المجتمع دون ان يصرح بذلك صراحتاً: “الطريق إلى بيت مس إستر يمر بالكنيسة الأرثوذكسية ذات الزجاج الملون وجمعية دفن الموتى الأرثوذكس”. ص 11

فى عبارة اخرى يعكس المكان الحالة النفسية لبطل القصة: “اصبح الطريق إلى الجامع حزيناً فى الذهاب والعودة وكنت دائماً أمر بالبيت فيصفعنى قفل كبير بارد”. ص 20

استخدام مكان كبير بحجم شوارع المدينة، نظراً لعموم المضمون الذى يناقشه الكاتب داخل هذه القصة.

استخدم د. أشرف اماكن اخرى متنوعة، ليست فى حجم المدينة، لكنها احياناً مغلقة مثل المطعم فى قصة “قبيلة الذئاب”، او جحر فأر كما فى قصة “الوفاة السعيدة لعبده الحلاق”، احياناً مكان مفتوح لكن ليس فى حجم المدينة او الحى بل بحجم سطح منزل بلا سور، رامزاً للذات المشروخة المحطمة، كما فى قصة “قمر لي وحدي”.. لتتضح للمتلقى داخل الراقصة التى سقطت من جانب السور المحطم حتى فاضت روحها.

فى قصة اخرى يستخدم د.اشرف، مكان بحجم حجرة او غرفة داخل مدرسة، رامزاً لداخل جديد لفتاة تعانى من مشكلتها الخاصة (العنوسة)، فى قصة “أسئلة صباحية”.

من المدهش فعلاً استخدام الكاتب لنفس المكان (السطح).. لكن فى حالة اخرى وطقس آخر، سطح غرفة تحت قيظ الشمس، ليتضح شرخ نفسى آخر داخل بطل آخر فى قصة اخرى لطلاق ابنته فى قصة “امور عنيفة للشمس”.

المفارقة احياناً فى استخدام مكان مغاير للحالة النفسية.. كما فى قصة قبيلة الذئاب: “كنا ستة عشر جائعاً فى ذلك المطعم”. ص 187

جاءت المفارقة المكانية فى قصة كائنات زجاجية لتكشف عمق النفس البشرية واتضاح تقلبها وما كان مرفوضاً وانكاره من بطلة القصة إلى تمنيه والسعى لحدوثه، مستخدماً المفارقة بين شقة صغيرة فقيرة وحجرة بلا باب، وبين شقة فاخرة مفروشة بافخر الأثاث.

عدم إقتصار الكاتب على تصوير مكان واحد فى القصة الواحدة احياناً، تعدد الأمكنة حسب تعدد الأحداث فى القصة الواحدة كما فى “رماد دافئ”، واستخدام اكثر من مكان.

ارتباط مفهوم الحيز المكانى على مستوى الرمز ببعض المشاعر والأحاسيس، كما يمكنه ايضاَ ان يدرك القيم الإيجابية والسلبية التى تظهر من خلال الزمان فى المكان من اجل تفسير حاضر الإنسان بالمقارنة بالماضى أى إسقاط الماضى على الحاضر وذلك يتضح بصورة كبيرة فى قصة “رماد دافئ” بتكنيك رائع بين التنقل من زمن لآخر واستخدام اكثر من مكان، وايضاً فى قصة “قبيلة الذئاب”، بصورة أبسط من رماد دافئ فى قصة قبيلة الذئاب، جاء التنقل بين المطعم وساحة الفيلا وحجرة النوم ليتضح عمق الحالة النفسية لبطلة القصة من مجرد مظهر زائف حتى يصل بنا الكاتب إلى أغوار دواخلها لتتضح عمق الفكرة.

فى قصة “الوفاة السعيدة لعبده الحلاق”.. رسم المؤلف مكان مصاغ من ألفاظ لا من موجودات جحر الفأر الذى ينتظره الموت إذا خرج منه، رامزاً لغرفة “عبده الحلاق”، وإنتظاره الموت بين لحظة واخرى.

استخدام الشيئية يعطى شعور إيحائي لكونها مرتبطة بوجود الإنسان اكثر، مما يقر ويعترف، وإن كان وصفها هو فى حد ذاته وصف أشخاص، الذى لا غنى عنه.

الأشياء تساعد على شرح المسائل التجريدية التى لا يدركها المتلقى. نجد تأثير “كرسى” رئيس القسم كما جاء فى قصة “الكرسى”، كأن روح الزعامة تتلبس كل من يجلس على هذا الكرسى. أتذكر مقولة مأثورة: “الإنسان ينعكس فى الأشياء.. والأشياء تنعكس فى الإنسان”.

يتميز “د. أشرف” بالحصافة فى إنتقاء الأمكنة والأشياء، عن وعى ليعكس الجوانب المعنوية الهامة مما يجعلنى اصفه بالأديب الفنان.

نجد احياناً الإيقاع المكانى أطغى من الإيقاع الزمنى، الذى ينقلنا إلى أعماق المجتمع، لكون المكان ليس مجرد إطار الاحداث والشخصيات انما هو احد العناصر الحية الفاعلة.. ويحتل احياناً الصدارة فى القصة ليصبح جزءاً هاماً من الشخصية المحورية فى السرد الحكائى، كما يتضح ذلك فى قصتى “زفير سرى” و”لبان دكر”.

هناك ملمح آخر داخل المجموعة القصصية “الوفاة السعيدة لعبده الحلاق”، استخدام المنظر الطبيعى كحلقة فى سلسلة تطور الشخصية أو باعثاً من البواعث التى تشكل نفسية الشخصية السردية، يتضح ذلك جلياً فى استخدام القمر المخادع فى قصة “قمر لي وحدي: “أختارت ان ترقص وحدها فى ضوء قمر، لكنه كان يشيح بوجهه عنها احياناً ويختفى بين السحاب”. ص 36.
فى عبارة اخرى: “نظرت فى السماء، كان يتبعنا ويسير معنا إذا مشينا ويقف إذا توقف الموكب، كنت اعرف ذلك القمر المخادع”. ص45

في النهاية
نجد عملاً ممتعاً وشيق، رغم ان معظم القصص طالت قليلاً أو كثيراً، وكنت أرى فى إختصارها قليلاً يعطيها حيوية أكثر ومتعة أكثر للمتلقى.

جاءت اللغة شيقة وممتعة كان لها دوراً كبيراً فى تخفيف وطأت طول القصص على نفس المتلقى.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة