جدل مفهوم العلمانية في الظروف المعاصرة
إعداد
أستاذ الفكر السياسي
الدكتور أنمار نزار هاشم الدروبي
الخلاصة باللغة العربية:
بلاشك أن العلمانية كمذهب سياسي، قضية شغلت الفكر السياسي المعاصر وأثارت جدلا كبيرا بين الباحثين والمفكرين، حيث يرى بعض المفكرون أن العلمانية في حالة تراجع كبير في الوقت الراهن وتحديدا في العالم العربي. لقد تعرضت العلمانية ومازالت للعديد من الاتهامات على مستوى الفكر الإسلامي، هذه الاتهامات نابعة من العلاقة المعقدة أو الصراع التقليدي بين الدين والسياسة. الأمر من وجهة نظر التيار الإسلامي المتشدد تشكل العلمانية تحديات جسيمة أمام المنطقة العربية والدول الإسلامية، وهذه التحديات والمخاطر كما تراها الإسلاموية تتفاوت بين مخاطر سياسية وعقائدية وأخرى ثقافية واقتصادية، فهي ترتبط بمحاولات الغرب لعلمنة العالم بما يتناسب ومصالحها وغاياتها بحسب مفهوم الراديكالية الإسلامية. في السياق ذاته هناك اتجاه سياسي اجتماعي فكري في الغرب رفض هو الآخر العلمانية والتحديث، هذا الاتجاه تحديدا مقطوع من سياقات الراديكالية المسيحية المتطرفة في الغرب، أو قد يكون بسبب أخفاق النموذج الغربي في تقديم نموذج شامل ومتكامل للعلمانية. بالمقابل يرى آخرون أن أسهم العلمانية تشهد ارتفاعاً في حياة البشر، بالرغم من انحسار المذاهب السياسية الأخرى كالشيوعية والاشتراكية.
الخلاصة باللغة الإنكليزية:
Secularism:
There is no doubt that secularism as a political doctrine is a historical movement with its objective motives. It emerged as a reaction to the Christian ideology that Europe passed out throughout the Middle Ages, and its emergence is mainly linked to the Christian religion and medieval and modern European history. Religious reform emerged through rebel movements (Protestants) against the Church, the Pope, and Catholic Christian ideology, which resulted in a religious division in Europe. Consequently, Europe entered into an armed clash between Protestant and Catholic monarchs in Switzerland, France, Germany, Austria, and England. Although secularism emerged from the major conflicts, it produced political and legal mechanisms through which the modern state, the state of citizenship. Especially, the relative difference in secular experiences from one country to another confirms the flexibility with which secularism is characterized by the fact that it is not an accomplished idea or a ready-made characteristic as much as it is an institutional concept, and when interpreting it into a tangible reality, the historical circumstances of each country are taken into account.
In the same context, secularism has been promoted as implying a blasphemous concept against religion, specifically by extremist Islamic movements, as those movements dealt with secularism as an ideological trend. However, secularism does not discuss whether an individual is a believer or not, but it allows the faith and ideological horizons for people, and sets up for each person the space through which he can freely practice beliefs and rituals freely, so that the state, bodies or institutions do not interfere in the private belief of any person. Likewise, the state does not grant the citizen any privilege and does not deduct any right due to the beliefs, or because he belongs to any religion or not. Accordingly, the color, ideological and religious affiliation of a person must be independent of the rights as a citizen and his social status, and not result in any advantage or deficiency. Therefore, the state must protect the religious horizon of people. Although there is a big difference between the state as a broad concept and authority as a narrow concept, we notice in many experiments that the authority transcends the state’s concept of religious horizon and obliges people to follow a certain pattern of religiosity. From this point of view, honest and correct secularism is what offers the religious horizon to the religious and does not offer the citizen any advantage and does not deduct due to the beliefs, as we mentioned previously. Perhaps there are those who believe that secularism is the unification of the standards based on rules that everyone fulfils, in which the politics, the economy, the banking system and the transportation system in the world are unified.
مقدمة:
لفهم العلمانية والوقوف على ما تعرضت له من اتهامات وتشويه، وإخراج مفهومها من سياقه الصحيح، يرى كاتب الدراسة أن تفكيك الخطاب العلماني ومآلاته وفهم العلمانية ومضامينها لابد من الرجوع إلى كتابات الفيلسوف الألماني (فريدرك نيتشه)، حيث كانت لفلسفة نيتشه وكتاباته تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث وصولا إلى أفكار وطروحات الفكر السياسي المعاصر. من هنا فإنه لا يمكن فهم إشكالات الفلسفة الغربية المعاصرة إلا بفهم محورية فلسفة نيتشة، تلك الفلسفة التي تحققت فيها اللحظة العلمانية تماما.
وبناء على ما تقدم فإن دراستنا عن العلمانية لا تهدف إلى تحليل الآراء المطروحة بصدد العلمانية كمذهب سياسي فحسب، وأنما وضع هذا المذهب في سياقه التاريخي والسعي لمعرفة ما تمثله العلمانية للواقع الاجتماعي والاقتصادي والديني والفكري وكيفية توظيف مفهومها عبر الواقع المعاصر، إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار كم من الجرائم البشعة وعمليات الإبادة الجماعية ارتكبت عبر التاريخ الحديث والمعاصر بحق المدنيين في العالم بذريعة العلمانية والتحديث، والعلمانية براء منها. بيد أن هذا الالتباس المشار إليه أدى إلى أن تتجه كثير من الكتابات السياسية الصادرة من الغرب والشرق إلى الخلط بين ما ارتكب من تلك الجرائم وعمليات الإبادة بحق المدنيين في العالم وبين العلمانية.
أولا: أهمية البحث:
تأتي هذه الدراسة لتضيف عمقا معرفيا لمفهوم العلمانية وتطورها في الفكر السياسي بمزيد من البحث والدخول في الجدل الذي تديره كتابات وآراء بعض الأفكار الإسلامية والغربية، سيما أن هذا الجدل الكبير في دراسة ظاهرة العلمانية ينطلق من التصور الاختزالي في قضية (فصل الدين عن الدولة). وبلا شك أن التنظير والفلسفة تعكس الظروف والأوضاع التي عاشها أصحاب الرأي والفكر والحياة السياسية التي عاصروها، ونحن بدورنا سنحاول أن نكون على درجة كبيرة من الحيادية في هذا الجدل.
ثانيا: أهداف البحث:
يسعى البحث إلى توضيح حقيقة مفهوم العلمانية والرد على آراء عدد من المفكرين الإسلاميين من منظري (الصحوة الإسلامية) وبعض الكتابات الغربية التي تناولت مفهوم العلمانية بشكل بعيد جدا عن محتواها الحقيقي، ويمكن أن نجمل الأهداف الرئيسية للبحث بما يلي:
- إيضاح مفهوم العلمانية وكيف نشأ وتطور وكيف انتقل إلي عالمنا العربي، وتناولوا أسباب ظهور العلمانية، ولماذا يرى البعض أن العلمانية لا تتماشي مع الحضارة العربية.
2.توضيح حقيقة مهمة مفادها: هل قامت العلمانية على الفصل القطعي بين الدين والحياة العامة للناس: لادين في السياسة ولا سياسة في الدين؟
- فرز وتصنيف الاتجاه الرافض للعلمانية أو تحول الدول العربية الإسلامية إلى دول علمانية، حيث كانوا يصورون العلمانية على إنها الخطر الأكبر علي الإسلام والعالم الإسلامي وكأن العلمانية دعوة للتبشير، لاسيما أن جميع الدراسات الرافضة للتيار العلماني ترى أن العلمانية كفكر وكتيار جاء نتيجة المشكلات التي حدثت في الغرب وكنتيجة لممارسات الكنيسة في الدول الأوروبية، بالتالي فهي لا تتماشي مع مشكلات المجتمع الإسلامي أو تتماشي مع قيمه وتراثه بحسب رأيهم.
ثالثا: مشكلة البحث:
إن الإشكالية في مفهوم العلمانية جاءت نتيجة لتعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة وهو أكثر التعريفات شيوعا للعلمانية في العالم، سواء في الغرب أو في الشرق، وهي تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي وربما الاقتصادي أيضا وفي بعض المجالات في رقعة الحياة العامة، ولهذا السبب يثير مفهوم العلمانية جدلا واسعا وتحديدا حول قضايا العلمانية والدولة المدنية والدين. في السياق ذاته فإن موقف الفكر السياسي العربي من العلمانية متضمن أساساً في الموقف من الغرب والتوجهات الفلسفية والسياسية الكبرى لعصر الأنوار الأوروبي، نظراً لارتباط مفهوم العلمانية بهذه الفلسفات التي فتحت السجال التاريخي الطويل بين الديني والدنيوي، وقوضت سلطة الاستبداد الديني، وأرست قيم الحداثة والتنوير وأسس الحرية الفردية ومركزية الإنسان في المجتمعات.
رابعا: منهج البحث:
نتيجةً لما ذكر في المقدمة وهو (ما تعرضت له العلمانية من اتهامات وتشويه) وكذلك فقرة إشكالية الدراسة وهو (مشكلة وجود علمانيتان، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) في معالجة موضوع جدل مفهوم العلمانية في الفكر السياسي المعاصر بصفة حيادية، فقد ارتأينا استخدام مناهج علمية متداخلة بين المنهج التاريخي والمنهج التحليلي مع الاستعانة بالمنهج المقارن، بالإضافة إلى المنهج الوصفي، وذلك بهدف فهم العلمانية بصورة علمية منهجية وتصحيح بعض الأفكار الشائعة في المجتمع، تلك الظواهر التي تتهم العلمانية بالكفر والإلحاد، سيما أن هذه الاتهامات للعلمانية تسعى إلى تحقيق غايات وأفكار أيديولوجية لإثارة نوعاً من الخلط بين المفاهيم، وبالتالي كان لا بد من التمييز بين هذه المفاهيم والاتهامات.
خامسا: الإطار النظري والدراسات السابقة:
بعد الاطلاع على بعض الدراسات والمراجع في موضوع العلمانية، يرى الباحث أنها تعاني من مشكلة عدم الحياديـة، فقد كانت إما بمثابة مرافعات دفاعية عن العلمانية وتجميـل وتبريـر وتقديس لرموزها، وإما تهجم وتعرية للعلمانية ولكل ورموزها ومواقفها. وعليه سنحاول أن يكون هذا البحث إضافة جديدة في موضوع العلمانية وتفكيك هذا الجدل في الظروف المعاصرة، في الوقت نفسه الالتزام بأكبر قدر من الحيادية.
ومن أهم الدراسات التي تناولت موضوع البحث وبطريقة مهنية وموضوعية هي:
- كتابات الفيلسوف فريدريك نيتشة موضوع العلمانية ومن أهم دراستين بالرصد والتحليل هما:
أولا: نقيض المسيحية ().
ثانيا: ما وراء المستقبل ().
انتقد نيتشة من خلال هاتين الدراستين المسيحية لأنها خاضت حروبا بلا هوادة ضد البشر، وأن المسيحية قد انحازت للفاشلين والوضيعيين، وادخلت الفساد في عقول الناس على حد تعبيره، وكان انتقاده هذا تحديدا لرجل الدين المسيحي (القس) الذي يراه الناس أنه يملك بيده كل المفاهيم الكبرى، لكن من وجهة نظر نيتشة أن القس يستغل هذه المفاهيم ويسخرها باحتقار لمحاربة العقل والعلم والرفاه، وطالما ظل القس، ذلك الذي يتخذ من نفي الحياة والافتراء على الحياة مهنة، يعتبر نوعا أرقى من البشرية، بالتالي فإن القس ساعد على تسميم الحياة وبحسب رأي نيتشة.
- دراسة الدكتور عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ().
وهي دراسة تحليلية جاءت لنقد العلمانية وتشويه صورتها
- دراسة عادل ظاهر: الأسس الفلسفية للعلمانية ().
وهي دراسة تحليلية لتصحيح الفهم السائد للعلمانية في أوساطنا المثقفة وغير المثقفة، المؤمنين بالعلمانية والمناهضين لها، واعتبر الكاتب أن فهم العلمانية هو فهم سطحي جدا يقوم على تعريف العلمانية بالأغراض التي استهدفت تحقيقها الحركات العلمانية في الغرب.
- دراسة محمد علي البار: العلمانية جذورها وأصولها ().
جاءت الدراسة لتؤكد أن العلمانية إنما ظهرت في أوروبا نتيجة لتعنت الكنيسة، وإن جوهر الإسلام علماني لأنه ضد الكهنوت.
- دراسة الدكتور محمد عمارة: العلمانية بين الغرب والإسلام ().
جاءت دراسة الدكتور عمارة عن العلمانية الأوروبية، فهي بحسب رأيه غير التيار المادي الملحد، تيارا مؤمنا بالله، استطاع فلاسفته من أمثال (هوبز، جون لوك، روسو) التوفيق بين الإيمان بوجود الله خالق العالم وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيا بذاته.
تعقيب على الدراسات السابقة وماهي الإضافة العلمية التي سيقدمها الباحث:
يحاول الباحث في موضوع (العلمانية) إلى التوافق مع الدراسات السابقة المذكورة آنفا، حيث يهدف إلى دراسة العلمانية وخاصة مع التقدم المتسارع الخطى للمنظمات الإسلامية في عدد من البلدان العربية والإقبال الشعبي المتصاعد لطرحها الدين في شؤون الحكم والمجتمع، في السياق ذاته سيحاول الباحث إثبات عدم صحة ما يتداول عن مفهوم المذهب العلماني على أنه ينطوي على جوهر إلحادي، وتحديدا في المرحلة الأولى من تطبيق العلمانية في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، تلك المرحلة التي اقتصرت على فصل الدين عن الحكم والشؤون السياسية.
سادسا: تقسيم البحث
تم تناول الموضوع من خلال مبحثين، المبحث الأول، يتناول الأسس الفكرية والاجتماعية للعلمانية، ويتكون من مطلبين، الاول، الجذور التاريخية للعلمانية، والمطلب الثاني، الأسس الفكرية والاجتماعية، المبحث الثاني، العلمانية والواقع، ويتكون من مطلبين، الاول، اشكاليات تطبيق العلمانية، فرع أول، مستلزمات تطبيق، فرع ثاني، نماذج تطبيق العلمانية، المطلب الثاني، نقد المفهوم.
المبحث الأول
الأسس الفكرية والاجتماعية للعلمانية
قامت العلمانية في الغرب على قاعدة الصراع بين البابا والامبراطور، وبين الملك وروما، وبين الجمهورية والكنيسة، أي الصراع بين مؤسستين، بمعنى الفصل بين الكنيسة والدولة. في السياق ذاته فإن العلمانية في العالم الغربي ليست هي نفسها مسألة العلاقة بين المقدس والمدنس، لأن كلا من المجالين يدعي في الواقع الانتساب إلى المقدس ذاته. ثم أن إقامة الدولة الغربية واختفاء طابع القداسة عليها هما عنصران لا ينفصلان عن استعادة الدولة قالبا دينيا ترتكز عليه، ذلك لأن القانون قائم على الإرادة وهي، إرادة الله، والحاكم، والهيئة السياسية، وسواء كانت الإرادة خاصة أو عامة فهي مقدسة. ثم أن المعركة بين الدولة والكنيسة تشتد عندما يتقاسم الطرفان الإيمان ذاته، ولاسيما أنهما يستندان إلى الشرعية نفسها، وينتميان إلى البناء الاجتماعي ذاته. عليه” فإن العلمانية لا تنتمي إلى قيم مشتركة، ولكنها تندرج في قبول قواعد اللعبة، ما يعني أن الكنيسة ترفض أشكال الاعتراض العنيفة أو غير المشروعة على تشريع تعتبره غير مقبول، من جهة ثانية حتى إذا كانت العلمانية مقبولة سياسيا فإن عدد كبير من رجال الدين المسيحيين والاسرائيليين يلمحون إلى حدودها”().
الجدير بالذكر لا يوجد دين علماني بين الأديان التوحيدية المنزلة، ومن حيث المبدأ أن كل دين توحيدي يدعي أنه ينطق بالحقيقة، وفي اعتقاد كل مؤمن أن قانون الله يعلو على قانون البشر وليس أي أكثرية برلمانية أن تقرر ما هو الحق ().
وفقا لما تقدم، إن العلمانية هي الإطار النظري الذي سارت فيه جميع الحركات الفكرية التنويرية بعد القرون الوسطى، فلابد إذن من معرفة العلمانية التي انبثقت منها المراحل الحضارية الغربية، والتي تعبر عن رؤية شاملة للوقائع بعيدة عن الغيبيات والقيم المطلقة. وعندما قامت الحضارة الغربية بعزل الدين عن السياسة جعلت الدولة ومؤسساتها هي المسؤولة عن الحياة اليومية للفرد، وأصبحت الدولة هي التي تقوم بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبيات. عليه فإن الجانب الفكري والفلسفي في الغرب يرتبط بالجانب السياسي ارتباطا وثيقا، الأمر الذي نجد أن الحضارة الغربية من بعد عصر النهضة، قد ارتبط تطورها بأثر الدولة على الحياة الإنسانية، لاسيما هناك علاقة بين الدولة والعلمانية في جميع مراحل الحضارة الغربية ().
وسيتضمن هذا المبحث مطلبين، الاول، الجذور التاريخية للعلمانية، والمطلب الثاني، الأسس الفكرية والاجتماعية
المطلب الأول
الجذور التاريخية للعلمانية
إن البحث في تاريخ ظهور العلمانية يستدعي الخوض في مجالات قد تبدو مختلفة إلى حد ما، إذ يتداخل الحديث عن الجذر الاشتقاقي للكلمة وأصلها اللغوي مع تاريخ المفهوم ومن ثم الدلالات التي استخدم بداية للتعبير عنها، قبل الانتقال إلى الاستخدام الحالي للمصطلح ودلالاته النظرية التي تُحيل إلى ما استقر الفكر المعاصر على تسميته العلمانية. لاسيما أن كلمة علمانية هي ترجمة لكلمة (سكيوالريزم) التي لها نظائرها في اللغات الأوروبية، وهي مشتقة من اللغة اللاتينية، وتعني (العصر، أو الجيل، أو القرن) وإن الكلمة نفسها كانت تعني في لاتينية العصور الوسطى (العالم أو الدنيا) في مقابل الكنيسة. وهناك اتجاه يرى إن كلمة العلمانية تؤكد على البعد الزماني، في حين يرى آخرون أن كلمة العلمانية تؤكد على البعد المكاني ().
وقد ورد في قاموس أكسفورد بعض لتعريفات لمصطلح علماني أبرزها، أن العلماني ينتمي للحياة الدنيا وأمورها ويتميز بذلك عن حياة الكنيسة والدين. مدني وعادي وزمني. حيث ترادف كلمات مثل مدني وزمني وعلماني، أن الكلمة هنا تعني، غير كهنوتي وغير ديني وغير مقدس، والعلماني هو ما ينتمي إلى هذا العالم، الآني المرئي، تمييزا له عن العالم الأزلي والروحي. تجدر الإشارة إلى أن كلمة (العلمانية) قد شاعت في الإنكليزية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وانتشرت على ُ أيدي من عرفوا وقتئذ بالمفكرين الأحرار، في محاولة النأي بكلمة العلماني عن شبهة الإلحاد والكفر التي حامت حوله، والسعي ليصبح مصطلح العلمانية ذو طابع مدني زمني لإبعاد هذه الشبهة.ثم اتسع استخدام اللفظ عندما استقل الإمبراطور عن بابا روما، وتجسد الانفصال بين ما هو روحي وما هو علماني في مؤسسات، فانتقلت بعض المسؤوليات من سلطة الكنيسة إلى السلطة السياسية. ويسمى هذا الانتقال بـالعلمانية ().
وفي فرنسا كان مفهوم العلمانية يدل على عملية إصلاح التعليم التي قادها الجمهوريون في سعيهم لتحويله من سلطة الكنائس إلى سلطة الدولة الجمهورية، وشاع أكثر مع بداية علمنة التعليم ونظام المدارس أواخر القرن التاسع عشر، ثم ازداد شيوعه بشكل أوسع مع بداية القرن العشرين، وتحديدا في أجواء الفصل بين الدولة والكنيسة الذي تم إعلانه رسميا عام 1905().
لقد ظلت الكنيسة منذ نشأتها وعبر قرون طويلة من حياتها في المجتمعات الأوروبية، دينا لا دولة. وعبر هذه القرون حكمت العلاقة بين الكنيسة والدولة، أي الدين والمجتمع (نظرية السيفين)، بمعنى السيف الروحي أو السلطة الدينية للكنيسة، والسيف الزمني أو السلطة المدنية للدولة. وعندما تجاوزت الكنيسة حدود رسالة الروح ومملكة السماء فاغتصبت السلطة الزمنية أيضا، وأضافت على الدنيا قداسة الدين، من هنا دخلت المجتمعات الأوروبية مرحلة الجمود وعصورها المظلمة، وسادت في تلك الحقبة نظرية (السيف الواحد) أي السلطة الجامعة بين الديني والمدني سواء تولاها البابوات، الأباطرة، أو الملوك الذين يباركهم البابوات، وقد عرف هذا النظام في التاريخ الأوروبي بنظرية الحق الإلهي للملوك. وفي مواجهة هذا النظام وواقع الجمود والانحدار الحضاري الذي أدى إلى تراجع الدولة ومجتمعاتها وعلومها، جاءت (الثورة العلمانية) التي فجرتها فلسفة التنوير الأوروبي، تلك الثورة التي أقامت قطيعة معرفية مع فلسفة الحكم الكهنوتي، وأسست النزعة العلمانية الحديثة على التراث الأوروبي القديم وعلى عقلانية التنوير الأوروبي الحديث التي أحلت العقل والتجربة محل الدين واللاهوت.
بالتالي فقد أعادت الثورة العلمانية الأوروبية الكنيسة إلى حدودها الأولى، حيث عرفت العلمانية الأوروبية غير التيار المادي الملحد تيارا مؤمنا بالله، أستطاع فلاسفته من أمثال (هوبز، لوك، روسو، ليستنج) التوفيق بين الإيمان بوجود الله خالق العالم وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيا بذاته، حيث حصرت تدبير الاجتماع البشري في سلطة البشر المتحررة من شريعة الله، وكانت هذه الفلسفة مؤسسة على التصور الأرسطي في نطاق عمل الذات الإلهية، فالله في التصور الأرسطي واحد، مفارق للعالم وخالق له، لكن أودع في العالم والطبيعة الاسباب التي تدبرهما تدبيرا ذاتيا، دونما حاجة إلى تدخل إلهي، أو رعاية إلهية فيما بعد الخلق” فالحركة توجه في الشيء بذاته ولذاته، لا من حيث أن شيئا خارجيا هو الذي يحدث في هذه الحركة وعناية الله موقوفة على ذاته ولا تدخل له في الأحداث الجزئية في العالم والطبيعة”().
مع تحول الامبراطورية الرومانية الوثنية إلى الامبراطورية البيزنطية المسيحية، تمسك الاباطرة بإدماج الدين في القانون العام للدولة، وأجروا ذلك على مختلف وجوه الحياة. وأصبحت للعبادة متعلقات عقيدية حصرية تفضي بمن لا يأخذ بها (انتمائه إلى جماعة دينية مغايرة) إلى خارج الإطار القانوني العام وتقتضي عزله في خصوصية دينية مدنية مغلقة اجتماعيا وسياسيا، تطبق عليها أحكام خاصة. عليه غدا التسامح الديني شأنا مرهونا بالعلاقات الدولية وبالولاء للأكثرية في جو مشحون بالعداء والازدراء الديني، تعضده تمايزات اجتماعية وثقافية لفئة على أخرى بموجب تضحية الاباطرة بالقانون لحساب العقيدة والانتماء إليها، الأمر الذي عاد بالضرر على الاستقرار والسلم الأهليين ().
تجدر الإشارة إلى نقطة أساسية في تاريخ الفكر والفقه المسيحي، أن القانون الكنسي أخذ بالتطبيق المتجانس مع انتشار الربانيات الكبرى في الأرياف الأوروبية. أما المدن الأوروبية فقد بقيت محتفظة بحد كبير من الاستقلالية القانونية سمح لها فيما بعد بإنتاج الرأسمالية وفئة جديدة من القانونين صاغوا القوانين المدنية وأنتجوا الفكر العلماني بالتعاون مع قساوسة المدن الإيطالية الذين ارتبطوا بعلاقات أسرية مع أرستقراطية المدن. وفي عام 1516 هاجم الراهب (مارتن لوثر) الكنيسة على أنها تبيع صكوك الغفران للشعب، ثم فجر لوثر حركة الإصلاح البروتستانتية في ألمانيا بالتحالف مع بعض الأمراء الألمان عام 1517، تلك الحركة التي كانت فاتحة عهد من الحروب الأوروبية غيرت نظامها الدولي، وثبتت دولا مركزية تخلصت من الاستبداد الملكي وسلطة الكنيسة التابعة لهذه النظم الاستبدادية. لقد حاربت البروتستانتية البدع بدون هوادة وعملت على قسر التجانس الايديولوجي والروحي والعبادي. من ثم كرست الإصلاحات البروتستانتية والكاثوليكية مبدأ التجانس المذهبي وتبعية الكنيسة للدولة ().
إذن هكذا نشأت العلمانية في سياق التنوير الوضعي، والتي حصرت الدين في الكنيسة وفي الضمير الفردي، وهي ثورة تصحيح ديني، وليس عدوانا على الدين، وساعدها على ذلك أيضا التراث الروماني، ذلك التراث الذي جعل المنفعة غير المضبوطة بالدين وأخلاقياته وشريعته السماوية، هي المعيار، فكان الطريق إلى القانون الوضعي مفتوحا أمام العلمانية يزكيه هذا التراث ().
إن البحث في تاريخ ظهور العلمانية يستدعي الخوض في مجالات قد تبدو مختلفة إلى حد ما، إذ يتداخل الحديث عن الجذر الاشتقاقي للكلمة وأصلها اللغوي مع تاريخ المفهوم ومن ثم الدلالات التي استخدم بداية للتعبير عنها، قبل الانتقال إلى الاستخدام الحالي للمصطلح ودلالاته النظرية التي تُحيل إلى ما استقر الفكر المعاصر على تسميته العلمانية.
وعليه يمكن أن نجمل أهم العوامل والظروف التي مهدت إلى العلمانية وهي كالآتي:
- يعتمد كثير من المؤرخين معاهدة ويستفاليا، سنة 1648، بوصفها بداية لمولد الظاهرة العلمانية في الغرب. ذلك ّ أن مصطلحات مثل (علماني أو علمانية (استخدمت لأول مرة في هذه المعاهدة. حيث أنهت معاهدة ويستفاليا ما عرف بحرب الثلاثين عاما في أوروبا، وقد أعلنت تلك المعاهدة عن بداية ظهور الدولة القومية الحديثة أي الدولة العلمانية إذ تمت الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة، بمعنى نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة. ذلك لأن حرب الثلاثين عاما كانت حربا دينية بامتياز أتت في سياق الصراع الديني الطائفي بين الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها، وبين معتنقي العقيدة الجديدة: البروتستانتية، التي ظهرت كنتيجة منطقية لحركة الإصلاح الديني على أيدي مارتن لوثر، الذي كان رائد العمل على إعادة تقييم النصوص الدينية، أو بالأدق تأويل النصوص الدينية، حاله حال كالفن، وغيرهما من القساوسة الإصلاحيين ().
- الثورة البروتستانتية، كانت ثورة سياسية إذ تضّمنت الامتناع عن دفع الأموال التي كانت الكنيسة تتقاضاها، والتحرر تدريجيا من تسلطها على الحكومات في مختلف البلدان الأوروبية. وقد ذهب لاحقا الفيلسوف الألماني هيغل إلى اعتبار الإصلاح اللوثري وظهور البروتستانتية أحد مفاتيح العصور الحديثة. إذن كان الخروج على سلطة روما والبابا هو المظهر الأهم في البروتستانتية، وتبلور فكرة (الكنائس القومية) أدى إلى تعزيز دور الكنائس المحلية، التي لم يكن لديها من القوة ما يكفي للتحكم بالسلطة (الزمنية العلمانية) على نحو ما كانت تقوم به البابوية. حيث انعكس ذلك انعكاسا كبيرا على التطور العلمي، على الرغم من محاولة رجال الدين في كبح جماح العلم، لكنهم كانوا عاجزين عن السيطرة على الدولة ().
المطلب الثاني
الأسس الفكرية والاجتماعية للعلمانية
نشأ مفهوم المواطنة وتبلور في أوروبا، وكان للثورة الفرنسية ولانتشار الحركات القومية الفضل الأكبر في تعزيزه والتأكيد عليه وخاصة مع صدور بيان حقوق الإنسان والمواطن عام 1948. بادئ الأمر ثار جدل حول نشوء المفهوم، وتحديدا فيما يخص المشاعر القومية ومدى اقتران المواطنة بالانتماء القومي. من ثم تبلورت فكرة المواطنة باستقلالية وعناصر خاصة بها لتزيح باقي الانتماءات خلفها وتجعل الولاء للوطن والدولة بالدرجة الأولى. لاسيما أن صفة المواطنة التي تحققها الجنسية، الموروثة أو المكتسبة، تنتج رابطة حقوقية، قانونية وسياسية بين الفرد، المواطن والدولة التي ينتمي إليها، دون أن تلغي بالضرورة علاقته الشعورية أو روابطه الاجتماعية مع الإثنية أو الأمة أو الجماعة الدينية أو سواها من الانتماءات ما قبل الوطنية. من هنا فإن الدولة الحديثة، دولة المواطنة المتساوية وسيادة القانون، لا تتعامل مع الناس كجماعات أو مذاهب أو عشائر، بل كأفراد ومواطنين. وجوهر العلمانية عندما ظهرت في أوروبا بوصفها تأكيدا لفكرة تحييد الدين عن الدولة، أو تحييد دور الدولة الديني، بمعنى ألا يكون للدولة دور ديني وألا تدعم السلطة السياسية جماعة دينية على حساب أخرى، وهو ما يُعبر عنه اليوم (بالحيادية الدينية للدولة) وهذا ما يضمن تعاملها مع مواطنيها بالتساوي كأفراد من دون النظر إلى أصولهم الدينية أو القومية أو الاجتماعية ().
وفقا لما تقدم، أن الاختلاف الجوهري بين المجتمع الحداثي والمجتمع الديني يظهر جليا في آلية تنظيم المجتمع وفي علة تنظيمه، بالنسبة إلى المجتمع الديني تتدخل المبادئ العليا ومنطق التكليف والجبر الإلهيين، ولا بد من العودة دائما إلى مرجعية وسيطة تمثل سيادة عليا. ولا يمكن بأية حال رد المرجعية ونفيها أو تجاوزها كما لا يمكن تقويض تلك السيادة العليا. بخلاف ذلك في المجتمع الحداثي يتم الانتظام وفق قانون وضعي يراعي الحياة الشخصية والمصلحة الخاصة والعامة ويستهدف التحرر من الضغوط العليا وكل مرجعية فيه، مهما كانت تظل بشرية قابلة للتجاوز والنقد والطعن ().
في السياق ذاته، أن العلمانية تعني مبدأ الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني في الدولة. إذ الدولة لا تتدخل في الشؤون الدينية وهي تقف موقف الحياد تجاه الأديان ومؤسساتها، كما أنه ليس لرجال الدين أية سلطة سياسية ولا يرعون شؤون الدولة السياسية الاجتماعية والاقتصادية والإدارية ().
إذن العلمانية” هي وسيلة لتنظيم شؤون المجتمع، دنيوية وبراغماتية وعقلانية، تعرف الدولة بحيادها تجاه العقائد الدينية وغير الدينية، فتشكل أسس دولة المواطنة الحديثة أي الديمقراطية. وهي تعني تحرير الدولة من ارتباطاتها ومرجعياتها الدينية، وتحرير الدين من تدخل الدولة في شؤونه، دولة مواطنين متساوين بصرف النظر عن انتماءاتهم الثقافية والدينية، وبحيث يتحرر الدين من طموح الحاكمية من جهة، ومن تدخل الدولة في شؤونه من جهة أخرى” ().
إن الأسس الفكرية للعلمانية، مفهومة على أنها استقلال مجال الدين عن مجال السياسة، فهي منجز إنساني من منجزات الحداثة. أنها أفكار جاءت للمساواة بين البشر في الكرامة الإنسانية، حيث لا يمكن فصل هذه الأسس عن المعرفة العلمية، ولاعن اندماج العلم بالعمل، ولا عن الثقة بالعقل وقدرته على التوصل إلى الحقيقة أو على إنتاجها، ولا عن تفتح الفردية، بما هي حرية الفرد الإنساني واستقلاله، ولا عن أي من أسس وأساليب الحداثة الأخرى. عليه فإن الأسس الفكرية والاجتماعية للعلمانية قد شكلت أساس المجتمعات المدنية الحديثة والأمم الحديثة والدول الحديثة. لكن في الوقت نفسه يجب التأكيد على ألا تفهم تلك الأفكار في تحييد الدور السياسي للدين بمعنى قصر العلمنة على المجال السياسي، فهذا خطأ شائع في مفهوم العلمنة، فالأسس الفكرية والاجتماعية للعلمنة هي في سيرورة عقلنة المجتمع على صعيد الثقافة والفكر والايديولوجيا. أي أن العلمنة تبدأ بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية صعودا إلى المؤسسات السياسية. لذا فالعلمنة على صعيد السياسة فقط هي إما مناورة أو طائفية مضادة، إذ إن العلمنة الحقة الكلية هي إحدى تظاهرات مجتمع يتقدم وحديث بعد أن عانى من سلبيات الأيديولوجيات المختلفة على مر العقود ().
في المقابل هناك اتجاه يرى أن العلمانية لم تكن حصيلة سجالات نظرية وفكرية، ولا هي جاءت بقرار ناشئ عن رغبة أفراد أو مجموعات فكرية أو سياسية، بل إنها ظهرت بادئ الأمر كحل عملي فرضته أجواء الحروب الدينية التي تخللت القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومزقت المجتمعات الأوروبية، فكانت العلمانية بذلك نوعا من تسويات تاريخية كبرى، سياسية واجتماعية، حيث اكتسب الحل العلماني صفة خاصة إجرائية وعملية قبل أن يكون رؤية فكرية أو نظرية سياسية محددة المعالم ().
وهناك رأي آخر يعتقد أن العلمانية هي نزع الطابع السحري عن العالم، وهي انتصار عقلانية النجاعة والضبط العلمي على عقلانية الغايات الموجهة بالأهداف الدينية. أي أن العلمانية معنية بدور الإنسان في العالم، وبتأكيد استقلالية العقل الإنساني في سيرورة توظيف الإنسان للعقل في أي من المجالات التي يوظفه فيها. والأهم من كل هذا أنها معنية بجعل دور الإنسان في العالم مشتملا على اكتشافه باستقلال عن الدين، والغايات التي يجدر به تحقيقها، والوسائل الكفيلة بتحقيقها. كذلك العلمانية موقف من طبيعة المعرفة العلمية، أي المعرفة المطلوبة لتنظيم شؤوننا الدنيوية، وإبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع والإبقاء على هذا الميدان بشريا بحتا، تتصارع فيه جماعات لا يمكن لواحدة منها أن تزعم أنها الناطقة بلسان السماء. فأساس المفاضلة بين المواقف المختلفة يجب أن يكون العقل والمنطق والمقدرة على الإتيان بالحلول الواقعية الناجحة، فأية دعوة إلى الارتكاز على سند سماوي في هذا الصراع إنما هو تضليل يخفي وراءه رغبة دفينة في إلغاء شروط هذا الصراع أصلا ().
من هنا فإن للعلمانية مفهومان وهما” مفهوم سع جدا والآخر ضيق جدا، واسع لأنه يعني في تحليل أولي الأنظمة التي تحترم حرية الضمير، بمعنى أن تلك الأنظمة تفترض أن الدولة ليست ملكا لفئة من السكان، وإنما هي للجميع، للشعب من دون أدنى تمييز بين الأفراد تبعا لتوجهاتهم في الحياة. وهو ضيق، إذا كان التعبير نفسه يحيل إلى المعركة ضد الكهنوتية الدينية، أي سلطة رجال الدين ().
لقد شكل تطور العلوم الطبيعية والاقتصادية والفلسفية، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أحد الأسس الفكرية الهامة لتطور العلمانية حيث أدى تطور العلوم إلى ان تقوم العلمانية على أسس نظرية رصينة تدعم الأسس السياسية للعلمانية التي جرى الأشعار فيما سبق.
وفيما يخص الأسس الاجتماعية للعلمانية، نشير إلى ان تطور الدولة القومية شهد صراعا بين القوى الاجتماعية الجديدة التي ظهرت مع الثورة الصناعية وحركة التنوير الاوربي، المتمثلة بالطبقتين البرجوازية والطبقة العاملة والفئات الوسطى التي ازداد عددها وتوسع دورها الاجتماعي بفعل توسع الانتاج الصناعي وتطور التعليم ونمو مؤسسات الدولة الإدارية، والقوى الاجتماعية القديمة المتمثلة بطبقة الاقطاع وكبار التجار والعقاريين من ملاك الأرض والنخب المحافظة المدعومة من رجال الدين أرادوا اضافة مهمة دينية للدولة بحيث” تعتبر السلطات الدينية للدولة وسيلة مقدسة لتحقيق رسالة الدين على الأرض” ().
المبحث الثاني
العلمانية والواقع
إن لاستقلالية الإنسان بعدين أساسيين يجب التمييز بينهما، من جهة، فهي استقلالية العقل الإنساني، ومن جهة ثانية، فهي استقلالية الإنسان باعتباره كائنا اخلاقيا. بيد أن علاقة الاستقلالية بالعلمانية هي، استقلالية العقل والمعايير العقلية في ضوء الاعتبارات المعرفية لها أولوية مطلقة في الشؤون المعرفية، حيث أن للعقل استقلالية كاملة عن كل ما يقع خارجه، فلا يمكن إخضاعه لرقابة دينية أو غير دينية، ولا يمكن لأي معايير مهما كان نوعها ومضمونها، أن تكون ذات أسبقية على معايير العقل ().
في الواقع أن العلمانية ليست بالشأن المرتبط ضرورة بالفاعلية العلمية، بل أن هذه الفاعلية قد تبقى منحصرة في الأمور التفصيلية للبحث دون أن تؤدي بالضرورة إلى نظرة عدائية تجاه الدين، بحيث لا يصار إلى تعميم الحقائق العلمية ومناهجها على مختلف مجالات عمل العقل في العقيدة، وأن يعتبر الدين مجالا منفصلا عن العلم. لا سيما هذا كان واضحا في تدين بعض علماء الطبيعة الأوروبيين على سبيل المثال لا الحصر (روبرت بويل) الذي كان معاديا بشدة للإلحاد والشك في أمور الدين، وكذلك (نيوتن) الذي اعتبر مدارات الكواكب وسرعاتها أمورا على انتظامها موضوعة من قبل الله ولا تخضع لمساءلة بشرية ().
في السياق ذاته، أن العلمانية في الواقع ليست مبارزة بين العلم والدين، فالعلم جملة معارف مضبوطة، والدين جملة تصورات قيمية لا تخضع للعمل، ولا يمكن إيجاد وضع من التناقض بينهما، ولو حاول الدين بادعائه امتلاك حقائق الكون تعطيل الفاعلية العلمية في وضع كانت فيه التصورات المبنية على الفاعلية العلمية آخذة في التوسع في مجالات تخرج عن نطاق العلم، وتنافس الدين في المرجعية التفسيرية، في الوقت نفسه كانت قادرة على الارتباط بمرجعية اجتماعية وسياسية، وفي النهاية أيديولوجية ثقافية، وعلى تهميش العقلية الدينية والدفع بها إلى مجال خاص من مجالات الحياة وهو العبادة. وما حصل ذلك إلا باجتماع الحداثة العلمية، واكتشاف العالم التاريخي بما هو مجال للتحول، واقتران ذلك مع اكتشاف أماكن التحول المجتمعي المنعكس في الديمقراطية السياسية ().
على ما تقدم، فإن كل ما يشاع عن العلمانية من قبل غالبية رجال الدين في الهجوم عليها هو غير صحيح، لأن الحقائق والواقع يثبت، أن المؤسسات الدينية تزدهر في الأنظمة العلمانية، وتُحمى المراكز الدينية من كل انواع الاعتداء بما فيه ازدراء الأديان او ازدراء مقدساته وطقوسه. وتعمل مؤسسات النظام العلماني على انشاء وتطوير المقدسات والمراقد الدينية، مساجد، كنائس وغيرها. كذلك تحمي وتحفظ الدولة حق المواطن في اختياراته لمعتقداته الدينية. بحيث تدافع الدولة عن حق المواطن في ممارسة شعائره الدينية وتضمن له الحرية في ذلك. ويبقى هذا مشروطا بعدم الاعتداء على الآخرين أو الإساءة إليهم وإلى اختياراتهم الدينية ().
وسيتضمن هذا المبحث مطلبين، الاول، اشكاليات تطبيق العلمانية، فرع أول، مستلزمات تطبيق العلمانية، فرع ثاني، نماذج تطبيق العلمانية، المطلب الثاني، نقد المفهوم.
المطلب الأول
اشكاليات تطبيق العلمانية
بلا شك أن مصطلح العلمانية مصطلح خلافي جدا، شأنه شأن مصطلحات أخرى مثل (التحديث، التنوير، العولمة) ولعل مصطلح العلمانية بالذات من أكثر المصطلحات إثارة للتفرقة، لكن الأمر أبعد من هذا الفهم المختزل للعلمانية، أي أن شيوع تعريف العلمانية باعتبارها (فصل الدين عن الدولة) كان ومازال السبب في الصراع المستمر بين المؤيدين والمناهضين للعلمانية، وهو ما سطح القضية تماما وقلص نطاقها، من هذا المنطلق” فإن الفهم السائد للعلمانية في أوساطنا المثقفة وغير المثقفة، المؤمنين بالعلمانية والمناهضين لها، هو فهم سطحي جدا يقوم على تعريف العلمانية بالأغراض التي استهدفت تحقيقها الحركات العلمانية في الغرب، حيث لا ينظر إلى العلمانية كونها موقفا من الإنسان والقيم والدين، ولا من منظور كونها موقفا ابستمولوجيا، أي موقفا من طبيعة المعرفة العلمية ومن طبيعة علاقتها بالمعرفة الدينية”().
بالتالي فقد غدت ثنائية العلماني والإسلامي أكثر الثنائيات تداولا، بعد أن تشبث كل فريق بمسلماته، والتزم بنظرياته، مدعيا احتكار الحقيقة وحيازة المعرفة، حتى تكلست الرؤى وتحجرت المفاهيم لكل اتجاه. ولكن على الرغم من كل هذا فإن العلمانية تتحدث عن الإصلاح من خلال الطرق المادية، بيد أنه لا يعني هذا رفضا كاملا للإيمان، لاسيما أن بعض المفكرين أصبح لديهم المعنى الاساسي لفهم العلمانية يعني (فصل الدين عن الدولة). وهذه من أكثر الاسس الفكرية شيوعا للعلمانية في العالم سواء في الغرب أو في الشرق وهي عبارة تعني فصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة) ().
من هنا فإن ما يميز العلمانية عن غيرها من المفردات هو” أن مدلولها أخذ بعدين فكريين، البعد الأول، مدلولها في المفهوم الغربي، أما البعد الثاني، فهو مدلولها في الفكر العربي المعاصر”().
إن إحدى أكبر الاشكاليات في تطبيق العلمانية، هو ما تطرحه بعض الآراء التي اتهمت العلمانية على أنها خلقت حالة من ازدواجية المعايير نتيجة للمساحة الكبيرة التي احتلتها الحداثة في حياة الشعوب. لاسيما أن هذه المسألة قد شغلت الفكر السياسي المسيحي وتحديدا في مبدأ ازدواج السلطتين، وقضية ولاء الأفراد لهاتين السلطتين، سلطة الكنيسة، وسلطة الدولة المتمثلة بالإمبراطور، لكن المشكلة في الحقيقة ليست في ازدواج الولاء التي افترضته المسيحية كأحد المسلمات آنذاك، والذي نتج عنه الطبيعة المزدوجة للفرد، وأنما المشكلة في جوهرها تكمن في قضية تعارض الولاء، للكنسية أم للدولة؟ وبمعنى آخر أي من السلطتين يجب على الفرد ولمن يعطي ولاءه في حالة التعارض بينهما. الواقع أن على الفرد أن يتوجه بولائه لكل من السلطتين كل حسب مجالها واختصاصها. وعندما اكتسبت الكنيسة سلطة ضخمة وثراء ووصل بها الأمر إلى أن أصبحت دولة داخل دولة، أصبح للبابا رأس الكنيسة اليد الطولى في مواجهة الحكام ().
أما فيما يتعلق بالفكر السياسي العربي، فإن تطبيق العلمانية يتطلب قبلها نقد المنظومات المرجعية المهيمنة، بمعنى ينبغي التفكير في علاقات السياسي بالديني، علاقة المقدس بالتاريخ في أبعاده المختلفة، علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع. من هنا تصبح العلمانية بمختلف انجازاتها والإشكالات والتحولات المتواصلة تعكس معناها الفكري التاريخي المناسب، حيث يمكن أن تتشكل التطورات، وتُبنى المعاني والدلالات القادرة على استيعاب ما جرى ويجري، والدفع في السياق المساعد على تطوير الفكر السياسي العربي.
وبناء على ما تقدم، لا يمكن التفكير في مفهوم العلمانية في الفكر السياسي العربي، خارج إطار التفكير في الإشكاليات النظرية والتاريخية المرتبطة بموضوع كيفية انغراس الحداثة السياسية في واقعنا وفي فكرنا العربي، ودمج الثقافات وبناء المرجعيات والأصول الجديدة من أجل بناء مجال سياسي، وإعادة بناء الفكر بالصورة التي تنشئ تصورات جديدة لكيفية استمرار تقاطع المقدس بالتاريخ. وفي هذا المستوى بالذات من التفكير يجب استحضار مبدأ العقلانية، من ثم سنتخلص من المفاهيم الخاطئة والخطيرة، حتى يُبنى المفهوم السياسي التاريخي من خلال لغة يفهما الجميع ().
ويعكس هذا الانسجام الفريد في الموقف الرافض للعلمانية، بين أتباع ديانات ومذاهب تتخاصم فيما بينها، آراء متطرفي التوحيديات الثلاث، الذين يعطون الانطباع بأنهم في حالة حرب فيما بينهم، إلا أنهم يتشاطرون القيم نفسها. فاليهودية والمسيحية والإسلام، تتقاسم المرجعيات النصية نفسها، والمرجعيات النبوية نفسها، وتصدر الثلاثة عن إرادة واحدة في التمايز عن الشرك وتعدد الآلهة بالانتماء إلى التوحيد. وأولئك الذين يتمنون تطبيق هذا الإرث من دون إعادة وضعه في سياقه الصحيح، لهم جميعا هدف واحد يعطونه الأولوية، هو إجبار الديمقراطي والعلماني على الانكفاء باسم قانون إلهي أسمى من قانون البشر ().
تعقيب:
لعل مزاعم عدد من المفكرين المسلمين من منظري (الصحوة الإسلامية) أكدوا على أن الإسلام هو دين ودولة بعكس الأديان السماوية الأخرى، وقد أخذت هذه الفكرة تتكرر حتى على ألسنة من هم ليسوا ذو ارتباط بالحركات الإسلامية المعاصرة، أي أن فكرة الإسلام دين ودولة ترددت عند هؤلاء ليس بالمعنى الأيديولوجي ولا بالمعنى الفلسفي. وقد تبنى أصحاب هذا الاتجاه رفضا واضحا للعلمانية أو تحول الدول العربية الإسلامية إلى دول علمانية وكانوا يصورون العلمانية على إنها الخطر الأكبر علي الإسلام والعالم الإسلامي، وكأن العلمانية دعوة للتبشير، وأن أغلب الدراسات الإسلامية الرافضة للتيار العلماني أكدت على أن العلمانية كفكر وكتيار جاء نتيجة المشكلات التي حدثت في الغرب وكنتيجة لممارسات الكنيسة في الدول الأوروبية، بالتالي هي لا تتماشي مع مشكلات المجتمع الإسلامي أو تتماشي مع قيمه وتراثه. لاسيما أن حجتهم بذلك هو أن العلمانية قامت على الفصل القطعي بين الدين والحياة العامة للناس، لادين في السياسة ولا سياسة في الدين وبحسب رأيهم.
فرع أول
مستلزمات تطبيق العلمانية
بلا شك أن مستلزمات تطبيق العلمانية في أي دولة، بما تنطوي عليه من خصائص العمومية، أي دولة عموم مواطنيها دون استثناء، لا دولة فئة بعينها منهم، دولة سيادة القانون والمساواة في تعاملها مع المواطنين، بصرف النظر عن معتقداتهم أو انتماءاتهم، وحيادتها تجاه عقائد الأفراد والجماعات، كل ذلك يجعل من العلمانية أساسا لا تقوم الدولة الحديثة من دونه، لا مجرد صفة توصف بها لتمييزها عن دولة أخرى لا علمانية. وبالنظر إلى الدولة الحديثة بوصفها مجالا عاما، ودولة لجميع مواطنيها بالتساوي، عليه لا يستقيم أن تقوم على أساس خاص(كالدين) بل على العكس من ذلك، تتأسس على المبدأ العلماني المتمثل في حياد الدولة الإيجابي تجاه أديان سائر مواطنيها ومذاهبهم وعقائدهم.
من هنا ” فإن شعار الدولة المدنية والدولة الدينية متناقض في ذاته. التناقض هو تناقض بين الموصوف، أي الدولة، وبين الصفة، دينية أو مدنية. إذ الدولة مجال عام، والدين، الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي وما شئت، مجال خاص لجماعة بعينها. العام هو ما يحدد الخاص، لا العكس، وإن كل وصف هو تحديد وتعيين، الدين لا يحدد الدولة أو يعينها لأنه ليس من صفاتها ولا من طبيعتها”().
ولعل مستلزمات تطبيق العلمانية وأسباب ظهورها في السياق العربي يرتبط على سبيل المثال لا الحصر بمشكلة حقوق الأقليات الدينية المسيحية بصفة خاصة، ذلك أن هذه الأقليات عانت من الوضع الذي كان قائما خلال الحكم العثماني، وهي كانت تشعر بأن الدولة العربية الواحدة التي تنادي بها القومية العربية ستكون الأغلبية الساحقة فيها من المسلمين. ولهذا ” فإن الدلالة الحقيقية لشعار العلمانية مرتبط عضويا بمشكلة الأقليات وحقها ألا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فالعلمانية على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدينية”().
في السياق ذاته، أن العلمانية إذ تعمل على تحرير الدولة والمجال السياسي من سلطة رجال الدين أو تدخلهم، فإنها في الوقت عينه تحرر الدين من هيمنة السلطة السياسية عليه وعبثها به، فلا تعود هناك إمكانية أن يستخدم الدين أداة بيد الدولة (السلطة السياسية) كما يحصل في غالبية نظم الحكم الاستبدادية، التي تجد في الدين إحدى وسائل الضبط الاجتماعي وهو ما يتعذر في ظل العلمنة، بما تقتضيه في جانب من مستلزمات تطبيقها، من فصل بين المجال السياسي والمجال الديني ().
وعليه وما دامت الدولة تقوم على الحياد العقائدي، دينيا ودنيويا، لا يجدر بها أن تتخذ أية أيديولوجية بصفتها هوية أيديولوجية للدولة. فالدولة في النظام العلماني تبقى قطاعا حياديا مستقلا فكريا وسياسيا عن الحزب الموجود في السلطة، فتبقى دولة كل المجتمع، لا أداة بيد حزب السلطة، بما يرتبه ذلك من نتائج خطيرة ومدمرة، إذ ستسوغ الدولة لنفسها أيديولوجيا الحزب الممسك بالسلطة، من ثم تتدخل في حياة المواطنين وخياراتهم الفردية ().
فرع ثاني
نماذج تطبيق العلمانية
فرنسا:
نص الدستور الفرنسي في عام 1946، كما في عام 1958 أن فرنسا (جمهورية علمانية). لاسيما أن هذا الاستخدام المتعمد للفظ العلمانية في نص دستوري صريح، ليؤكد على علمانية الدولة في فرنسا، ويعكس بشكل ملحوظ الظروف التاريخية للتجربة الفرنسية، منذ ثورة 1789 وما بعدها، ذلك لأن الصراع كان على أشده بين الجمهوريين بما يحملونه من قيم الحداثة وحقوق الإنسان، وبين الكنيسة الكاثوليكية القوية، المتحالفة مع الملكية، وارتباط سلطة الدين، الكنيسة بالملكية وطبقة النبلاء التي أسقطتها الثورة. عليه فقد بُنيت الجمهورية الفرنسية على العلاقة بين المواطن والدولة. فالدولة وفق النموذج الفرنسي تشغل المجال العام بالكامل، ويرتبط بها المواطنون بوصفهم أعضاء فيها، حيث عملت العلمانية الفرنسية على إخلاء المجال العام من سيطرة الدين، غير أنها سعت إلى ملئه بالقيم الثقافية (الزمنية) وقد استخدمت الدولة الفرنسية المؤسسات التعليمية على وجه العموم كأهم أذرعها في إشاعة ما تريد تطبيقه من تصورات علمانية. في الوقت نفسه حرصت على إصلاح التعليم أواخر القرن التاسع عشر من خلال إحلال ما أسمته بالتكوين الأخلاقي المدني وبناء نظام تعليمي بعيدا عن الدين ().
تركيا:
توصف العلمانية في تركيا بأنها تحاكي النموذج الفرنسي، ولعلها تزيد عليه، إذ تكاد العلمانية أن تتحول إلى عقيدة للدولة. وقد جاء هذا في سياق الظروف التاريخية لنشأة الدولة التركية المعاصرة، نتيجة تصفية (كمال أتاتورك) للإرث العثماني، وسعيه لبناء تركيا على أسس أوروبية حديثة تقطع مع الإرث الإسلامي للسلطنة العثمانية ودولة الخلافة. وقد طالت القطيعة حتى أمورا مظهرية، على سبيل المثال لا الحصر منع ارتداء (الطربوش). عليه فقد اختلف الإصلاحيون المسلمون من رجالات النهضة العرب في موقفهم من أتاتورك ومشروع العلمنة. لكن في النهاية لم تمنع العلمانية في تركيا من وصول حزب (العدالة والتنمية) ذي التوجهات الإسلامية، إلى السلطة، في انتخابات ديمقراطية، في الوقت نفسه لم تستطيع أفكار الحزب الإسلامية من إلغاء الطابع العلماني للدولة.
الهند:
تعد الهند نموذجا فريدا في تجربتها الديمقراطية والعلمانية. إذ يوجد في الهند تنوع كبير من المعتقدات والممارسات الدينية، وفي اللغات أيضا، إذ تنتشر إلى جانب اللغة الهندية، الأكثر استخداما، ما لا يقل من عشر لغات متداولة على نطاق واسع، لنحو ثلاثة عشر مليون مواطن. وتضم الهند مجتمعات كبيرة تكاد تشمل كل الديانات في العالم، من ضمنها الهندوسية والبوذية والسيخ والمسيحية والإسلام. وفي وقت تتناقض فيه الشريعة الإسلامية وحركات الإسلام السياسي مع القيم الديمقراطية، العلمانية، فإن أحد أكبر المجتمعات الإسلامية في العالم يعيش التجربة الديمقراطية في الهند. فقد بلغ عدد الأقلية المسلمة في الهند حوالي 161 مليون نسمة، عام 2009، وهو يمثل ثالث أكبر مجتمع إسلامي في العالم بعد إندونيسيا والباكستان، بيد لا تزيد نسبة المسلمين في الهند عن 15 % من السكان، وهذا لم يمنع وصول المسلم (أبو بكر زين الدين عابدين) إلى رئاسة الهند عام 2002. كما أن نسبة السيخ لا تتجاوز 3 %من سكان الهند، إلا أن ذلك لم يمنع من تولي سيخي منصب رئاسة الحكومة وهو (مانموهان سينغ) تولى رئاسة وزراء الهند عام 2004. لقد اعترفت الدولة في الهند منذ استقلالها عام 1947، بكل المجتمعات الدينية واحترمتها. وبإمكان كل المجتمعات الدينية أن تفتح مدارس ومنظمات ومؤسسات خيرية وتحصل على الدعم المالي والحكومي، وحتى عندما ترأس حزب (بهارتيا جاناتا) الهندوسي الحكومة، وبوصفه بأنه حزب متشدد حيال باقي المكونات الهندية ومنها المسلمون، لم تتوقف الحكومة عن دفع إعانات مالية كبيرة لمساعدة المواطنين المسلمين الراغبين بأداء فريضة الحج إلى مكة. كما أن في الهند خمس عطل للدين الهندوسي وهو دين غالبية السكان، في مقابل عشر عطل لأديان الأقليات، منها خمسة للإسلام، وهي أيام عطلة عامة إلزامية مدفوعة الأجر ().
المطلب الثاني
العلمانية والإلحاد
في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، سواء منها ما أنتجته مؤسسة الإسلام الرسمية، بمعنى طبقة رجال الدين المرتبطة بالدولة، أو تلك الأدبيات المعبرة عن خطاب الإسلام السياسي، أي الحركات التي اتخذت من الإسلام أيديولوجية تخدم شروعها السياسي، على سبيل المثال لا الحصر (جماعة الإخوان المسلمون)، ثمة إجماع عند هؤلاء على المساواة والمماهاة ما بين مفاهيم كـ (العلمانية، واللادينية، والإلحاد) وبالتالي الرفض المطلق للعلمانية. وإلى جانب إصرار الإسلاميين على القول بأن العلمانية شأن مسيحي وغربي، فهم يؤكدون أنها شأن استعماري أيضا، لاسيما أن هذه السمة الأخيرة تأتي ضمن محاولاتهم الرامية إلى تكريس العداء لفكرة العلمانية في وعي مريديهم ووعي عامة جمهور المسلمين، مع اعتبار ذلك نوعا من تحدي الغرب الاستعماري، ويجب ومواجهته في سياق الصراع الحضاري. من هنا يجب رفض ما أنتجته حضارته بحسب رأيهم. ليس ذلك فحسب، فقد أدى هجوم الإسلاميين المستمر على العلمانية، وربطها بالمادة والقيم المادية كمقابل ونقيض للروح والقيم الروحية إلى تكريس ذلك المنطق الذي يسمى الشرق بالروحانية والغرب بالمادية، في نوع من إعادة إنتاج المقولات الاستشراقية، التي أخذت هذا الاتجاه في ربط الشرق بالروح والغرب بالمادية ().
وكما ذكرنا آنفا، لقد اتُهمت العلمانية من قبل مفكري ومنظري حركات الإسلام السياسي بأنها دعوة للإلحاد، وأن العلمانية بضاعة غربية لم تنبت في أرضنا، ولا تستقيم مع عقائدنا ومسلماتنا الفكرية بحسب رأيهم. فهم يؤكدون على أن العمانية مفهوم مستورد من الغرب، وأن الإسلام يرفض التقسيم المستورد للناس والمؤسسات إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني، لاسيما أن العلمانية أدت إلى تقسيم الناس والتعليم والقوانين والمؤسسات، وهذا مرفوض في الإسلام، فكلها يجب أن تكون في خدمة الإسلام، لأن تقسيم شؤون الحياة إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني، تقسيم غير إسلامي، بل هو تقسيم مستورد، مأخوذ من الغرب النصراني. وما نراه اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من تقسيمات للحياة، وللناس، وللمؤسسات، إلى ديني، وغير ديني ليس من الإسلام في شيء بحسب رأيهم. وعليه فإن العلمانية تناصب العداء للدين الإسلامي، الذي أنزله الله نظاما شاملا للحياة، كما أن الإسلام يناصبها العداء أيضا، لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفتها، وفقا لأمر الله ونهيه، والحكم بما أنزله، وإذا لم يحكم المجتمع بما أنزل الله، سقط لا محالة في حكم الجاهلية، بحسب رأيهم، إذن” لا تعايش بين الإسلام الحقيقي والعلمانية الحقيقية، فهما كالضرتين إحداهما أسخطت الأخرى، أو ككفتي الميزان لا ترجح إحداهما إلا بمقدار ما تخف الأخر”().
ووفقا لما تقدم، فقد تم تكفير أي مسلم يقبل بالعلمانية أو يدعو إليها، ويعتبر وفق رأيهم أنه مرتدا عن الإسلام، وإن لم يكن ملحدا، يجحد وجود الله، وينكر الوحي، والدار الآخرة، وسوف تنتهي به علمانيته إلى الكفر البواح، إذا أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. بل إن العلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة من الأساس، ليس له من الإسلام إلا أسمه، وهو مرتد عن الإسلام بيقين، ويجب أن يستتاب، وتزاح عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، وإلا حكم القضاء عليه بالردة، وجُرد انتمائه إلى الإسلام، أو سحبت منه الجنسية الإسلامية بحسب رأيهم ().
في السياق ذاته، لا يختلف الإسلام السياسي الشيعي عن نظيره الإسلام السياسي السُني في اتهام العلمانية بالإلحاد، والرفض القاطع لفصل الدين عن السياسة، ويستوي في رفض العلمانية واتهماها بالإلحاد لدى دعاة (ولاية الفقيه) على نحو ما طبقها الخميني في إيران، وأولئك المعارضون لفكرة الولاية العامة للفقيه، إذ يؤكد هذا التيار على أن وجود الإمام، الفقيه الذي ينوب عن الإمام الغائب (المهدي المنتظر) ضرورة ملحة، وهذه مسألة عقيدية لا خلاف فيها عند الشيعة. غير أن هناك خالفا جوهريا بينهم على الفقيه أو نائب الإمام فالتفسير الخميني، على نحو ما هو مطبق اليوم في إيران، يوسع دائرة ولاية الفقيه فيعطيه الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين السياسية والاجتماعية، في حين يعارض تيار شيعي آخر التوسع في ولاية الفقيه، ويرى حصرها في مجالات محددة. فالإسلام كما يطرحه مذهب أهل البيت يطالب بأن تكون زمام أمور الدولة بيد الإمام المعصوم خلافة عن النبي. وبالنظر إلى الطرح الشيعي لفكرة السياسة وارتباطها الوثيق بعقيدة الإمامة، لوجدنا بأن الإمام قد اكتسب الحق الشرعي في حكم الناس من الله، والله تعالى أعلم بصالح الناس من أنفسهم ().
وبهذا الصدد يقول الخميني” علينا أن نذكر الناس بما كانت به الحكومة الإسلامية في صدر الإسلام، علينا أن نقول لهم إن دكة القضاء كانت في إحدى زوايا المسجد، في حين ترامت أطراف البلاد الإسلامية وشملت إيران والحجاز واليمن وغيرها”().
وفي محاولة لاستقراء العقائد التشريعية أو التاريخية، أو الاجتماعية، لا يرى أصحاب اتهام العلمانية بالألحاد، ثمة مسوغا لدعاة العلمانية في الواقع الإسلامي، وذلك لأن الإسلام بحسب رأيهم، نظام عقائدي يفسر ويحدد المنهاج السلوكي للدنيا وللدولة وللآخرة، ويحتوي على ثوابت التشريع وضوابطه لكل ميدان من ميادين الصلة بين الإنسان وربه، ولكل جانب من جوانب حياة الإنسان اقتصاديا وسياسيا وتربويا وأخلاقيا ().
لقد اتهم هذا الاتجاه العلمانية بالإلحاد، لأنها من وجهة نظرهم تخلق مشكلة كبيرة جدا لمن يؤمنون بالدين، فكيف يمكن أن تحل مشكلة الإنسان الذي يؤمن بالدين على أسس علمانية وهو يعتبر أن أحكام الله الشرعية ملزمة له في زواجه وطلاقه وفي معاملاته، في الوقت نفسه يرفض أصحاب هذا الرأي، قياس واقع الحالة العلمية في أوروبا على مجريات الوقائع الإسلامية، لأنه قياس بدون عله، كون أن العلمانية تستند على أساس وهمي وخرافة بحسب رأيهم ().
نقد المفهوم
كانت السياسة البريطانية الاستعمارية في الهند تستخدم العلمانية كمنهج استعماري لا كنتاج لمنطق مدني، وبالرغم من أن السياسة البريطانية كانت رسميا تقوم على الحياد الديني، كان هناك أنواع من التدخلات في الشؤون الدينية التي أسفرت عن تفسير ملتبس لهذه السياسة، على سبيل المثال لا الحصر، وضعت السلطة الاستعمارية قوانين أحوال شخصية منفصلة لكل الطوائف الهندية التي تم تعريفها بصورة رئيسية على أساس الدين، مما أدى إلى تفكيك القيم الاجتماعية وإعاقة تطورها، في السياق ذاته، كانت العلمانية البريطانية في استعمارها للهند قد جمدت بعض عناصر مكانة المرأة وتحديدا في سياق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما كان أثره الحد من حقوق المرأة أو تقييدها. بالتالي كانت العلمانية البريطانية الاستعمارية في الهند أن تأسس لنظم اخلاقية ودينية اجتماعية شاملة لكي تناسب تصوراتهم وتتفق وأفكارهم الأوروبية المسبقة حول ما يجب أن يكون عليه القانون الإسلامي أو الهندوسي. بيد أن علمانية الدولة كما شكلتها الإدارة الاستعمارية البريطانية، فشلت في الاستناد إلى تقاليد هندوسية أو إسلامية بعينها في مجال الحكم، كما فشلت في التقدير الصحيح للتقاليد الهندوسية التوفيقية التي تقوم على الممارسات الثقافية المشتركة بين طوائف الهندوس والمسلمين، والتي كان لها أن تقدم تصورات وأفكار محلية تدعم مبدأ علمانية الدولة.
وبناء على ما تقدم، فإن السياسة البريطانية التي أدخلت بمقتضاها مبدأ علمانية الدولة الاستعمارية لم تنضوي على قيم ديمقراطية أو قيم المشاركة ولا احترمت أهمية العقل العام الهندي ().
هناك اتجاه آخر نقد مفهوم العلمانية وتحديدا علمانية القرن الثامن عشر، والتي أطلق عليها بالعلمانية (الملحدة) لاسيما كان الانتقاد للعلمانية في ضوء معطيات الصراع السياسي العالمي، وتطور الفلسفة السياسية داخل الفكر السياسي الغربي، والنظر في توسيع دلالات المفهوم، في ضوء الاستفادة من دروس وتجارب الحاضر النظرية والتاريخية، وذلك بناء تصورات تتجه للتخلص من (صنمية المفهوم) بحسب وصفهم لتحوله إلى اداة للفهم النظري التاريخي، القابل للتوظيف في دائرة الصراع السياسي والأيديولوجي. فإذا كان مفهوم العلمانية في أصوله الأولى، قد ظهر في سياق نظري وتاريخي مخالف لتاريخ الإسلام مثلا، وإذا كان بين الإسلام ومصدر المفهوم، تاريخ الغرب الحديث والمعاصر، صراع تاريخي بحكم جملة من الأسباب والعوامل الموضوعية والتاريخية، فإن الأمر يقتضي التمييز بين المواقف. كذلك هناك رأي ثالث يعتقد في إمكانية التخلي عن المفهوم دون التخلي عن محتواه، وذلك لا يمكن تصور ديمقراطية بدون الاعتراف بالاختلاف والتعدد، ولا يمكن تصورها دون تسامح وحرية، بالتالي يمكن استيعاب روح العلمانية بحسب رأيهم ().
ثم يرى نقاد العلمانية وتحديدا الاتجاه الإسلامي، إن الخطاب العلماني الرائج جوهره مسيحي أو مسيحي أوروبي، ناشئ عن عقيدة مآلها إعطاء قيصر ما لقيصر، وما لله لله. لاسيما أن العلمانية بهذا المعنى مرفوضة عند معارضيها لأنها مسيحية. ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه، إن العلمانية غطاء لدعوة مستترة تستهدف أبعاد الإسلام عن الحياة، أو أن أصحاب الدعوة العلمانية كانوا مسيحيين لا ينتسبون إلى الإسلام دينا ولا حضارة، وإنما تربوا في المدارس الأجنبية، وأن هؤلاء أطلقوا دعوتهم في القرن التاسع عشر علما على القومية العربية الراغبة في الانفصال عن الرابطة العثمانية التي قامت على الإسلام ().
ثم مسألة أخرى طرحها بعض المفكرين الإسلاميين في نقد العلمانية وللعناصر المكونة لمفهومها وهي، انعدام الإيمان الديني للعلمانية، وإن الإسلام وحده دين ودولة بحسب رأيهم، وهذا التوصيف للعلمانية كان مشتركا بين كبار مفكري الحركات الإسلامية حيث يقول يوسف القرضاوي” إن العلمانية مروق من الدين”(). وفي السياق ذاته عرفت العلمانية على” أنها نهج حياتي مادي تكون نتيجة لنمو الفلسفات المادية اللادينية”().
لكن هذه النظرة إلى العلمانية، هي نظرة خاطئة تتعارض منطقيا مع افتراضهم (أن الإسلام دين ودولة) وإذا كانت العلمانية في نظر هؤلاء المنظرون الإسلاميون هي انعدام الإيمان الديني، إذن فالعلمانية لا مكان لها أيضا لا في المسيحية ولا في اليهودية ولا في أي دين آخر من أديان الموحدين ().
الأخطر من كل ما تقدم، هناك من تجاوز مسألة النقد وربط مفهوم العلمانية بالإرهاب، حيث يرى هذا الاتجاه أن استعمال مصطلح الإرهاب للدلالة على أعمال العنف لم يبدأ إلا في أواخر القرن الثامنَ عشرَ الميلادي مع قيام الثورة الفرنسية. من هذا المنطلق، يعود تاريخ الإرهاب كاصطلاح أو تنظيم إلى الثورة الفرنسية عام 1789م بسقوط الملك لويس السادسَ عشرَ والقضاء على النظام الإقطاعي، فقد عرفت فرنسا مرحلة الإرهاب في أثناء الجمهورية اليعقوبية، إذ تأثر رجال الثورة اليعقوبية في أفعالهم بتيارات فكرية عقائديّة كانت سائدة في فرنسا حينذاك، وكانت الدعوة صريحة لممارسة الإرهاب كما هو واضح في الأيديولوجية اليعقوبية المتمثلة في كتابات أهم رموز الثورة اليعقوبية وقادتها، وهما: روسبيير، وسان جاست. بعد أن قام كل من روسبيير وسان جاست بإبادة جماعية في قرية جنوب فرنسا تدعى (فندييه) تكبدت خسائر بشرية فادحة، بتقديرات تراوحت أكثر من نصف مليون قتيل من المتمردين على الثورة، ويعزى قتلهم بأنهم رفضوا الخضوع لسيادة العقل ().
الخاتمة:
بلا شك أن العلمانية كمذهب سياسي، هي حركة تاريخية لها بواعثها الموضوعية، فهي نشأت كردة فعل على الفكر المسيحي الذي عاشته أوربا طوال العصور الوسطى، ونشأتها مرتبطة أساسا بالدين المسيحي والتاريخ الأوربي الوسيط والحديث. لقد ظهر الإصلاح الديني من خلال حركات المتمردين (البروتستانت) ضد الكنيسة والبابا والفكر المسيحي الكاثوليكي مما نتج عنه انقسام أوربا دينيا، بالتالي دخلت أوربا في صدام مسلح بين الملوك البروتستانت والكاثوليك في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، إنكلترا. إن العلمانية وإن خرجت من رحم الصراعات الكبرى، فقد أنتجت آليات سياسية وقانونية تشكلت من خلالها الدولة الحديثة، دولة المواطنة. لاسيما أن الاختلاف النسبي في التجارب العلمانية بين بلد وآخر يؤكد المرونة التي تتصف بها العلمانية لكونها ليست فكرة ناجزة أو صفة جاهزة بقدر ما هي مفاهيم مؤسسية، وعند ترجمتها إلى واقع ملموس تؤخذ بالاعتبار الظروف التاريخية لكل بلد.
في السياق ذاته لقد تم الترويج للعلمانية على أنها تنطوي على مفهوم كفري ضد الدين، وتحديدا من قبل الحركات الإسلامية المتشددة، حيث تعاملت تلك الحركات مع العلمانية معاملة أيديولوجية. بيد أن العلمانية لا تناقش فيما إذا كان الفرد مؤمنا أو كافرا، وأنما تتيح المجال الإيماني والعقائدي للناس، وتضع لكل إنسان المساحة التي يمكن من خلالها أن يمارس عقائده وطقوسه وشعائره بكل حرية، بحيث لا تتدخل الدولة أو الهيئات أو المؤسسات في المعتقد الخاص لأي شخص، كذلك لا تمنح الدولة للمواطن أي ميزة ولا تخصم منه أي حق بسبب معتقداته أو بسبب انتمائه لأي دين أو عدم انتمائه. عليه فإن لون الإنسان وانتمائه العقائدي والديني يجب أن يكون بمنأى عن حقوقه كمواطن ومركزه الاجتماعي وألا يترتب عليه أي ميزة أو نقص، من ثم فإن الدولة يجب أن تحمي الفضاء الديني للناس. بالرغم من أن هناك فرق كبير بين الدولة كمفهوم واسع وبين السلطة كمفهوم ضيق، إلا أننا نلحظ في كثير من التجارب أن السلطة تتغول على مفهوم الدولة حيال الفضاء الديني وتلزم الناس باتباع نسق تدين معين. من هذا المنطلق فإن العلمانية الحقة والصحيحة هي التي تمنح الفضاء الديني للمتدينين ولا تمنح المواطن أي ميزة ولا تخصم منه بسبب عقائده كما ذكرنا آنفا. وربما هناك من يرى أن العلمانية هي توحيد المقامات أو البودقة التي تقوم على أسس يخضع أليها الجميع، فيه توحيد السياسة والاقتصاد والنظام المصرفي ونظام النقل في العالم.
النتائج:
- إن العلمانية الأوربية ظهرت نتيجة تفاعلات دينية وتاريخية عبر قرون طويلة حددت سماتها وما وصلت اليه، فهي نتيجة الظروف التي ظهرت فيها وتفاعلت معها.
- إن دراسة العلمانية المعاصرة تقتضي دراسة هوية المجتمع الغربي الثقافية والدينية.
- صورت العلمانية من قبل الاتجاهات الراديكالية على إنها الصراع بين العلم والدين، وهذا سببه أخفاق العلمانيون العرب في تقديم رؤيا للعلمانية نابعة من ضرورة التفكر بواقع العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة في مجتمعات مفعمة بالروحانيات والمقدس، وبالتالي بدا وكأن دفاعهم عن علمنة الحياة يصب في مواجهة الدين، رغم قولهم إن ذلك ينطبق على المجال العام ولا يمس الشأن الخاص للإنسان ومعتقداته. فكان رد الخطاب الديني على دعاة العلمانية متطرفاً إذ بدوره اتهمهم بالكفر والخروج عن الدين، بل اعتبرهم البعض وكلاء للغرب.
- علاوة على حرية العبادة والتعبير، فإن الدولة العلمانية، بصفتها ضامنة لحرية المعتقد، تحمي الفرد وتسمح بحرية الخيار للجميع، بأن يكون لهم اتجاها روحانيا أو دينيا، أو لا يكون، وبأن يغيروا من هذا الاتجاه أو أن يعدلوا عنه. إنها تحرص على ألا يكون بإمكان أي مجموعة أو أي طائفة فرض انتماء أو هوية طائفية على شخص ما. إنها تحمي كل مواطنة ومواطن ضد أي ضغوط جسدية أو معنوية تمارس بذريعة الخضوع لأوامر روحية أو دينية ما.
- على ما تقدم، إذن نحن بصدد خلاف تاريخي بين العلم والدين، لكنه ليس صراع أو منافسة بين الدين والعلم، وأنما هناك صراع تاريخي بين ما يسمى رجال الدين أو علماء الدين وبين ما يسمى رجال العلم وهم علماء العلوم الطبيعية والإنسانية، وليس بالضرورة منافسة بين رجال العلم ورجال الدين. ربما الصراع كان ومازال بين الطرفين على السلطة، ذلك الصراع الذي يمثل الإشكالية التاريخية الكبرى في جزء كبير من المجتمعات الشرقية بصورة خاصة، التي تسعى فيها التنظيمات الإسلامية المتشددة الوصول إلى السلطة.
المصادر والمراجع:
أولا: الكتب:
- البار، محمد علي، العلمانية جذورها وأصولها، دار القلم، دمشق، 2008
- الجابري، محمد عابد، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996
- الحافظ، ياسين، الأعمال الكاملة لياسين الحافظ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005
- الخميني، الحكومة الإسلامية، شبكة الفكر، 1970
- السحمراني، أسعد، الإسلام بين المذاهب والأديان، دار النفائس، بيروت، 1986
- الشيخ، ممدوح، العلمانية أصل الإرهاب والاستبداد، المركز الدولي للدراسات والاستشارات والتوثيق، القاهرة، 2016
- العبدولي، تهامي، أزمة المعرفة الدينية، الأكاديمية الثقافية العربية الآسيوية، دمشق، 2005
- العظمة، عزيز، الأصالة أو سياسة الهروب من الواقع، دار الساقي، بيروت، 1992
- القرضاوي، يوسف، التوجه العلماني في مواجهة الإسلام، دار الشروق، القاهرة، 2001
- القرضاوي، يوسف، الإسلام والعلمانية وجهل لوجه، مكتبة وهبة، القاهرة، 1997
- القرضاوي، يوسف، الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، دار الشروق، القاهرة، 2001
- المسيري، عبد الوهاب، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، دار الشروق، القاهرة، 2002
- المسيري، عبد الوهاب، والعظمة، عزيز، العلمانية تحت المجهر، دار الفكر المعاصر، لبنان، 2000
- النعيم، عبد الله أحمد، الإسلام وعلمانية الدولة، دار ميريت، القاهرة، 2010
- بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة: مادة أرسطو، دار الساقي، بيروت، 1984
- بيتهام، ديفيد، وبولي، كيفن، مدخل إلى الديمقراطية، ترجمة، رمو، أحمد، وزارة الثقافة، دمشق، 1997
- تورين، آلان، ما الديمقراطية، ترجمة، كاسوحة، عبود، وزارة الثقافة، دمشق، 2000
- جبران، جبران خليل، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، الجزء3، دار صادر، بيروت
- جورج، قرم، تعدد الأديان وأنظمة حكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، دار الفارابي، 2011
- خفيف، علي عباس، نحن والدين: الشيوعية وحرية الأديان، وراقون للنشر والتوزيع، العراق، 2015
- رسل، برتراند، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث، الفلسفة الحديثة، ترجمة، الشنيطي، محمد فتحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977
- روا، أوليفيه، الإسلام والعلمانية، ترجمة، الأشمر، صالح، دار الساقي، لبنان، 2016
- سباين، جورج، تطور الفكر السياسي، الكتاب الثاني، ترجمة، العروسي، حسن جلال، تقديم، الخطيب، محمد فتح الله، دار المعارف، القاهرة
- سيعفان، أحمد، قاموس المصطلحات السياسية والدستورية والدولية، مكتبة لبنان، 2004
- . شمس الدين، محمد مهدي، العلمانية، مؤسسة الجامعة، بيروت، 1983
- صدقي، بكر، علمانية وعلمانيون، مجلة المشكاة، العدد 11، 2010
- ضاهر، عادل، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، بيروت، 1998
- . ضاهر، عادل، الأخلاق والعقل، دار الشروق، عمان، 1990
- للمزيد راجع، عبد السلام، رفيق، آراء جديدة في العلمانية والدين والديمقراطية، مؤسسة الانتشار العربي، لبنان، 2011
30.عبد اللطيف، كمال، التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006
- عزيزة، طارق، العلمانية، دار بيت المواطن، دمشق، 2014
- عمارة محمد، العلمانية بين الغرب والإسلام، دار الدعوة، الكويت، 1996
- غليون، برهان، الاختيار الديمقراطي في سوريا، دار بترا والفرات، 2003
- فضل الله، محمد حسين، آفاق إسلامية، دار الزهراء، بيروت، 2019
- فوريست، كالورين، وفياميتا فينر، العلمانية على محك الأصوليات، ترجمة، أبو عقل، غازي، دار بترا، 2006
- قدوح، إنعام أحمد، العلمانية في الإسلام، دار السيرة، لبنان، 1995
- قرم، جورج، تعدد الأديان وأنظمة حكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، دار الفارابي، 2011
- مجموعة مؤلفين، حوار على أرض محايدة، دار الأهالي للنشر والتوزيع، دمشق، 1997
- نيتشة، فريدرك، نقيض المسيحية، ترجمة، مصباح، علي، دار الجمل، بيروت، 2011
- نيتشة، فريدرك، ما وراء المستقبل: تباشير فلسفة للمستقبل، ترجمة، حجار، جيزيلا فالور، مراجعة، وهبة، موسى، دار الفارابي، بيروت، 2003
- هارشير، غي، العلمانية، ترجمة، الصباغ، رشى، دار المدى والمؤسسة العربية للتحديث الفكري، 2005
- وهبة، مراد، الأصولية والعلمانية، دار الثقافة، القاهرة، 1995
المجلات:
- الصريصري، كمال بن سالم، الأسس الفلسفية للعلمانية المعاصرة، مجلة مركز الخدمات للاستشارات البحثية واللغات، العدد47، 2013
- العظمة، عزيز، العلمانية من منظور مختلف: الدين والدنيا في منظار التاريخ، مجلة كتاب في جريدة، العدد 121، 2018
الانترنيت:
- () الجباعي، جاد الكريم، العلمانية من منظور الدولة الوطنية، مركز آفاق، aafaqcenter.com//https:، 18_1_2012