18 نوفمبر، 2024 11:20 ص
Search
Close this search box.

جدلية الاغتراب والحنين لدى كونديرا

جدلية الاغتراب والحنين لدى كونديرا

رواية “الجهل” الصادرة عن المركز الثقافي العربي للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، ترجمة معن عاقل، تتناول رؤى فكرية مغايرة للمألوف عن الغربة وما تتأتى عنها من تداعيات مشاعر متناقضة صعبة الفهم داخل التركيبة النفسية للمغترب، تأخذ بالتمادِ والتشعب والتعقيد مع توالى سنوات البعد والفقدان شيئًا فشيئا، إذ تصير بمثابة حاجز غير ملموس يصدنا عن الرجوع حتى ولو عدنا بأجسادنا إلى أرض الوطن، وقد تراءت لنا جد بعيدة، بل كما لو أنها تاهت عنا في ضبابية الذاكرة المنقسمة بدورها إلى جزأين، ما قبل وما بعد الرحيل المنتزِع منا حق الاختيار، وإن بدأ لنا بعد ذلك انتصارًا لإرادتنا المغيَّبة.
الرواية قصيرة نسبياً، 158 صفحة، وهنا تكمن إحدى المفارقات بالنسبة للقارئ، لأن ثنائية الاغتراب والحنين، متجددة الأفكار والدلالات ذات البعد السياسي والاجتماعي والثقافي والسايكولوجي، تبدو صعبة التناول بمثل هذا العدد من الصفحات، خاصة وأن كونديرا اعتمد المنظور الفلسفي في إسقاط الزمن الماضي على الزمن الحاضر بكل ما يتضمن من تداعيات، على المستوى العام والخاص، عبر شخصيتي (إيرينا) و(جوزيف) المغتربين عن بلادهما نحو عشرين عامًا، عمر النظام الشيوعي المتأتي عن الاحتلال السوفيتي عام 68.
“كان السينمائي القابع في لا شعورها الذي يرسل إليها نهاراً نتفاً من مشهد وطنها باعتبارها صوراً سعيدة، هو ذاته ينظّم في الليل عودات مرعبة إلى البلد ذاته” ص 16
نوبات متخبطة من الحنين، تتموج في تيارات متعاكسة من المد والجزر، تظل تراودنا إلى ما بعد العودة إلى الوطن، بل لعلها تزداد اضطرابًا في سوح الواقع الجديد، زمن ما بعد الغربة/ ما بعد الديكتاتورية، وما يفرز من مستجدات تفرض وجودها على العلاقات القديمة، أو ما تبقى منها، ولو كمحاولة (خفية) لاستجداء نثار الماضي وصهره في آتون الحاضر، إلا أن الحاضر ذاته يبدو غريبًا وعصيًا على الجميع، خاصة في السنوات الأولى بعد مضي حقبة وبدء حقبة جديدة مغايرة تمامًا.
“حتى وقت قريب كانت الناس تتنافس، وكل واحد يريد أن يبرهن أنه عانى أكثر من الآخر في ظل النظام السابق، كأن كل الناس يريدون أن يُعترف بهم ضحايا، لكن منافسات المعاناة هذه انتهت، اليوم يتباهون بالنجاح، وإذا أظهروا استعداداً لاحترامك، فذلك ليس لأن حياتك صعبة، إنما لأنهم يرونك بجانب رجل ثري!” ص 35
لم تعد اللغة العائق، ولا البوح بالممنوع في ظل نظام الحزب الواحد، فالكلام بمجمله، المعلن وغير المعلن، يكون عادة نتاج تجارب ومعايشات تشكل في النهاية الوعي (الجمعي)، وتجارب ومعايشات من بقي في بلده غير تلك المتعلقة بالمغترب وما رافقه من مواقف ومصادفات وعلاقات منفتحة على الآخر حتى صار ذلك الآخر الأقرب من كل المقربين فيما مضى، لكي تسجل الأوطان البديلة انتصارها مجددًا على الوطن الأم، حتى اللغة تضعضعت أحرفها في ثنايا اللغات الأخرى، قد يستعاض عنها بالإنجليزية تارة والفرنسية أخرى، بما في ذلك الحوارات الداخلية للمغترب، مما يشكل غربة مزدوجة بين أبناء الوطن الواحد حتى لدى محاولاتهم لملمة الذاكرة العامة من شتاتها في منافِ الغربة، ذلك التعبير الدارج على ألسنة المرتحلين عن أوطانهم، إلا أنهم، ومع تتابع السنوات التي يمكن أن تعد بمثابة عمر آخر، يجدون أنفسهم بين شباك حيرة فكرية لا تمس انتماءاتهم الوطنية بقد ما تمس وجودهم ككل، ليعاد طرح العديد من التساؤلات لكن برؤى مختلفة وبصياغات مختلفة، متخففة من كثير من الانفعالات الراضخة لإطار محدد صنعته الأحداث المسببة للاغتراب.
“ألفتْ نفسها أمام جدار مغطى بمرآة فسيحة، فتسمرت مذهولة: تلك التي رأتها لم تكن هي، إنما امرأة أخرى، أو عندما تمعنت طويلاً في فستانها الجديد، كانت هي لكنها تعيش حياة أخرى، حياة ما كانت ستعيشها لو بقيت في بلدها… مؤثرة إلى حد البكاء، مثيرة للشفقة، مسكينة، ضعيفة، مغلوب على أمرها” ص 27
وكما في مواضع كثيرة يحاول الكاتب محاكاة ملحمة (أوديسة) في موازاة سردية تثير المزيد من التساؤلات الوجودية “طيلة عشرين عامًا لم يفكر إلا بعودته، لكن بمجرد عودته أدرك مندهشاً أن حياته، جوهر حياته ذاتها، مركزها، كنزها، موجود خارج إيثاكا، وهذا الكنز كان قد فقده ولن يسعه العثور عليه إلا إذا رؤاه… حكى بالتفصيل مغامراته أمام الفيائيين المذهولين، أما في إيثاكا فلم يكن غريباً، كان واحداً منهم” ص 30
الوطن بعد عمر من البعد يتبادل والغربة مكانتيهما لدينا، وكأننا نجوس أرضًا رخوة من الهواجس العصية على الفهم في أحيان كثيرة، لا سيما وأن المقارنات تجد كل المسببات للانعقاد دومًا، ليس بالضرورة أن تكون لصالح اليوم أم الأمس المتباعد شيئًا فشيئا عن حيز الاهتمام، بؤرة الذاكرة على نحو أدق، خاصة وأن لونيّ الأسود والأبيض ليس لهما وجود في حياتنا ولا في تاريخ الأنظمة السياسية، إنما هي محاولة لإعادة صياغة الواقع من خلال تلك المقارنات (الجدلية) وفق التغيرات السياسية الطارئة على العالم بأسره إثر سقوط الاتحاد السوفيتي ومن ثم تهاوي الأنظمة الشمولية المرتبطة به، بعد أن اتخذت سمة الخلود في الأذهان.
العودة إلى الوطن، بملامحه الجديدة المنسلخة من شعارات عقود مضت، تكون، ولو للوهلة الأولى، بمثابة الاستفاقة من غيبوبة طويلة، تحتاج إلى وقت للتعرف على العالم،
“استولى عليه شعور بأنه وجد العالم من جديد، كما يمكن أن يجده عليه ميت يخرج من قبره بعد عشرين عاماً، يلامس الأرض بقدم وجلة فقدت عادة المشي”
ص 58
في تنايا السرد تأتي العودة بدافع البحث عن الوجه الآخر المفتقَد منذ عمر في بلاد الغربة، بحثًا عن الذات التي ودعناها في ظروف قاسية يقتفي أثرها خوف المراقبة السرية والتهديد بالاعتقال، في محاولة للمصالحة مع مرحلة عمرية مضت لكنها تركت ظلالها تتمدد داخلنا علمًا تلو الآخر، قد تتبدى عبر بداية علاقة قديمة، اتتهت قبل أن تبدأ حتى، سعتْ إليها (إيرينا) بكل جوارحها كي تكون بالنسبة لها بداية جديدة تستعيض بها عن كل ما مرت به واستنزفها من فقدان،،بينما تكون العلاقة الجامحة، في سرعة توقدها وانطفائها، لديه بمثابة قطع حبل السرة الذي يربطه ببلده، وقد قرر معاودة الرحيل عنه، هذه المرة ليس بسبب المطاردة الأمنية والخوف من مغبة آرائه السياسية والدينية، إنما لتأكده ألا مكان له في سوح الحرية التي كان يتمناها فيما سبق، وأن انتماءه الحقيقي يعود إلى حيث فقدَ زوجته الدنيماركية، إلى الوحدة التي اعتادها بعيدًا عن أيٍ ممن يذَكرونه باستمرار بما لا يستطيع استرجاعه في بلده الأم، منهيًا حالة عدم الاستقرار التي شغلته وعذبته طويلًا، وجعلته حتى لا يتذكر الفتاة الجميلة التي قابلها في إحدى حانات براغ، استشاطت غضبًا منه ومن السنوات الراكضة بلا هوادة لمّا عرفت أنه لا يتذكر اسمها ولا أي شيء بشأنها، لتبدو أمامه وأمام نفسها مثل أي فتاة ليل تبيع جسدها مقابل حفنة دولارات، العملة السامية للعهد الجديد، حتى سقطت منهارة تحت وطأة خيبة استدعت خيبات الماضي التي بدأت باجتياح حياتها منذ أن اضطرت وزوجها المتوفى اللجوء إلى باريس، قبل أن تعيش مع صديقها السويدي “الذي رماه القدر في طريقها مثل كيس وحل” ص 120، فيما بدا في مدينة ذكرياته الغائبة عنه، عن اهتمامه على نحو أكثر دقة، مثل أي سائح أو عابر سبيل لا بد له من الرجوع إلى (موطنه) الذي آوى هروبه الأول، مودعًا بلادٍ تشهد ولادة جديدة تمسخ الماضي من أجل أن تتمكن من سبر أغوار المستقبل.
“عرضتْ عليه مستقبلها، ولو أن جوزيف لا يهتم بالمستقبل، إلا أنه شعر بالسعادة مع هذه المرأة التي تشتهيه بمنتهى الوضوح، كما لو أنه ألقى بنفسه بعيدًا إلى الوراء، في السنوات التي كان يرتاد فيها براغ بحثاً عن غانيات، كما لو أن تلك السنوات تدعوه اليوم لاستعادة ذلك السياق هناك حيث قطَعه، يشعر أنه يجدد شبابه بصحبة هذه المجهولة” ص 138.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة