11 أبريل، 2024 3:57 م
Search
Close this search box.

ثورة (1): قاد عمر مكرم حراك الشعب ضد الفرنسيين والانجليز والحاكم

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: إعداد- سماح عادل

الحراك الشعبي المصري متواصل وممتد، منذ تاريخ مصر القديم وحتى تاريخها الحديث، ولم تكن النهضة الثقافية والفكرية في العصر الحديث التي حدثت في مصر إلا نتاج هذا الحراك الشعبي الثوري، وسوف نحاول في هذا الملف تتبع هذا الحراك الثوري في العصر الحديث وتتبع سيرة الثوريين وقادة الشعب.

قائد شعبي..

“عمر مكرم” زعيم شعبي، اسمه “عمر مكرم بن حسين السيوطي”، ولد في أسيوط 1750، وتعلم في الأزهر الشريف. تولي نقابة الأشراف في مصر، وقاوم الفرنسيين في ثورة القاهرة الثانية سنة 1800. وكان له دور في تولية “محمد علي” شؤون البلاد، حيث قام هو والعلماء بخلع “خورشيد باشا” في مايو سنة 1805. وحينما استقرت الأمور ل”محمد علي” خاف من نفوذ العلماء فنفى “عمر مكرم” إلى دمياط سنة، وأقام بها أربعة أعوام، ثم نقل إلى طنطا.

ظهر “عمر مكرم” كقائد شعبي عندما قاد حركة شعبية ضد ظلم الحاكمين المملوكيين “إبراهيم بك” و”مراد بك”، عام 1795 ورفع لواء المطالبة بالشريعة والتحاكم إليها كمطلب أساسي، كما طالب برفع الضرائب عن كاهل الفقراء وإقامة العدل في الرعية. تميزت حياة “عمر مكرم” بالجهاد المستمر ضد الاحتلال الأجنبي، والنضال ضد استبداد الولاة وظلمهم، وكان ينطلق من وعي عميق.

ثورة القاهرة..

عندما اقترب الفرنسيون من القاهرة سنة 1798 قام “عمر مكرم” بتعبئة الجماهير للمشاركة في القتال إلى جانب الجيش النظامي “جيش المماليك في ذلك الوقت”، يقول الجبرتي: “وصعد السيد عمر مكرم أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقا كبيرا اسمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة” ويعلق الرافعي: “وهذا هو بعينه استنفار الشعب إلى التطوع العام بعد هجمات الغازي المغير والسير في طليعة المتطوعين إلى القتال”.

وعندما سقطت القاهرة بأيدي الفرنسيين، عرض عليه الفرنسيون عضوية الديوان الأول إلا أنه رفض ذلك، بل فضل الهروب من مصر كلها حتى لا يظل تحت رحمة الفرنسيس.

ثم عاد “عمر مكرم” إلى القاهرة وتظاهر بالاعتزال في بيته ولكنه كان يعد العدة مع عدد من علماء الأزهر وزعماء الشعب لثورة كبري ضد الاحتلال الفرنسي، تلك الثورة التي اندلعت في عام 1800، فيما يعرف ب”ثورة القاهرة الثانية”، وكان “عمر مكرم” من زعماء تلك الثورة، فلما خمدت الثورة أضطر إلى الهروب مرة أخري خارج مصر حتى لا يقع في قبضة الفرنسيين الذين عرفوا أنه أحد زعماء الثورة وقاموا بمصادرة أملاكه بعد أن أفلت هو من أيديهم، وظل “عمر مكرم” خارج مصر حتى رحيل الحملة الفرنسية سنة 1801.

مقاومة فريزر..

قاد “عمر مكرم” المقاومة الشعبية ضد حملة فريزر الإنجليزية 1807، تلك المقاومة التي نجحت في هزيمة فريزر في الحماد ورشيد مما أضطر فريزر إلى الجلاء عن مصر. يقول الجبرتي: “نبه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز، حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس”.ويقول الرافعي: “فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب، فأنك لتري هذا الموقف مماثلا لموقفه عندما دعا الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام، ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع عن الزمان، فعلمهم في ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم”.

نجح الشعب المصري مرتين في أقل من عشر سنوات في هزيمة محتلين استعماريين هما الحملة الفرنسية 1798 ـ 1801، والحملة الإنجليزية المعروفة بحملة فريزر 1807 ذلك يرجع إلى قيام علماء الأزهر بواجبهم في قيادة الشعب للجهاد والقتال والدفاع عن البلاد، يرجع إلى وجود العلاقة الصحيحة بين الأمة، وقيام الأزهر بواجبه كقيادة طبيعية للأمة.

المماليك..

قاد “عمر مكرم” النضال الشعبي ضد مظالم الأمراء المماليك عام 1804، وكذا ضد مظالم الوالي خورشيد باشا سنة 1805، ففي يوم 2 مايو سنة 1805 بدأت تلك الثورة، حيث عمت الثورة أنحاء القاهرة وأجتمع العلماء بالأزهـر وأضربوا عن إلقاء الدروس وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون، وبدأت المفاوضات مع الوالي للرجوع عن تصرفاته الظالمة فيما يخص الضرائب ومعاملة الأهالي، ولكن هذه المفاوضات فشلت، فطالبت الجماهير بخلع الوالي، وقام “عمر مكرم” وعدد من زعماء الشعب برفع الأمر إلى المحكمة الكبرى وسلم الزعماء صورة من مظالمهم على المحكمة وهي ألا تفرض ضريبة على المدينة إلا إذا أقرها العلماء والأعيان، وأن يجلو الجند عن القاهرة وألا يسمح بدخول أي جندي إلى المدينة حاملا سلاحه.

وفي يوم 13 مايو قرر الزعماء في دار الحكمة عزل خورشيد باشا وتعيين “محمد علي” بدلا منه بعد أن أخذوا عليه شرطًا: “بأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم وإلا يفعل أمرا إلا بمشورة العلماء وأنه متى خالف الشروط عزلوه”.

وفي يوم 16 مايو 1805 صدرت فتاوى شرعية من المحكمة على صورة سؤال وجوابه بشرعية عزل الوالي خورشيد باشا، وأنتهي الأمر بعزل الوالي خورشيد باشا، ونجاح الثورة الشعبيـة.

وكان “عمر مكرم” هو زعيم هذه الحركة الشعبية ومحركها، يقول الرافعي: “كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون في تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف للسيد عمر مكرم فضله في هذه الحركة فقد كان بلا جدال روحها وعمادهـا”.

خشية محمد علي منه..

كان “عمر مكرم” يصر على استمرار حمل الشعب للسلاح حتى إقرار النظام الجديد، وهو نظام “محمد علي” الذي اختاره الشعب ليكون حاكما للبلاد، إلا أن رأي غالبية المشايخ وعلى رأسهم الشيخ “عبد الله الشرقاوي” هو أن مسألة إنزال “خورشيد” من القلعة قضية تخص الوالي الجديد. استمرت هذه الثورة المسلحة بقيادة “عمر مكرم” 4 أشهر، وأعلنت حق الشعب في تقرير مصيره واختيار حكامه، وفق مبادئ أشبه بالدستور تضع العدل والرفق بالرعية في قمة أولوياتها.

كانت الحكومة كلما احتاجت إلى المال تفرض ضرائب وإتاوات جديدة على الأطيان والمتاجر وغيرها، فساءت الحالة الاقتصادية، واشتد الضيق بالأهالي، وكثرت هجرتهم من القرى، وزاد الحالة حرجا نقص النيل في فيضان أغسطس سنة 1808، فارتفعت الأسعار، واشتد الغلاء، وقلت الغلال في الأسواق، فلجأ الأهالي كعادتهم إلى العلماء، وهؤلاء كلموا “محمد علي” في كثر الضرائب وطلبوا إليه رفع تلك المظالم، فغضب عليهم الباشا، ونسب إليهم ظلم الأهالي لأنه حينما أعفى أطيانهم من الضرائب الجديدة كانوا هم مع ذلك يقتضونها من الفلاحين، وتهددهم بمراجعة ما نالهم من هذا الباب، فقبلوا المراجعة، وكان هذا الجدل نذيرا باشتداد الخلاف بين “محمد علي” والعلماء، واتفقوا على إقامة صلاة عامة للاستسقاء، وهي الصلاة التي تقام ما شح النيل للدعاء إلى الله أن يرفع الكرب ويجري الماء.

يقول الجبرتي: “فلما كان يوم سبت 27 جمادى الثانية سنة 1223 وخامس عشر مسرى القبطي نقص النيل نحو خمس أصابع وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم، فضج الناس ورفعوا الغلال والعرصات والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شح النيل في العام الماضي وهيفان الزرع وتنوع المظالم وخراب الريف وجلاء أهله واجتمع في ذلك اليوم المشايخ عند الباشا فقال لهم اعملوا استسقاء وأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج إلى الصحراء ودعوا الله، فقال له الشيخ الشرقاوي ينبغي أن ترفقوا بالناس وترفعوا الظلم، فقال أنا لست الظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فإني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم إكراما لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفتر محرر فيه ما تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ولابد أني أفحص ذلك، وكل ما وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة عن فلاحيه أرفع الحصة عنه، فقالوا له لك ذلك، ثم اتفقوا على الخروج والسقيا في صحبها بجامع عمرو بن العاص لكونه محل الصحابة والسلف الصالح يصلون به صلاة الاستسقاء ويدعون الله ويستغفرونه ويتضرعون إليه في زيادة النيل، وبالجملة ركب السيد عمر والمشايخ وأهل الأزهر وغيرهم والأطفال واجتمع عالم كثير وذهبوا إلى الجامع المذكور بمصر القديمة، فلما كان في صحبها وتكامل الجمع صعد الشيخ جاد المولى على المنبر وخطب به بعد أن صلى صلاة الاستسقاء، ودعا الله وأمن الناس على دعائه وحول رداءه، ورجع الناس بعد صلاة الظهر وبات السيد عمر هناك، وفي تلك الليلة رجع الماء إلى محل الزيادة الأولى واستتر الحجر الراقد بالماء، وفي يوم الاثنين خرجوا أيضا، وأشار بعض الناس بإحضار النصارى أيضا، فحضروا وحضر المعلم غالي ومن يصحبه من الكتبة الأقباط، وجلسوا في ناحية من المسجد يشربون الدخان، وانفض الجمع أيضا، وفي تلك الليلة التي هي ليلة الثلاثاء، زاد الماء ونودي بالوفاء وفرح الناس، وطفق النصارى يقولون أن الزيادة لم يتحصل إلا بخروجنا، فلما كانت ليلة الأربعاء طاف المنادون بالرايات الحمر ونادوا بالوفاء، وعمل الشنك والوقدة تلك الليلة على العادة، وفي صبحها حضر الباشا والقاضي واجتمع الناس وكسروا السد وجرى الماء في الخليج جريانا ضعيفا”.

وبالرغم من جريان النيل فإن الضائقة الاقتصادية لم تخف وطأتها، وزادت الحكومة في فرض الضرائب، فازداد البؤس واشتد الضيق بالناس. ولما كانت سنة 1809 قرر محمد علي باشا فرض ضريبة المال الميري على الأراضي الموقوفة، وهي المعروفة بالرزق الأحباسية أي المرصدة على المساجد والسبل والخيرات، وكذلك على أطيان الأوسية التي كانت ملكا خاصا للمتلزمين، وهذه الأطيان كانت كلها معفاة من الضرائب، وقرر كذلك فحص أطيان الرزق والأوقاف وطلب حججها ممن يتولون النظر عليها وأمر حكام الأقاليم (الكشاف) بالاستيلاء على تلك الأطيان إذا لم يقدم أصحابها إلى الديوان حجج إنشاء الوقف، ومعنى ذلك تمهيد السبيل لمصادرة معظم الأطيان الموقوفة، لأن الكثير منها قد تقادم العهد على وقفه بحيث أصبحت حججه لا تنطبق عليه لتغير المعالم أو للنزاع في الاستحقاق، وتخويل حكام الأقاليم أمر فحصها معناه إطلاق يدهم في إلغاء ما شاءوا من الأوقاف.

وقررت الحكومة أيضا الزام جميع المتلزمين بأن يؤدوا للحكومة نصف الفائض لهم من الالتزام، أي نصف الصافي من إيرادهم من الأطيان الداخلة في التزامهم، ومعنى ذلك مقاسمة المتلزمين في معايشهم.

فاعترض “عمر مكرم” واحتجاجه كان له من العواقب في إثارة الشعب، اجتمع الناقمون على المحدثات الجديدة، واتفقوا على أن يقصدوا إلى الأزهر لرفع ظلامتهم إلى الشيوخ والعلماء، وحدث من قبيل المصادفات أن ولاة الشرطة اعتقلوا طالبا من طلاب العلم في الأزهر يمت بصلة قربى إلى احد علمائه السيد حسن البقلي، فتشفع العلماء في إطلاق سراحه، فلم يقبلوا وأرسلوه إلى القلعة، فجاءت هذه الحادثة سببا جديدا لإثارة الخواطر فوق ثورانها بسبب الضرائب الجديدة.

ففي يوم السبت 30 يونية سنة 1809 بينما الشيوخ حاضرون بالأزهر كعادتهم لقراءة الدروس أقبل الناس أفواجا من رجال ونساء، وأرسلوا إلى “عمر مكرم” فحضر إليهم وأخذوا يتداولون الرأي فيما يجب عمله، وتناسوا مؤقتا منافساتهم الشخصية، واتفقوا على الدفاع عن مصالح الجمهور، وأجمعوا الرأي على الاعتراض على المحادثات الجديدة من المظالم والمغارم عامة، وأهمها فرض الضريبة على الأطيان الموقوفة وأطيان الأوسية، ومقاسمة الملتزمين في إيرادهم، وضريبة التمغة على المنسوجات والمصوغات والأواني، واعتقال الطالب الأزهري بغير ذنب جناه، وحبسه بالقلعة، واتفقوا على أن يرفعوا هذا الاحتجاج كتابة إلى محمد علي باشا.

ومن رواية الجبرتي أنهم اتفقوا رأيا على الاكتفاء بتقديم العريضة بمثابة احتجاج على تصرفات الباشا وعدم الذهاب إليه، وكان ذلك إعلان للجمهور بأنهم غضبوا على من أجلسوه منذ سنوات على كرسي الحكم، ومصارحة لهم بأنه خالف الشروط التي بايعوه عليها، ففي هذا العمل السلبي تهديد صريح لمحمد علي بأن يجيب طلباتهم وإلا فإنهم لا يجتمعون عليه أبدا.

وبديهي أن محمد علي باشا أدرك بثاقب نظره ما ينطوي تحت هذه المقاطعة من المعاني، وما يترتب عليها من النتائج ، فبادر أولا إلى الإفراج عن الطالب الأزهري الذي كان محبوسا، ليفهم الجمهور أن لا ظلم ولا حبس ولا تعذيب، ثم أخذ يجهد الفكر لفصم عرا تلك الزعامة الشعبية التي كانت قلق باله وتقض مضاجعه، ومضت أربعة أيام على اجتماع الشيوخ دون أن يبعث إليهم محمد علي بالجواب، والظاهر أنه قضى هذه الأيام في استمالة بعض الشيوخ إليه. يقول الجبرتي: “إلى أن بدت الوحشة بين الباشا والسيد عمر مكرم فتولى كبير السعي عليه سرا هو وباقي الجماعة حسدا وطمعا ليخلص لهم الأمر دونه حتى أوقعوا به”.

ف”محمد علي” كان يخشى نفوذ “عمر مكرم” ويتوجس من إثارته الجمهور عليه واقتلاعه من مركزه، كما اقتلع خورشيد باشا من قبل، ولذلك أخذ يقرب إليه بعض أصحاب المظاهر وطلاب المنافع وبعدهم ويمنيهم ليفصلهم عن السيد عمر.

صلابة عمر مكرم..

ورواية الجبرتي تتفق ورواية المسيو مانجان (صديق محمد علي باشا) في كتابه، فقد ذكر أن “عمر مكرم” لما حضر إليه سكرتير الباشا وعبد الله بكتاش ( ترجمانه) يوم 12 يونيه سنة 1809، وكان العلماء مجتمعين عنده، طلبا إليه أن يذهب لمقابلة الباشا، فرفض الذهاب، واقسم ألا يرى محمد علي باشا إلا إذا عدل عن مشروعه في فرض الضرائب الجديدة، وقال “عمر مكرم”: “وإذا أصر الباشا على مظالمه فإننا نكتب إلى الباب العالي، ونثير عليه الشعب، وانزله عن كرسيه كما أجلسته عليه”.

وحدث في خلال ذلك أن حرر محمد علي باشا بيانا برسم الحكومة التركية، يذكر فيه ما أنفقه في مصر من الخارج، وقدره نحو أربعة آلاف كيس وأنها صرفت في مهمات تختص بشئون البلاد، فمنها ما صرف في سد ترعة الفرعونية، وما صرف في الحملات العسكرية لمحاربة المماليك، وما أنفقه على عمارة القلعة وترميم المجراة وحفر الترع، وأوضح في بيانه أن الميري قد نقص بسبب الشراقي، وأرسل البيان إلى السيد عمر مكرم لإقراره والتوقيع عليه، فامتنع وأظهر الشك في محتوياته، وقال للرسول الذي حمله إليه: “أما ما صرفه على سد ترعة الفرعونية فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفتار”.

فلما عاد الرسول إلى محمد علي اشتد حنقه عليه، وطلبه من جديد لمقابلته، فأصر الامتناع، فلما كثر التراسل بينهما في هذا الشأن قال السيد عمر: “أن كان ولابد فاجتماع به في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون”، فلما بلغ هذا الجواب مسامع محمد علي باشا ازداد حنقه، وكبر عليه أن يشترط السيد عمر مكرم أن تكون المقابلة بينهما في دار غير مقر حكمه، وقال: “هل بلغ له أن يزدريني ويأمرني بالنزول من محمل حكمي إلى بيوت الناس”، وصمم على البطش به.

ولولا نقض الشيوخ للعهود والمواثيق لما استطاع محمد علي باشا ان ينال من خصمه منالا. فلما أصبح يوم الأربعاء  9 أغسطس سنة 1809 نزل محمد علي من القلعة وذهب إلى بيت ابنه إبراهيم بالأزبكية، وطلب القاضي والمشايخ، وأرسل إلى السيد عمر رسولا من طرفه ورسولا من طرف القاضي يستدعيانه للحضور ليحتكم وإياه لديهم، فأدرك السيد عمر أن المؤامرة قد وصلت إلى دورها الأخير، ورأى من العبث أن يذهب إلى محكمة يعلم من رأي أعضائها وتواطئهم مع خصمه ما يجعل الاحتكام إليهم عبثا لا يجدي، فآثر الامتناع عن إجابة الدعوة، واعتذر بمرضه، فلم يكن من محمد علي باشا إلا أن أمر في حضرة القاضي والشيوخ بعزل السيد عمر مكرم من نقابة الأشراف، ونفيه من مصر، وأن ينفذ الأمر فورا، وخلع على السيد محمد السادات خلعة نقابة الأشراف.

يتبين من رواية الجبرتي أن منزلة السيد عمر مكرم في قلوب الشعب بقيت كما كانت عند منفاه، ولم ينس الناس ما أسداه لهم من الخير، مع انقضاء عشر سنوات على نفيه، ورجع عظيما كما كان قبل نفيه، ولولا ذلك لما هنأه الشعراء بقصائدهم وازدحم الناس على داره، وظاهر أن عيون محمد علي باشا كانت منبثة حول داره ترقب بحذر ازدحام الجماهير على بابه، وتستمع تهاني الشعراء له، وتشهد مظاهر تعلق الشعب بزعيمه القديم، وكيف أن الزمن والمحنة والشيخوخة والنفي ، كل ذلك لم يؤثر في منزلته في القلوب، ومن المحتمل ان هذه المظاهرات لم تكن لتروق لاصحاب السلطة وقتئذ، ولا يبعد ان يكون قد بلغ السيد عمر أن مثل هذه المظاهرات مما يؤخذ عليه، فآثر الاعتكاف في داره حتى لا تكون فتنة ولا تكو وقيعة، فكان ذلك من حسن الرأي كما يقول الجبرتي، وأن كلمة حسن الرأي تؤكد أن الاعتكاف كان سياسيا.

وعندما انتفض القاهريون في  مارس 1822 ضد الضرائب الباهظة نفاه محمد على ثانية إلى خارج القاهرة، خوفا من أن تكون روحه الأبية وراء هذه الانتفاضة، لكن الموت كان في انتظار الزعيم الكبير، حيث توفى في ذلك العام بعد أن عاش آلام الشعب، وسعى لتحقيق آماله، وتحمل العنت من أجل مبادئه. نفي “عمر مكرم” أربع مرات الأولى والثانية في عهد الحملة الفرنسية، والمرتان الثالثة والرابعة في عصر محمد علي.

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب