1 فبراير، 2025 12:07 ص

جعلوني منافقًا !

جعلوني منافقًا !

قصّة قصيرة

خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الرّيف) :

لقد صرت من أكبر المنافقين في هذا العصر واضطرتني الحاجة إلى ذلك، إذا أردت أن تعيش معزّزًا مكرّمًا عليك أن تكون منافقًا من الطّراز الرّفيع تتملّق النّاس وتداهنهم من أجل مآربك الشّخصيّة وتُجيد فنّ التّصنّع والتّمثيل والمداهنة والرّياء، أذكر أوّل مرّة صرت فيها منافقًا عندما صلّيت أوّل صلاة للفجر جماعة في المسجد؛ وهذا بإلحاح من جاري الذي كان يلومني على تقاعسي عن أداء الصّلاة جماعة، ويقول لي ناصحًا: “يا جاري خالد،أنت رجل طيّب ولك سلوك حميد ولكنّني لا أراك معنا في المسجد ؟ خاصة في صلاة الفجر، لقد ورد في الأثر: (بشّر المشّاءين في الظّلم إلى المساجد بالنّور التّامّ يوم القيامة)، ألا تُريد أن تكون من صفوة الخلق الذين يذكرهم أهل الأرض وأهل السّماوات، عليك أن تجتهد في العبادة لأنّ ثمن الجنّة باهض جدًّا، وعليك أن تُشمّر على السّواعد حتّى تنال الرّضوان الأكبر”.

ـ قلت له: “يا جاري العزيز ناصح، أعدك من يوم الغد ستراني في الصفوف الأولى في المسجد؛ خاصة في صلاة الفجر، سأواضب على الصّلاة إكرامًا لك وسأكون عند حسن ظنّك وأبشر بالذي يسرّك ستكون توبتي على يديك إن شاء الله”.

ـ قال لي “ناصح”: “نِعم القول ما قلت جاري العزيز خالد، يجب على النّاس أن يروك في المسجد راكعًا ساجدًا، النّاس ألسنتهم طويلة وقد يتهمونك بالكفر والزّندقة”.

ـ قلت له: “عليّ أن أحضر جميع الصّلوات المكتوبة في المسجد، وهذا حتّى يراني النّاس ويثنون عليّ خيرًا، حتّى النّوافل سوف أنقلها من منزلي إلى المسجد حتّى يراها النّاس على المباشر، يا جاري العزيز ناصح، أنت ناصح أمين، ولكلّ إنسان نصيب من إسمه، قبل أن تذهب إلى المسجد من أجل أداء الصّلاة عرّج على منزلي حتّى نذهب معًا من أجل أداء الشّعائر المفروضة، ولك أجر الدّالّ على الخير كفاعله، كن لي عونًا على هذه العبادة وجميلك لن أنساه ما دامت روحي في جسدي”.

ـ قال لي: “اطمئن، لن يهدأ لي بال حتّى أرى علامة السّجود مرسومة على جبينك كالوشم على اليد”.

في يوم الجمعة؛ كنت أنتظر حتّى يغصّ المسجد بالمصلّين فأدخل من الباب الرّئيس فإذا بأنظار المصلّين تتجه نحوي، فأبدأ بالصّلاة ولا أنتهي حتّى يشرع الإمام في درسه، كم كنت أشعر بالسّعادة وأنا أصلّي والنّاس ينظرون إليّ كأنّهم يمدحونني بألسنتهم، اقترب منّي أحد المصلّين بعد صلاة الجمعة وأنا في رواق المسجد أنتعل حذائي قائلاً لي: “إنّك تصلّي صلاة مودّع، لم أر مصلّيًا خاشعًا في حياتي مثلك، أنت تخشى الله ونور التّقوى يُشعّ من وجهك لا تنسانا من صالح دعائك”.

ـ قلت له: “روح راك رابح، درناك كي التشينا الشبوب والريحا زينا، درناك كيما الرّمّانا من كل جيها ملانا، درناك كيما الكبش الصّرندي حاجا ما تقصدك بجاه سيدي عبدالقادر الجيلالي والعوليا”.

ـ قال لي: “هاك الزيارا”.

ـ قلت له: “روح تقوّد، راني نطلب على والديك”.

كنت كلّما رأيت أمّة من طلبة القرآن يتلون القرآن في المساجد أو الولائم تمنيت لو أنّني كنت معهم حتّى أفوز فوزًا عظيمًا، يومها قرّرت أن أحفظ القرآن عن ظهر قلب وهذا حتّى أنال رضا النّاس عنّي، حفظت القرآن في ظرف قياسي وصار النّاس ينادونني “سي خالد” وصرت أغشى الولائم وأقرأ مع طلبة القرآن ما تيسّر من الذّكر الحكيم، وصار النّاس يُغدقون عليّ بالأموال وبالهدايا وهذا حتّى ينالوا دعواتي الصّالحة، وكم كنت أشعر بالسّعادة وأنا أقرأ القرآن الكريم والنّاس ينظرون إليّ معجبين قائلين عن صوتي: “إنّه صوت قادم من السّماء، بل هو قيثارة إلاهية”، الأجر الذي نلته في هذه الحياة الدّنيا هو الثّناء الحسن والذّكر الجميل، صار النّاس يقولون عنّي بأنّي قاريء وعالم وفقيه وضليع في اللّغة العربيّة، هذا ما جنيته من ثناء النّاس عنّي.

التقيت بصديقي “رابح” فأخبرني بأنّه يصوم الأيّام البيض ويصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، فقرّرت أن أصوم مثله وهذا لكي أدخل يوم القيامة إلى الجنّة من باب “الرّيان”؛ الذي لا يدخله إلا الصّائمون للأيّام البيض، ولكن قلت في نفسي: “يجب على النّاس أن يعرفوا بأنّي صائم”، فاهتديت إلى حيلة عجيبة وهي أنّني أقوم باصطحاب أصدقائي إلى المقاهي وأمتنع عن شرب أيّ شيء وعندما يسألونني عن السبب أخبرهم بأنّني صائم، وبالتالي يتسنى لي أن أذيع هذا الخبر بين النّاس، وكم كانت فرحتي غامرة عندما علمت بأنّ النّاس قد عرفوا بأنّني أصوم الأيّام البيض وأصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، وصار النّاس كلّما رأوني يقولون لي بالحرف الواحد: “صيامك في الجنّة”، لقد أخذت أجري هنا، وصار النّاس يلقّبونني بالصّوّام القوّام، وصار هذا الأثر النّبوي يطرّد عليّ وعلى أمثالي: “ربّ صائم، ليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش”، أنا كنت أصوم من أجل أن أنال رضا النّاس وأنال الثّناء الكاذب.

عندما رأيت النّاس يفعلون الخير في الخفاء، قرّرت أنا أن أفعل الخير في الظّاهر وأمام أعين النّاس وهذا حتّى يسمع بي القاصي والدّاني ويُثني عليّ خيرًا، صرت أتصدّق على الفقراء والمساكين وألتقط صورًا تذكاريّة معهم وأنشرها على حسابي الخاص على الفايسبوك، وهذا حتّى أنال الجامات الكثيرة والتّعليقات المثيرة والمحفزّة على فعل الخير أمام أعين النّاس، أنا أحتاج هذه الصّور في الإنتخابات البرلمانية القادمة لعلّي أظفر بمقعد نيابي في قبّة البرلمان، أنا أريد التّسلق على ظهور السّذّج لكي أحقّق حلم حياتي وهو أن أصبح نائبًا في البرلمان، إذا أردت أن تُصبح نائبًا في البرلمان دير الخير وتصوّر معاه، سيجعلك هذا الخير الذي تفعله تتصدّر القوائم الإنتخابية والمجالس النيابية، لأنّ شعبنا للأسف الشّديد لا يفكّر إلاّ في بطنه، لا يفقه شيئًا في السّياسة، همّه بطنه، أمّا السّياسة فلا تهمّه، لقد طلّقها طلاقًا بائنًا بينونة كبرى.

ألحّ عليّ النّاس بالذّهاب إلى العمرة والحجّ، فقرّرت أوّلاً الذّهاب إلى العمرة وقمت بالتقاط سيلفي أمام الكعبة وأمام الصّفا والمروة وقمت بنشر الصّور على مواقع التّواصل الإجتماعي، فانهالت عليّ الأدعية كما تنهال الأمطار الغزيرة على الأرض العطشى، وصرت معروفًا بالتّقوى والإيمان بين النّاس وصار يطاردني الصّيت الحسن والذّكر الحسن في كلّ مكان، أنا ذهبت إلى العمرة بمال حرام، لقد قمت بسرقة الشّركة العمومية التي كنت أعمل فيها وكوّنت ثروة طائلة ولكي أداري مالي القذر حاولت تطهيره من خلال الأعمال الخيريّة التي كنت أقوم بها من أجل أن يراني النّاس وأنا أعمل الخير على مرأى ومسمع من النّاس، كنت أبني مسجدًا أو مدرسة قرآنية ولم أفكّر يومًا ما في بناء مدرسة أو جامعة أو مستشفى وكنت أوزّع قفف رمضان على الفقراء والمساكين وأساعد المقبلين على الزّواج بمالي القذر، لم أكتف بالعمرة بل قرّرت الذّهاب إلى الحجّ والإعتكاف هناك في المسجد الحرام والتقطت صورًا هناك داخل المسجد الحرام وأنا أصلّي خاشعًا مبتهلاً وقمت بنشرها على مواقع التّواصل الإجتماعي حتّى يراني النّاس ويثنون عليّ خيرًا، وعندما رجمت الشّيطان أخذت صورة تذكارية هناك وهذا لكي أهدّد الشّيطان كلّما اقترب منّي وحاول إغوائي عن طريق الوسوسة، لقد استطعت قهر الشّيطان وترويضه وإدخاله إلى القفص وهو يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة، وعندما وقفت بعرفات التقطت صورة تذكارية هناك وأنا أجهش بالبكاء وكانت فعلاً صورة معبّرة أبكت الملايين عندما شاهدوها على مواقع التّواصل الإجتماعي، لقد صرت معروفًا بين النّاس بالورع والتّقوى، ولكي تنطلي الحيلة على النّاس كتبت وصية لأبنائي كان فحواها كالآتي: “يا أبنائي الأعزّاء، لقد تركت لكم ثروة طائلة لن تصيبكم الفاقة بعدها أبدًا، ووصيتي الأخيرة هي عندما أموت اجعلوني في وضع كأنّني ساجد، وأذيعوا بين النّاس بأنّني متّ ساجدًا لله، وسرّبوا الصّور التي التقطتموها لي وانشروها على مواقع التّواصل الإجتماعي حتّى يراها النّاس ويثنون عليّ خيرًا ويجعلونني من أولياء الله الصّالحين، بل سيجعلون قبري عيدًا يزورونه كلّ عام، هكذا تصنع الأصنام يا أبنائي الأعزّاء، وهكذا تُعبد من دون الله”، لقد جعلني ثناء النّاس الزّائف الذي لا ينفع ولا يضرّ منافقًا من الطّراز الرّفيع وهذا من أجل الحصول على الشّهرة الزّائفة التي لا تدوم وسرعان ما تضمحلّ كأنّها سحابة صيف، لقد صرت صنمًا أعبد وأقدّس في خلوات النّاس وجلواتهم لأنّني صرت “عبدالله بن أبيّ بن سلول” هذا الزّمان البائس.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة