7 أبريل، 2024 1:18 ص
Search
Close this search box.

جمالية التخييل في “تسونامي” للأديب “مصطفى لغتيري”

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

كتب: د. اسماعيل البويحياوي

ناقد مغربي

القراءة التي سوف نقوم بها للمجموعة القصصية القصيرة جدا “تسونامي” قراءة تستعير أدواتها ومفاهيمها من النظرية التأويلية التداولية المعرفية التي تعتبر التخييل مظهرا من مظاهر التواصل. التواصل، في هذا التصور لا يكتفي بالوقوف عند الوجه الشفري للغة الذي يرى أصحابه أنه بمجرد فك السنن اللغوي (صوت، تركيب، معجم، دلالة) نصل إلى المعنى وغاية المرسِل بكل وضوح ودقة، ولكنه ينطلق منه، في مرحلة أولى، ويتجاوزه إلى الوجه الاستدلالي بمراعاة متضمن الكلام والمقصدية والمؤشرات التداولية في مرحلة ثانية.

التخييل تواصل له خصوصيته التي تميزه عن التواصل اليومي العادي. إنه استعارة مركبة يتطلب من القارئ مجموعة من العمليات الذهنية المعرفية للوصول إلى إرادة القول/ المقصدية التي يريد القاص/ المتواصِل إبلاغها للقارئ في سياق تواصلي تخييلي يتميز بتواري وتمنع سياقه وفرضياته ومتضمناته ومقصدياته التي يتغياها القاص. ويلتقي نوعا التواصل في أنهما معا يهدفان إلى إبلاغ رسالة، اعتمادا على مفهوم الملاءمة المساعد على تحقيق فهم وتأويل منسجم أقرب إلى مقصدية المتواصِل. وهو ما يتطلب من القارئ/ المتواصَل معه الاستعانة بالسياق، بمعنييه المعطى والمبني، وبالفرضيات الاستباقية والمصاحبة انطلاقا من المؤشرات الأجناسية والمُناصات كالعنوان وصورة الغلاف والإهداء لبناء فرضية تحليل، يوظف خلالها المداخل الثلاثة المنطقي والمعجمي والموسوعي، ويقوم باختبارها من خلال تتبع دقيق لمسار النص الخطي ومتضمناته وسقوفه المجازية والتخييلية للوصول إلى الحقيقة التخييلية المتقصدة التي تفيد في نهاية المطاف أن التخييل ليس مجرد سفر للمتعة والمؤانسة ولإشباع رغبة سيكولوجية في عوالم الخيال والممكن ولكنها، علاوة على ذلك، بناء تخييلي فني يعبر عن موقف وحقيقة ومعرفة يسعى الكاتب إلى قولها من خلال شكل تواصلي متميزعن التواصل الطبيعي.

السياق الذي ننطلق لقراءة ” تسونامي” هو المؤشر الأجناسي: قصص قصيرة جدا كجنس تخييلي إبداعي وليد يقوم أساسا على ممارسة التقصير الفني الخلاق والحذف الإبداعي اختزالا وتكثيفا وإيحاء وسخرية ومفارقة وومضا على مستوى الشخوص والزمان والمكان والحبكة والحدث واللغة، تركيبا صوتيا نحويا وبلاغيا، دلالة ومجازا وتداولا وتخييلا. وبذلك فأفق الانتظار العميق الذي يولده جنس القصة القصيرة جدا يمكن اختزاله في المخالفة والمفاجأة والتجويع الإبداعي لمقومات الكتابة سالفة الذكر في جميع مستوياتها ومظاهرها.

انطلاقا من هذا التصور نواجه عنوان المجموعة “تسونامي” وغلافها، الذي هو صورة لأمواج تسونامي العاتية.. “كلمة تسونامي من أصل ياباني وتعني “موجة الميناء” .. تسو= ميناء، نامي = موجة، أطلقها الصيادون اليابانيون عندما لاحظوا خراب موانئهم عند إيابهم من طلعات الصيد، ولم يكن هؤلاء البحارة يشعرون بمرور موجة عاتية عليهم خلال صيدهم، لأن موجات المد تمشى باتجاه الشاطئ تحت الماء . التسونامي موجة ضخمة محيطية تحتوي على سلسلة من الأمواج والمياه الهائلة التي تسببها الزلازل والبراكين وارتطام الأجرام السماوية الكبيرة بالبحر وغيرها..” عن موسوعة ويكيبيديا بتصرف.

الغلاف، إذن، عنوانا وصورة يجسد ظاهرة طبيعية رهيبة لنظام المد والجزر والبحر واليابسة وما يعقبها من دمار للإنسان والحيوان والنبات والحضارة. فما صلة تسونامي الظاهرة الطبيعية الوقائعية ( خطاب علمي) بالقصص القصيرة جدا التخييلية ( خطاب أدبي) التي تضمها المجموعة؟

نفترض أن العنوان وصورة الغلاف استعارة لتسونامي قيم الخلل التاريخية السياسية والاجتماعية والوجودية والكونية الأيكلوجية التي تعاني منها الإنسانية، والدعوة للقيم النبيلة البديلة لقيم الانحطاط من جهة أولى، واستعارة لتسونامي كتابة القصة القصيرة جدا في المجال الإبداعي من جهة ثانية. وهي فرضية قراءة يدعمها الإهداء الذي يتوجه إلى كل من آمن بالإنسان كقيمة القيم ” قيمة تسمو على ماسوا ها من القيم” يقول الإهداء، لكن راهن الكتابة وما تحققه القصة القصيرة جدا من مد وانتشار وارتحاق من الأجناس الأخرى الأدبية وغير الأدبية يدعم الافتراض في شقه الثاني، وكأن الكاتب يقول: انتظروا مد القصة القصيرة جدا وما يحدثه من أمواج وحركة تجديدية إبداعية إضافية في مجال الكتابة، ومجموعة تسونامي عينة من هذا المد البادي في الأفق. فهل يتعلق الأمر بمفهوم الإنسان الذكي المخترع الذي انتصر على الطبيعة وقهر أخاه الإنسان واستعمره وسلط عليه الحروب والفقر والاستغلال؟ أم هو الإنسان المثالي المحبة العدالة الإخاء الاعتراف بالآخر المختلف في مستويات الفردي الذاتي والاجتماعي والدولي والكوني؟ وما هو موازي تسونامي القيم على مستوى الكتابة ؟

إن تسونامي تدين الإنسان الأناني الدوغمائي المتمركز حول ذاته المدمر والإقصائي الكاسح للآخر كذات وإنسان ووجود وكون، وتنبه إلى القيم المضادة وتحتفل بها صراحة/ الفعل الكلامي، أو ضمنا/ متضمن الفعل الكلامي، أو باعتبارها من تأثير الفعل الكلامي. فما تجليات هذا الزعم؟ وكيف عبر عنه القاص مصطفى لغتيري؟

يمكن تقسيم قيم التسونامي في وجهيها الدنيء المنتقد والسامي الإنساني المحلوم به إلى التاريخي السياسي والاجتماعي والنفسي والوجودي الكوني.

1- التاريخي السياسي الأيديولوجي:

نقد لقيم الظلم والاستعمار واحتقار الآخر كما مارسه الغرب الاستعماري على المغرب وإفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. فإسبانيا غزت بلاد الريف معتقدة أن الحرية وقف عليها كهوية أوربية وسمة مميزة لصيقة بها دون غيرها من الأجناس البشرية، وأن المغاربة الأهالي لا إرادة لهم ولن يموتوا من أجل كرامتهم وحرية وطنهم، لكن اندحارهم في الريف لقنهم درسا مفاده أن الحرية صفة إنسانية و ليست قيمة يحتكرها الأوربي ويفتقر إليها غيره. الحرية، إذن، ميزة إنسانية يختلف شكلها ومظهرها من مكان إلى آخر، ومن جنس بشري إلى آخر، حرية،32. ومنه نقد نظام الأبارتايد والعبودية العنصري في جنوب القارة السمراء الذي انتهى بثورة عارمة، واحتفال بالفعل الثوري التحرري الذي حرر الإنسان الإفريقي الأسود من ظلم الأبيض وطغيانه ” هناك في ذيل القارة السوداء… يدهنون الذيل بطلاء أبيض، فاقع لونه.. رأت موجة سوداء ما حدث.. اكتسحت الذيل، فجرفت ذلك الطلاء” تسونامي، 25

ويتسع النقد ليشمل كل القوى الاستعمارية ( إسبان، برتغال، فرنسيون، ألمان، إنجليز..) التي اقترفت خطاياها في المحيط الأطلسي على امتداد ساحل القارة الإفريقية. ” أتطهر من خطايا المحيط الأطلسي ” المطهر، 12، الذي يبرز وعي الذات، الساردة والكاتبة، الناطقة بلسان حال محيطها الذي عانى هذه الحقيقة المفجعة ويتطلع إلى غد أفضل في فضاء البحر الأبيض المتوسط التخييلي طبعا.

ولا تقف المجموعة عند نقد الوجه الاستعماري التاريخي السياسي ولكنها تسلط سهام الإدانة على قيم القوة والتدمير والفتك في الفلسفة والفكر الغربيين الثاوية خلف القيم المنتقدة سالفا، كما يرمز إليها ” نيتشه”، الذي أيقظ” زرادشت” رمز المحبة والسلم، وسلمه حصانا وحوله إلى غاز فاتك .. وجد ” زرادشت نهرا هادرا فشرب منه فحلقت العقبان فوق رأسه والتهمت حمائمه الوديعة” عقبان، 47. كما تنقد المجموعة قيم الحرية الغربية الأمريكية العنصرية التي تكيل بمكيالين، تتغنى بتحررها وبرموز هذا التحرر( جورج واشنطن) و ترفض التحرر الأمريكي الجنوبي الذي يرمز له بوليفار، الملقب بالمحرر لدى الأمريكيين الجنوبيين، عدو الاستعمار الاسباني و محرر كولومبيا والبيرو وموحدها مع أميركا الوسطى والمكسيك. وتنتقد تسونامي العنف والعدوان والقصف الوحشي الصهيوني، سليل القيم السالفة المدانة، طبعا مع إبراز قيم النبل المضادة كالتمسك بالأرض والأمل والمستقبل والحرية كما في القصة القصيرة جدا أمل،49 حيث ظلت امرأة عجوز وسط حطام قريتها الصغيرة التي دمرها القصف الوحشي الإسرائيلي تنتظر قدوم الربيع.

إنه نقد لاستعمار الإنسان لأخيه الإنسان وظلمه ووحشيته وانغلاقه الدوغمائي في معتقداته وأفكاره ورفضه للآخر، وتثمين لقيم التحرر والمساواة واحترام الآخر والتعايش والسلم ومحبة الإنسان للإنسان لسبب واحد ووحيد وجيه، وهو أنه إنسان لاغير فوق كل الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والعقائدية.

2- الاجتماعي:

نقد القيم الطبقية والفردانية والنظرة اللا إنسانية الاحتقارية للآخر المقهور البريء. في القصة القصيرة جدا حذر، 13 . صبي بائع متجول ينوء بحمل سلته ( فرض عليه الفقر والوضع الاجتماعي عدم التنعم بطفولته والبحث عن لقمة عيشه بنفسه) يدنو من امرأة تتنعم بدفء الشمس، لكن عوض تقديره وفهم وضعيته والتعامل معه بإيجابية وإنسانية ومحبة توجست فيه اللصوصية وسحبت حقيبتها الجلدية. ونقد الاستغلال والظلم وغياب العدالة ومبدأ البقاء للأصلح والأنتج. تبيض الدجاجة كالعادة، لكن الصبي يسرق البيض والعجوز، عندما لم تعثر عليه، تقرر ذبح الدجاجة لأنها صارت غير نافعة، عدالة، 17 وهي القيمة نفسها التي تنتقدها القصة القصيرة جدا إنفلوانزا، 22 فالديك والدجاجة المصابان بالإنفلوازا يفران لكن السلطات تقرر إعدام جميع الطيور كرمز للظلم الاجتماعي وعمى السلطة والشطط وغياب العدالة والعقاب الجماعي الجائر. وهذا النقد له وجه آخر بشع جدا يتعلق بهضم حق العمال في عدم الاستغلال المفرط والرفع من الأجور حيث يقابلهم الزعيم بالخطابة والحماسة الإستراتيجية الفارغة واللغة الخشبية، احتجاج، 55.

إضافة إلى نقد الإقصاء اللغوي وعدم الاعتراف باللغة الأم للآخر وبالتعدد الإثنولوجي اللغوي مما يولد الازدواجية اللغوية وابتعاد لغة المدرسة السلطوية عن لغة الحياة في البيت كما القصة القصيرة جدا تفوكت،15. و نقد الحب الزائف والمظاهر البراقة التي تحول القلبي إلى استغلال غريزي لا غير كما في القصة القصيرة جدا غزو،35. ونقد الأفكار المسبقة والذهنية المتحجرة التي تجعل المرأة شيطانا يجب الاحتراز منه كما في القصة القصيرة جدا العرافة،48.إنه مجرد فكر خرافي ورجم بالغيب فالمرأة قيمة سامية وحظ جميل تقول هذه القصة القصيرة جدا. ونقد قمع الحب بداعي السن والتربية كما في القصة القصيرة جدا غزل، 51. والمجموعة تدعو إلى الحب كقيمة إنسانية سامية، و تكسر حدود السن والأعراف الاجتماعية كما في القصة القصيرة جدا حريق،53 حيث ظل المعلم يحتضن بحب النجمة التي رسمتها ضحى ولم يحترق رغم احتراق كل شيء في القسم. مع إدانة للخيانة كما في القصة القصيرة جدا مسرحية،52. بل يشكل الجمال قيمة ثمينة من قيم الحياة تخلق الفرح الكوني والتجاوب بين الجمال البشري ونظيره الكوني قوس قزح كما في القصة القصيرة جدا قوس قزح،54.

3- النفسي:

كما تطرح تسونامي علاقة الاجتماعي الثقافي الديني بالنفسي الغريزي واللذة. في القصة القصيرة جدا فرح،36 شعر البطل بفرحة العيد واستعد له لليوم الموالي، لكن مراقبة الهلال من قبل السلطات الوصية السياسية والدينية خيبت النفسي الباطني وأجلت الفرحة إلى اليوم الثاني مما أجهض العيد بالمعنى الإنساني العميق وحوله إلى مظاهر شكلية وانضباط للشرعي ولحركة القمر. وبذلك لم يلتق الهلالان واغتال هلال السماء هلال القلب. والقصة القصيرة جدا شهد الملكة،27 تكشف دور الحواس في النظرة للعالم فغَمْسُ البطل الأصبع في عسل الملكة، بدلالاته المفتوحة، حول العالم إلى فرح ولذة فوق الاحتمال. النفسي هنا ثابت سواء كانت المقصدية قريبة تعني ملكة النحل ذاتها أو كانت ملكة النحل مجازا أو كان المقصود سخرية في عبارة ( لم يعد قادرا على تحمله).

ويتلبس النفسي بالغريزي بين الرغبة في العري والتحرر الجزئي من اللباس، بالنسبة للفتاة، والرغبة الغريزية لتجاوز العري الجزئي إلى العري الكامل إلى الجنس بالنسبة للرجل، عري، 39 وتكشف بعض قصص تسونامي الميل الغريزي الفطري للذكر إلى الأنثى/ اللذة، كما في مراهنة، 45 فحين وضعت الأم يدها على بطنها ابتسم الجنين لأنها أنثى، وحين وضع الأب يده اختفت ابتسامته لأنه ذكر مثله. والتماثل الآلي وتحول الإنسان إلى آلة أو شيء متطابق فاقد للخصوصية والاختلاف كميزة إنسانية كما في القصة القصيرة جدا ذهول،61 . هكذا يطرح النفسي الغريزي قضايا عميقة جدا تعكس الصراع العميق الأزلي، اللغز الكبير، بين الطبيعة والثقافة والذات والعالم والرغبة والواقع.

4- الوجودي:

ويحضر النفسي في مظهره العميق الوجودي الذي ظل الإنسان وسيظل يردده ويفسره شتى التفاسير. يتعلق الأمر بخطيئة آدم وحواء وأكل التفاحة. الغواية جزء كامل العضوية من إنسانية الإنسان ولا يمكنه أبدا الانفلات منه، وسيظل في حمأة هذا الصراع والتناقض أبد الآبدين كإنسان ملاك شيطان متأرجح بين الرغبة والعقل والدين. خداع، 16. ومنه الموت والقدر كسؤال وجودي مؤرق. في الق ق ج الموت،14 التقى البطل بالموت ولما حاول الفرار منه سقط فيه بأن صدمته السيارة.

والعذاب النفسي الاجتماعي الناتج عن القدر السيء و العجز عن أداء الوظيفة الطبيعية المألوفة كما في حالة الزهرة العقيم في القصة القصيرة جدا عقم،44 . واختلاف الأسئلة والاهتمامات بين أسئلة وجودية يمثلها سارتر وأسئلة جنسية تمثلها سيمون دي بوفوار في القصة القصيرة جدا نكاية، 23. وتضرب تسونامي في أعماق الوجودي الكوني لنقد التدمير الذي يمارسه الإنسان كما في القصة القصيرة جدا اكتئاب، 37 حيث تكتئب النجمة لانقراض البحيرة كدلالة على السلوك غير الحضاري للإنسان.

تلك نماذج وعينات من تسونامي القيم والحقائق التخييلية المعرفية المدانة والمحتفى بها في شتى المجالات. وبكلمة واحدة فتسونامي تدين قيم الاستعمار والظلم الاجتماعي والفكر الذي يبرره ويغذيه والقدر والوحشية وتدمير الطبيعة، وتنتقد الفكر الخرافي حول المرأة وتعالج الغريزة واللذة، وتحتفل بقيم العدالة والمحبة و بالإنسان كإنسان، في أبعاده المتعددة، وتدعو إلى اعتباره، اجتماعيا ونفسيا وغريزيا، قيمة سامية فوق كل اعتبار وجعله قيمة القيم، هو الأول والأخير، والبداية والنهاية، والغاية والوسيلة.

أما تسونامي الكتابة القصصية القصيرة جدا، فهي اشتغال إبداعي عميق يومض بالحقائق من خلال مجموعة من الآليات وتقنيات الكتابة التي نقف منها عند المظاهر التالية:

1- الآليات الذهنية:

أ- الاستجابة وتحقيق الانتظار

نعني بذلك أن الكاتب والقارئ كمُتواصليْن مزودين بقدرات وكفايات ذهنية مكتسبة من المحيط المعرفي يطلق عليها السيناريو أو الإطار ينطلق منها الباث لإبلاغ رسالته للمتلقي، وينطلق منها المتلقي لفك شفرة الرسالة ومعرفة مقصدية الباث . فسيناريو الحب، مثلا، يتضمن: التعارف ــــــ الإعجاب ــــ العلاقة ـــــ الحب ــــ الزواج كتسلسل منطقي نفسي اجتماعي قد يتحقق أو لا يتحقق، لكنه وارد ومنتظر ويشكل إطارا للحب. ففي القصة القصيرة جدا غزو، 35 يضعنا القاص في لحظة من لحظات هذا السيناريو بطريقته الخاصة.

المقطع السردي الأول يثبت في ذهن القارئ أن رجلا يغزو قلب المرأة بواسطة الحذاء اللامع والأظافر النظيفة كمعطى عام. فننتظر منه الانتقال من العام إلى الخاص، ومن خلاصة التجربة إلى تجربة محددة. في المقطع الثاني، بينما يستعد الرجل كالمعتاد ليغزو قلب امرأة يقع التحول في الأداة فيكتشف الرجل أن آلته للإيقاع بالمرأة أصابها العطب فحذاؤه فقد اللمعان وأظافره صارت منفرة. يدرك القارئ أن لهذا التحول نتيجة فيحدس الصيرورة والمآل الجديد الذي هو الفشل في الغزو والإيقاع بالنساء، مع احتمال تحولات أخرى ممكنة ولا نهائية، وإن كان المنتظر الأقرب هو الفشل. وفعلا فالمقطع الأخير في القصة القصيرة جدا يواكب أفق الانتظار الذي خلقه المقطع السابق ويحقق المنتظر إذ شعر الرجل بالهزيمة (صاغرا)، وقرر المكوث في بيته إلى الأبد. وبذلك تحققت الفكرة القائلة إن الزيف والمظاهر الخادعة مآلها الانكشاف والفشل، من خلال اعتماد القصة القصيرة جدا آلية الاستجابة لانتظارات القارئ. (1)

ب- المفاجأة وتخييب الانتظار

اختار القاص في القصة القصيرة جدا السالفة آلية الاستجابة والتحقق تماما كما انتظر القارئ ذلك، لكنه في كثير من سرود تسونامي يختار المفاجأة وتخييب أفق الانتظار(2). طبعا القصة القصيرة جدا التي اخترناها تتضمن إشارة خفية إلى ذلك في العنوان، لكن اكتشاف اللعبة والتيقن منها لا يتم إلا بعد الانتهاء من قراءة النص. في المقطع الأول نتعرف على البطل/ الصبي ، مهنته، وضعيته الاجتماعية و فضاء الحدث. صبي بائع متجول بالكاد يحمل سلته، يتعثر بها بين الرمال يقترب من المصطافين ليعرض بضاعته على الراغبين فيها.

المقطع الثاني يقدم لنا الصبي في لحظة فعل بيع سلعته. يلمح من بعيد جسد امرأة يلمع فيقصدها، ولما يقترب منها يرفع صوته طمعا في بيعها شيئا من بضاعته. ترفع رأسها ببطء. يقترب هو أيضا ببطء فتتوالى أحداث الاستعداد للبيع والشراء. تضع يدها على حقيبتها الجلدية. تسحبها بحذر. هنا يتولد في القارئ انتظار البيع والشراء أو تقديم مساعدة لهذا الصبي الفقير المعذب، لكن الحدث الموالي جاء مخالفا تماما للمنتظر. لقد عادت تماما إلى غفوتها. وهي قفلة غير منتظرة بالنظر إلى الأجواء التي خلقتها المقاطع والأحداث السابقة. فتتغير دلالة القصة القصيرة جدا رأسا على عقب لتومض بحقيقة الهوة الاجتماعية والإنسانية السحيقة بين الفقر الكد البراءة والمتعة، الجسد اللامع( الحظر وسوء النية). لقطة عادية، إذن، تومض بحقائق تخييلية عميقة جدا فاضحة للمواقف والأحاسيس الطبقية الموغلة في اللاإنسانية والاحتقار والجدار الاجتماعي النفسي بين الفئات والطبقات.

2- الحجم والمقوم القصصي:

نصوص تسونامي تحتفي بالسرد القصير جدا عبر التقصير والحذف والكثافة والإيحاء والسخرية والمفارقة والتناص ورمزية الحيوان والومض بالحقائق الاجتماعية والنفسية والدينية وغيرها . أما من حيث الحجم فقد تراوحت قصص تسو نامي بين الصفحة وبضعة أسطر في طفولة، 20-21، والسطرين- في الحقيقة سطر واحد: جملة واحدة( سبب- نتيجة) في السكوت من ذهب، 29 .فالقصة القصيرة جدا طفولة توظف السرد والوصف والحوار والوقوف عند اللقطة وفقا لرغبة القاص. الولد يرغب في اللعب مع البنت، ولا يتم اللعب والتواصل لأن المجتمع حدد لكل جنس نوع اللعبة التي عليه ممارستها، وكلاهما مؤدلج متمسك بمنظوره وموقفه. هنا مقوم القص أخذ حصته التي يسمح بها جنس القصة القصيرة جدا. لكن القصة القصيرة جدا السكوت من ذهب (3) مارست الحذف إلى أقصى درجة جعلتنا أقرب إلى الوميض والحكمة ككتابة شذرية ضاربة في عمق التقصير الإبداعي. هل نعدها قصة قصيرة جدا؟ هل هي متغير من متغيرات القصة القصيرة جدا؟

هو نفس السؤال الذي اختلف حوله كتاب و نقاد ودارسو القصة القصيرة جدا. كلهم مجمعون على أن مقوم السرد والقص سمة تضمن للقصة القصيرة جدا هويتها وصلتها بالكتابة السردية التخييلية( رواية، قصة، قصة قصيرة)، وإذا كانت الأغلبية تشترط حضور المقوم السردي بشكل واضح وصريح، فإن بعضهم كالناقدة الفنزويلية (بيوليطا روخو)(4) يقترح التأويل، في حالة غياب الحبكة أوفي حالة حضورها بشكل مضمر، عن طريق إكمال القصة بإضافة المراحل والأفعال المحذوفة. هذه القصة القصيرة جدا، إذن، مجرد مقطع سردي واحد من ثلاث وظائف:

– التفكير( لكي يصبح الرجل ثريا)

– التقرير( قرر) – الصمت (صمت إلى الأبد) لقد تم اختزال الحكاية إلى مقطع صغير من ثلاثة أفعال سردية حيث مورس الحذف على الحبكة نفسها وأبقي على شيء من لوازمها. وهنا يفتح مجال التأويل وتشغيل ذهن القارئ: الرجل كان فقيرا وجرب حلولا كثيرة كمقطع أول محذوف يكمل الحبكة لمن يبحث عنها. لذلك القصة القصيرة جدا هنا متوالية من النوى السردية تنوب عن النوى الغائبة التي ذهب فيها القاص إلى أقصى الانزياح عن الحبكة بالمعنى الكلاسيكي المتداول، حتى إنه يمكن القول بأنه كتب مُقَصَّرة ولم يكتب قصة قصيرة جدا من المنظور الذي يشترط الحبكة الكاملة كمقوم أساسي في القصة القصيرة جدا.

3- الدال السردي:

أ- تراوحت علاقة الدال بالمدلول في تسونامي بين العلاقة المباشرة الشفافة التي تحيل فيها الكلمة على مرجعها بوضوح ودقة دونما دلالة مجازية كما في القصص القصيرة جدا: نظافة،11 وحذر،13 والموت،14 وتفوكت،15 وخداع،16 وعدالة،17 وذكرى،18 وتناص، 19 وإنفلوانزا،22 ونكاية،23 ووثيقة،26 وتقمصن2، والآخرن30 ووحدة،32 وعرائس،33 وقصة،35 وأحلام 38، وعري،37 وملاءمة،43 ومراهنة،45 والعرافة،48 وأمل،49  وغزل،51 ومسرحية 52 واحتجاج،55 وأسرة، 56 ووطن،57.

لكن بساطة اللغة وشفافية علاقة الدال بمدلوله لا تعني أن لغة هذه القصص القصيرة جدا كلغة العلوم والتواصل اليومي البسيط الذي يحيل على المفهوم والشيء المتواضع عليه لغويا واجتماعيا. إن الدوال هنا تلتحم فيما بينها لتتحول إلى مكونات لدال جامع هو القصة القصيرة جدا، الدال الأكبر، الذي لا يحيل مباشرة على الخارج، بل هو يوظف الدلالات المتواضع عليها ليقول المعنى الضمني والمجازي والرمزي ويشحنها بمعان ودلالات جديدة هي نفسها مستوى وسط لمقصدية أعمق وأبعد في المستوى التخييلي. لنقف عند القصة القصيرة جدا التي رأيناها من قبل: حذر. فهي جاءت بلغة سردية خالية من المجاز والاستعارة، غير أن القصة ككل هي دال، مؤلف من مجموعة من الكيانات اللغوية، يدل ضمنيا على تمتع الأغنياء واهتمامهم بأنفسهم و بالكماليات وبالمصالح الشخصية وعدم مساعدة الفقراء الشرفاء ولو كانوا أطفالا بريئين. أما في المستوى التخييلي العميق فهي تقول إن الاجتماعي الطبقي المصلحي قتل لقيم النبل والتعاون والأخوة الإنسانية في كل زمان ومكان.

ب- اعتماد لغة شاعرية مجازية استعارية، بالإضافة إلى اللغة الشفافة السالف ذكرها، كما في القصة القصيرة جدا: المطر،12 ” بتواطؤ مع هبات النسيم القادمة من القارة العجوز” وتسونامي،25 ” يدهنون الذيل بطلاء أبيض فاقع لونه.. رأت موجة.. ثارت.. اكتسحت.. فجرت.. الطلاء الأبيض” وشهد الملكة،27 ” تراءت له الملكة تتقاطر عسلا، وتجللها- ببهاء- هالة من نور.. بخطوات حالمة دلف نحوها..” وحرية، 32 ” الحرية ليست بالضرورة، امرأة شقراء، ذات عينين زرقاوين ” وفرح، 36 ” حين حل العيد، كان الفرح قد تعفن” واكتئاب، 37 ” رأت صورتها مشعة .. فابتهجت… انطوت النجمة على ذاتها فأصابها اكتئاب مزمن.” وقرار، 40 ” كان كلبا أنيقا.. دون أن يقضي منها وطره.. فقرر منذ ذلك الحين أن يصبح ناسكا” والغريب،41 ” لفحتنا ظلالها الحارقة.” ودمعة، 42 ” خفق قلب الدمية فرحا.. بعينيها الباسمتين.. تألمت الدمية، فترقرقت في عينيها دمعة” وعقم، 44 ” كل الزهور ابتهجت.. زهرة واحدة فقط ابتأست .. ” وجريمة،46 ” ألوانها الزاهية حركت الفرح في دواخلها، فابتسمت..” وعقبان، 47 التي يتداخل فيها عالم المسخ والحلم والاستعارة (الفانطاستيك) وتمثال، 50 “أخذ تمثال جورج واشنطن منظارا.. غضب التمثال.. رمى المنظار بعيدا، وأصيب بعسر في الهضم.” وحريق، 53 “وجد المعلم يحتضن النجمة، لكنه لم يحترق.

” وقوس قزح، 54 ” ارتعش الكون فرحان ثم ما لبث أن ارتسم في الأفق قوس قزح بألوانه الزاهية.” وغيمة، 58 ” تواطأت الريح معها.. لمحت قطعة أرض يابسة.. علا الاصفرار ذؤابات نباتاتها .. اكتشفت أن طول الرحلة أنهكها، فأضحت سحابة عجفاء شاحبة.” ووداعة، 59 ” .. الجبل الشامخ المتوحش..” وكسوف، 62 ” بزغ في بلاد الهند قمر عار..” وانتقام، 64 ” غضبت الشجرة، فقررت منذئذ أن تتخلص من ظلالها”. إنها قصص قصيرة جدا متبلة بالحقيقة والمجاز تسافر بالقارئ من السردي البسيط الذي تتوالى فيه الأحداث والوقائع، وتتشعب المسارات والمصائر،إلى عوالم التعبير المجازي البلاغي الضارب في عمق الخيال والأحاسيس والصور لتعلمه أنه بصدد كتابة جديدة ترتحق من السردي والشعري، وغير السردي والشعري بلا حدود في حضرة كتابة جديدة مفتوحة في كل اتجاه يحقق لها الإبداعية والتميز.

ج- تتجاوز اللغة في تسونامي المستوى المباشر والاستعاري المجازي إلى الفنطاستيك كما في مجموعة من القصص القصيرة جدا (5). ففي عقبان، على سبيل المثال، عالم تخييلي تنكسر فيه قوانين العالم الطبيعي. تنتفي المسافات بين الشرق والغرب كمفاهيم جغرافية حضارية، وتلتقي الشخصيات الميتة المتباعدة في الحقب التاريخية، ويقطع الحصان الذي قدمه نيتشه لزرادشت، المسافات كأنه يطير في الفضاء ليحط على نهر هادر غير طبيعي ما أن يشرب منه حتى تحلق العقبان فوق رأسه وتلتهم حمائمه الوديعة. هذه الأجواء التي تخلقها القصة القصيرة جدا تولد لحظات تردد وحيرة لدى القارئ فلا يدري هل هو في العالم الطبيعي المعتاد أم في عالم فوق طبيعي له قوانينه وضوابطه المختلفة. لكن الدلالة المجازية والرمزية للكيانات التخييلية (أسماء مدن، شخصيات، طبيعة وطيور) تجعله يستعين بمجموعة من الفرضيات القرائية للتوصل إلى دلالة ومقصدية القصة القصيرة جدا التي نقدر أنها نقد لفلسفة القوة والعنف بتحويل ومسخ رموز السلم، قوى المحبة والإخاء بطبيعتها، إلى قوى شر وعنف في وجهها السياسي الرامز للأنظمة السياسية الإمبريالية القمعية المسيطرة على العالم وتحالفها ضد القيم الإنسانية النبيلة.

هذه ملاحظات حول مجموعة تسونامي حاولنا فيها ملامسة بعض عناصرها الإبداعية التخييلية المميزة لها وكذا ما نراه يشكل قضايا كتابة القصة القصيرة جدا. إن هذه المجموعة، محطة من محطات كتابة نوعية جديدة قادمة، منخرطة بعمق في الراهن الإنساني المعرفي الأدبي التخييلي تدين القيم الدنيئة وتحتفي بقيم النبل وتغوص في قضايا وأغوار الإنسان الاجتماعية والنفسية الغريزية، وتحفر في آليات كتابة هي في لحظة انفتاح ومد مشرئب للمستقبل.

* تسونامي مصطفى لغتيري، منشورات أجراس، 2008

1- استعمل القاص هذه الآلية في القصص القصيرة جدا التالية: نظافة، المطهر، الموت، تفوكت، خداع، ذكرى، تناص، طفولة، نكاية، الشاعر، تسونامي، وثيقة، تقمص، حرية، عرائس، قصة، غزو، اكتئاب، إصلاح، عري، دمعة، عقم، مراهنة، جريمة، أمل، تمثال، غزل، مسرحية، قوس قزح، احتجاج، وطن، غيمة، ذهول، كسوف، انتقام

2- استعمل القاص هذه الآلية في القصص القصيرة جدا التالية: عدالة، إنفلوانزا، شهد الملكة، السكوت من ذهب، الآخر، وحدة، فرح، قرار، الغريب، ملاءمة، عقبان، العرافة، حريق، أسرة، وداعة، فنان، نبوءة.

3- نص القصة القصيرة جدا: السكوت من ذهب

لكي يصبح الرجل ثريا،

قرر أن يصمت إلى الأبد.

4- بحثا عن الديناصور: مختارات من القصة القصيرة جدا في أمريكا اللاتينية، سعيد بنعبد الواحد وحسن بوتكي، ص 13

5- تنظر القصص القصيرة جدا:عقبان، فنان، ذهول، كسوف.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب