21 نوفمبر، 2024 12:08 م
Search
Close this search box.

جديد يوهان غريمونبريز: فيلم “الموسيقى التصويرية للانقلاب”

جديد يوهان غريمونبريز: فيلم “الموسيقى التصويرية للانقلاب”

خاص: من مهرجان الجونة- د. مالك خوري:

شاهدت عدد لا بأس به من الأفلام الجيدة في الجونة هذا العام، لكن كان هناك فيلمًا أثار اهتمامي بشكلٍ خاص.

في خضم تفاقم الحرب القائمة  في غزة ولبنان على من تبقى من القوى التي تقف في وجه محاولة إعادة تثبيت الهيمنة الإمبريالية ودولتها الفاشية في فلسطين، يستعيد فيلم (الموسيقى التصويرية للانقلاب) للمخرج البلجيكي؛ “يوهان غريمونبريز”، حقبة مركزية في الصراع  ضد الاستعمار الغربي في إفريقيا في أوائل عقد ستينيات القرن الماضي. ويؤطّر الفيلم عرض الصراع الذي انفجر بعد قيام تحالف قوى الاستعمار في بلجيكا مع حكومات القارة العجوز بالتآمرمع الإمبريالية الأميركية الصاعدة للإطاحة بحكومة الزعيم الإفريقي الأيقوني “باتريس لومومبا”، والذي كان ينادي بوحدة دول إفريقيا وسيطرتها على مواردها الاقتصادية الضخمة. وينتهي الصراع إلى تنظيم وكالة الاستخبارات الأميركية لانقلاب عسكري يُطيح بالزعيم الإفريقي ثم يقتله.

والمخرج “غريمونبريز” هو من القلائل بين السينمائيين والفنانين في الألفية من الذين يرفضون استسهال الاختباء وراء الأفكار الما بعد حداثية حول “تعددية وجوه الحقيقة”، والتي تراهم ينسجمون مع الطروحات المصطنعة عن استحالة الوصول الى فهم موضوعي علمي أو استنتاجات جدية عن كنه وطبيعة أي من الحقائق المحيطة بنا… حتى ولو كانت تُحاول كشف اللثام عن جزئيات محددة من هذه الحقائق، سياسية كانت أم اجتماعية أم علمية.

فالمخرج سبق وعبر من قبل عن شغفه بالاستطلاع والبحث داخل غياهب التاريخ والسياسة للوصول إلى استنتاجات علمية حول طبيعة ما يحدث في عالمنا اليوم، وذلك عبر عملين، Double Take ((2008 و Shadow World (2017)، وكلاهما تناولا موضوع التجارة العالمية للسلاح كواحدة من أكثر التجارات ربحًا وقبحًا وانتشارًا، وذلك عبر تقديم تفصيل سينمائي لديناميات عملها السياسية العابرة للقارات والمركزة على وجه الخصوص في الولايات المتحدة وأوروبا. وهو اليوم يعود بفيلم جديد يتسم (إلى جانب انسجامه مع الأسلوب والاهتمامات العامة للمخرج)، بشحنة واضحة من الدينامية التي تضفي عليه رونقًا مضافًا من الإبداع في الأسلوب الفني للتعامل مع الموضوع.

الفيلم يُعيد تذكيرنا أن الخداع واستغلال السلطة هي من الظواهر التي تبقى عادية في الممارسات اليومية للأنظمة التي تملك القوة المادية للتحكم في مصائر الشعوب الأقل قوة أو تلك الواقعة بشكلٍ شبه كامل تحت الهيمنة الإمبريالية. والوثيقة الملحمية التي يقدمها لنا المخرج “يوهان غريمونبريز” تكتسب وقعًا أشد قوة مما هو مألوف في الأفلام الوثائقية الجيدة. فالفيلم، يستعرض معالم تاريخية من مشاركة الموسيقى كسلاح للتحدي وللصراع، في وجه مع ما يبدو وكأنه واقع مقدر في معادلات الاقتصاد والهيمنة العسكرية واللوجيستية. فموسيقى الجاز التي ترافق كل ثنايا هذا الفيلم وتفصيلاته، هي في معظمها مألوفة ليس فقط لمحبي الجاز بل لكل عشاق هذه الموسيقى المنغرسة في الروح الاإنسانية التواقة للانعتاق من قيود الكبت والطغيان بكل أشكالها.

ومنذ البداية تظهر الفنانة “نينا سيمون” لتجسد الروح الأكثر حيوية للحظة التاريخية الحبلى بالتمرد من خلال رخامة الصوت الذي يشدو برائعة “منعتقة هي الريح”، لتفتح الطريق للفيلم ليستحضر اللحظة الثورية التي جمعت باقة من رواد موسيقى الجاز الأميركيين في تعبيرهم عن التضامن مع المناضل الإفريقي، وتنويههم بوحدة الهدف والدينامية بين هذا التضامن وبين الصراع من أجل انهاء التمييز العنصري داخل الولايات المتحدة نفسها.

هذا الفيلم الوثائقي يضم بطبيعة الحال ما تعودنا عليه من مقابلات أساسية ولقطات أرشيفية تتميز هنا بكونها ذات أهمية تاريخية ضخمة، خصوصًا لناحية كشفها لزوايا غير معروفة من قبل، وموثقة بالتفصيل ضمن أبحاث أكاديمية منشورة عن فصول تآمر الدول الغربية ضد الحكومات الخارجة حديثًا من مرحلة الاستعمار المباشر في آسيا وإفريقيا. ونرى ضمن الفيلم قادة دول عدم الانحياز، من “عبدالناصر” إلى “نهرو” و”سوكارنو” و”كاسترو” وغيرهم، وكذلك قادة حركات التحرر ضد العنصرية داخل الولايات المتحدة نفسها وفي طليعتهم الثوري الأميركي “مالكولم إكس” وهم ينسقون جهودهم في مواجهة البلطجة الإمبريالية بأبشع صورها والتي تحاول المحافظة على هيمنتها الفعلية على جمهورية الكونغو. ونرى أيضًا الدبلوماسية السوفياتية بقيادة الزعيم “نيكيتا خوتشوف” وهي تعمل بالتنسيق مع دول عدم الانحياز من أجل ضمان اتخاذ موقف داخل الأمم المتحدة يُجرم كافة أشكال الاستعمار ضد شعوب العالم.

إن هذه المقالة السينمائية لـ”يوهان غريمونبريز”؛ والتي تُحيك جسدًا حيًا، غنيًا، والمنفلتة من عقال تقليديات الفيلم الوثائقي الكلاسيكي، تخلط بذكاء في ما بين الجاز والتاريخ والتحليل السياسي وحتى بعضًا من تشويق أفلام التجسس. وتركز المقالة الضوء على أوائل ستينيات القرن المنصرم، حين بدأت الإدارة الأميركية بإرسال أيقونات من موسيقيي الجاز الأميركيين مثل “لوي آرمسترونغ” و”نينا سيمون” و”ديزي غيليسبي” إلى الكونغو بمثابة سفراء يمُثلون وجه الولايات المتحدة المساند للحرية والديمقراطية. وبالطبع، فإن هؤلاء الفنانين حاولوا القيام بالمهمة بنية حسنة، لكنهم لم يكونوا على علم بجوهر الدور الذي كانت الإدارة الأميركية قد حضرته لهم في الواقع، لاستخدامهم كطعم لجذب النظر بعيدًا عن تحضيرها لأول الانقلابات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة في القارة الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي المباشر. والهدف الحقيقي لهذه الإدارة (وبالتنسيق مع النظام الملكي في بلجيكا التي كانت تستعمر الكونغو في ما قبل) كان التحضير اللوجيستي والسياسي لاغتيال رئيس الوزراء الكونغولي “باتريس لومومبا”. في المقابل، يرينا الفيلم في نهاياته، مجموعة أخرى من موسيقيي الجاز الأميركيين ومنهم “ماكس روش” و”آبي لينكولن” و”مايا آنغيلو”، وكيف قادهم حماسهم وتضامنهم مع الحركة الاستقلالية في إفريقيا إلى اقتحام جلسة مجلس الأمن الدولي في الأمم المتحدة بعد انكشاف الخطة الأميركية وضلوعها بقتل الزعيم الكونغولي رغم الاحتجاجات العالمية الضخمة لشعوب العالم.

بيد أن الفيلم لا يكتفي باستعراض أحداث أضحت جزءًا من تاريخ الكونغو والقارة السمراء. بل أنه يستطرد ليقدم لنا أشرطة سينمائية  جرى تصويرها خلال السنوات الأخيرة، وبعد عشرات السنين من اغتيال “لومومبا”. فالواقع اليوم لا يميزه الكثير عما كان في الأمس. فنشاهد والدًا يسُارع لحماية أولاده من القذائف التي تنهمر بالقرب من قريتهم، في خضم صراعات قبلية تؤججها القوى الاستعمارية المتجددة لضمان ابقاء هيمنة شركات المناجم العابرة للقارات على عمليات النهب الممنهج للموارد الطبيعية في شرقي الكونغو. فيذكرنا الفيلم بأن الاستعمار يبقى حالة وضعية مسيطرة في حاضر معظم دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وليس فقط في تاريخها.

من الناحية الفنية، فأن الهيكل الأساسي للفيلم، والذي يرتكز بشكل عضوي على الموسيقى، هو بالذات ما يحوله بالنهاية إلى ما يشبه الملحمة الموسيقية والتي تأتينا بشكل مقالة سياسية سمعية بصرية مميزة. فالحفاظ على حد مقبول من التناغم الجدلي للعوامل الإبداعية المكونة للجسد السينمائي ليس بالشيء السهل، فكيف إذا حاول الفيلم تقديم ذلك في إطار يُقارب ما اندرجنا نحن العرب على توصيفه بأسلوب السهل الممتنع !

الفيلم يستبعد بشكل مطلق استعمال “الصوت الرباني” للمعلق ويستبدله بحياكة تفصيلية للقطات والمشاهد مع وقع موسيقي مستفيض من الرومبا والجاز، إلى درجة أن الموسيقى نفسها تتحول إلى شخصية إضافية من صلب قصة الفيلم. وهذه “الشخصية” السينمائية غير التقليدية تنطوي في أدائها على دفع التشنجات تجاه ما يحدث أمامها إلى أعلى مستويات ما يمكن للأداء الموسيقي للجاز أن يقوله ويعبر عنه في عيشه لهذه المرحلة الصعبة من تاريخ النضال ضد العنصرية. وهنا يأتي مونتاج “ريك شوبيه” ليجمع ما بين الموسيقى التصويرية لـ”رانكو بوفيتش”، وبين التفصيلات المعقدة للسردية القصصية للفيلم ليضمن توترًا وتشويقًا لا ينقطع بالرغم من الطول النسبي للفيلم. وإبداع “شوبيه” في هذا المجال واضح، إذ ليس من السهل على المشاهد استيعاب الكم الهائل من المعلومات التي يضمها هذا الفيلم لولا خبرة ومهارة هذا المونتير. وبنفس الأهمية، لم يكن لهذا النوع من الدمج التوليفي لأن ينجح إلى هذا الحد لولا الطبيعة اللينة والإنسيابية لموسيقى الجاز نفسها بما تجسده من روحية مطواعة وحرة تستسهل الخروج عن القيود الشكلية للتعبير الفني المحافظ.

نحن هنا إذًا أمام بنية سمعية بصرية تجمع ما بين باقة من أشهر وأجمل أيقونات ومعالم موسيقى الجاز في إطار مواكبتها لنضال الكونغو التاريخي من أجل الاستقلال، وتوثق في وقت واحد تفصيلات نتائج بحث تاريخي هام عن الطبيعة الحقيقية المخيفة للاستعمار. وغني عن القول هنا أن أسلوب “غريمونبريز” الفني قد يصلح كأحد الأمثلة لما يمكن أن يضطلع به الكثير من سينمائيينا العرب في محاولاتهم (التي ما زلنا نتأمل تبلورها) لإعادة توثيق وقراءة “وقائع سنين الجمر” المعاصرة التي عاشتها وتعيشها بلادنا منذ عقود وحتى يومنا هذا. فجرائم الإبادة الجماعية التي ما زالت تمارسها اليوم دول الغرب الإمبريالي في المنطقة العربية سواء بشكل مباشر (الحرب ضد العراق)، أو عبر نشاطات منظمات الإرهاب المرتزق التي تعمل تحت رايات دينية مزيفة (حروب داعش وجند الشام وأخواتهم من “ثوار”  الحرب في سورية مثلاً)، أو عبر التدخل المباشر لقاعدتهم الاستعمارية المتقدمة في المنطقة (الحروب الصهيونية لإنهاء المقاومة الفلسطينية واللبنانية)، ما تزال تقض مضاجع حياة شعوب هذا الجزء من العالم. كما أن نهب مقدراتنا الاقتصادية والإنسانية ما يزال في أوجه. فهل من يحكي أو يُحاكي حواديتنا العربية سينمائيًا ويُطلقها إلى العالم ؟! ونبقى نأمل.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة