الزمان تعيد نشر هذه المقالة بعد ربع قرن على نشرها في لندن.
محمّد صادق الصدر
ملف الاغتيال السياسي
ثلاث زوايا في استهداف المراجع الدينية بالنجف
I
السيد الصدر وقائمة الاغتيالات
قبل أسابيع (وبالتحديد في 19 شباط /فبراير 1999)، وفي ظروف غامضة، جرى اغتيال السيد محمّد صادق الصّدر ونجليه مؤمّل ومصطفى، حين كان عائداً إلى منزله في منطقة “الحنانة” في النّجف، حيث تعرّضت سيارته للملاحقة، فاصطدمت بشجرة قريبة فترجّل المهاجمون من السيارة المطاردة، وأطلقوا النّار على السيد الصدر ونجليه، وبذلك فقدت الحوزة العلمية في النّجف وجامعتها الشهيرة أحد أبرز روّادها الحاليين.
وقبل هذا الحادث بعدة أشهر اغتيل الشيخ علي بن أسد الغروي التبريزي (في ظروف وصفت بأنها غامضة) في 19 حزيران (يونيو) العام 1998، عندما كان في طريقه بين مدينتي النّجف وكربلاء، ودُفن بمقبرة وادي السلام في النّجف. وسبقه اغتيال الشيخ مرتضى البروجردي حين دُبِّرت له مؤامرة لتصفيته، إذ قام أحد العملاء بإطلاق النار عليه بعد عودته من صلاة الجماعة، التي كان يقيمها داخل الحرم المطهَّر، فسقط على أثرها مضرَّجاً بدمه في 22 نيسان (أبريل) 1998، ودفن بمقبرة وادي السلام في النّجف الأشرف حسب وصيته.
كما جرت محاولة اغتيال الشيخ حسين الباكستاني. وحامت الشبهات حول اصطدام سيارة السيد أبو القاسم الخوئي ووفاته في 8 آب (أغسطس) 1992. (مع أنه كان قد بلغ من العمر عتياً، كما يُقال، لكنه تعرّض إلى وضع نفسي، خصوصاً بعد إجباره على الظهور في لقطة تلفزيونية).
كلّ ذلك يلقي بظلال قاتمة من الشكّ حول المستفيد من تصفية المرجعيات الإسلامية في النجف، وحول الأهداف التي يتوخّاها فريق التصفية ومن وراءهم، وكذلك حول الأساليب والخطط التي استخدمها هذا (الفريق)، الذي كان في كل مرّة يلوذ بالفرار، حيث كانت قوات الأمن والشرطة تصل إلى مكان الحادث، بعد أن يكون المرتكب والجاني قد غاب تماماً، فتلقي القبض على الضحية وتندّد بالجريمة، وتعدُ الحكومة بإنزال أقصى العقوبات بالفاعلين بعد إلقاء القبض عليهم، وسرعان ما كانت النار تبرد والكلمات الحماسية تختفي ويعود كل شيء إلى سابقه.
إن هذا الوضع المثير للارتياب وظروف ارتكاب الجريمة أو الجرائم المتواصلة، كان يثير الكثير من الهواجس والأسئلة المشروعة، ويضع العديد من الجهات القضائية والحقوقية الدولية أمام تساؤلات مشروعة، وكذلك منظمات حقوق الإنسان، التي أخذت تدعو لإرسال بعثة لتقصّي الحقائق ذات صفة دولية، وهو ما كان قد دعا إليه أيضاً السيد فان دير شتويل، المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في العراق التابعة للأمم المتحدة، ووزير خارجية هولندا الأسبق.
ووصف فان دير شتويل حال حقوق الإنسان في العراق منذ العام 1992 بأنه “استثنائي”، ويتطلّب “معالجات استثنائية”، ولم يسمح له منذ ذلك التاريخ بزيارة العراق أسوة بلجان التفتيش عن الأسلحة، كما لم تصرّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومن ورائه الولايات المتحدة بضرورة مراقبة حالة حقوق الإنسان في العراق، طبقاً للقرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق، والحقوق السياسية لجميع المواطنين (1991) مثل القرارات الأخرى “المجحفة”، التي فرضت تطبيقها استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
بعد اغتيال السيّد الصّدر مؤخّراً وصدور ردود أفعال حادّة عراقية وعربية وإسلامية ودولية ضد تلك الجريمة، أقدمت الحكومة العراقية على إلقاء القبض على أربعة متّهمين، وقالت: إن خامساً لاذ بالفرار، وعرضت هؤلاء المتهمين على شاشة التلفزيون مُدلين (باعترافات) ملمّحين بـ(تورّط) جهات خارجية ولحسابات (ذاتية وخاصة)، قاموا (بارتكاب) الجريمة.
إن ذلك السيناريو ألقى المزيد من التشوّش والارتباك حول الجريمة وأبعادها، خصوصاً مسلسل تصفية المرجعيات الإسلامية في النجف، التي ظلّت مصدر شكٍّ في ولائها (للدولة) وسياساتها، ويتطلّب الأمر فيما يتطلّب كشف نتائج التحقيق والسماح بإرسال بعثة لتقصي الحقائق حول “الاغتيالات السياسية” ومنها حادث اغتيال الصدر محمد صادق، وإجراء محاكمات عادلة وعلنية للمتهمين، تضمن لهم حق الدفاع عن النفس وتوكيل محامين للدفاع عنهم ، وذلك لكشف أبعاد وتبعات هذه الجريمة، والذين يقفون وراءها، إذْ لا يكفي تنفيذ عمل إجرامي بحق مرجع ديني مرموق، ومن ثم إصدار حكم سريع، ولا تتوفّر فيه الشروط القانونية في التحقيق والمحاكمة وظروف وملابسات الحادث، لكي يتم إسدال الستار على هذه الفعلة النكراء.
البحث الذي نضعه بيد القارئ يعالج موضوع الاغتيال السياسي (العربي) مع تركيز خاص على العراق وهو يتناول المسألة من ثلاث زوايا:
- علم النفس الاجتماعي
- القانون الدولي
- مواثيق حقوق الإنسان
نأمل أن يساهم في تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، التي أصبحت جزءًا من مسلسل متواصل في العراق.
II
الاغتيال وعلم النفس الاجتماعي
تمثّل قضية الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة ظاهرة خطيرة في الوطن العربي، وللأسف الشديد فإنها أخذت بالتوسّع والانتشار، في الوقت الذي يتطوّر فيه الوعي العالمي باحترام حقوق الإنسان الأساسية.
ولم تعد هذه الظّاهرة تقتصر على الحكومات التي عمّقت وطوّرت من إرهابها ووسائلها العنفيّة، بل امتدّت لتشمل قوى خارج السّلطات، فقد اعتمدت قوى التطرّف على وسائل مماثلة لحل النّزاع بينها وبين السّلطات ولرد إجراءاتها وممارساتها الإرهابية بأعمال إرهابية، فقد جرى اغتيال بعض الشخصيات الثقافية والفكرية السياسية اللاّمعة بفعل سيادة ظاهرة تغييب الرأي الآخر وإن اقتضى الأمر إلغاء حق الحياة الذي هو حق أساسي للإنسان، لا يمكن الحديث عن أية حقوق أخرى في ظلّ إهماله.
وقد نصّت المادّة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر ) 1948 على ما يلي: “لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه”. وقد وردت بعض الحقوق التكميلية لحق الحياة والسلامة الشخصية كعدم جواز الرق (المادة 4) وتحريم التعذيب والمعاملات القاسية (م-5) وحق الاعتراف بالشخصية القانونية (م-6) والمساواة أمام القانون (م-7) وحق اللجوء إلى المحاكمة للإنصاف من الاعتداء على الحقوق الأساسية (م-8) وعدم جواز القبض على الإنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً (م-9).
ونصّت المادّة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 ، والذي دخل حيّز التنفيذ عام 1976، على أن “حق الحياة حق ملازم لكلّ إنسان وعلى القانون أن يحمي هذا الحق ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً”. إذْ لا يمكن الحديث عن تلك الحقوق بدون حماية الحق في الحياة، الذي هو حق أساس تصب بقية الحقوق وتتمحور فيه.
لا أريد هنا الحديث عن ظاهرة الاغتيال السياسي في التاريخ، علماً بأنها تطوّرت كثيراً بتطوّر وسائل العلم والتكنولوجيا، لكن الهدف ظلَّ واحداً وإنْ اختلفت الوسائل، ألا وهو إلغاء حق الخصم في التعبير، والإجهاز على الرأي الآخر حتى وإنْ تطلّب الأمر التصفية الجسدية.
وأياً كانت الذرائع المستخدمة، سواء سياسية أم فكرية، وأياً كانت المبرّرات سواء كانت “طبقية” أم ” قومية” أم ” دينية” أم “مذهبية”، وأياً كانت الوسائل المتبعة رصاصة أو سكيناً أو كاتم صوت أو كأس ثاليوم أو حادث سيارة أو تفجير، فإنها من زاوية علم النفس الاجتماعي تلتقي عند عدد من النقاط، هي باختصار:
الأولى – أنها تستهدف تغييب الخصم وإلغاء دوره ومصادرة حقه.
الثانية – أنها تعتمد على الغدر وإخفاء معالم الجريمة في الغالب.
الثالثة – أنها تتّسم بسرّية كاملة وقد يقوم بها بعض المحترفين .
الرابعة – أنها تستخدم جميع الأساليب لتحقيق أهدافها من أكثرها فظاظة وبربرية إلى أكثرها مكراً ونعومة، بحيث يمكن إخفاء أي أثر يُستدلُّ فيه على الضحية.
الخامسة – الحرص على إخفاء هوّية المرتكبين حين يسير المجرم في جنازة الضحية، وقد ينصرف الذهن إلى أن ثمة أطراف أخرى بهدف التمويه ودق الأسافين وتوريط جهات لا علاقة لها بالجريمة.
السادسة – أنها تتجاوز على حكم القانون، سواء كانت الحكومات هي المسؤولة عن تطبيق القانون وحماية الحق في الحياة، أم كانت قوى التطرف، هي التي قامت بالارتكاب خارج دائرة القانون، فأعطت لنفسها الحق في إصدار أحكامها، بل قامت بتنفيذها بعيداً عن القضاء والمشروعية القانونية.
ومهما كانت المبرّرات والأسباب التي استخدمت لتبرير الاغتيال وظواهر العنف والعنف المضاد، فإن هذه الظّاهرة تنتشر في ظلّ غياب الديمقراطية وشحّ الشرعية السياسية، وانعدام حالة الحوار بين السّلطة والمعارضة وبين الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية، وهي تمثّل حالة الضعف والخوف من جانب الجهات، التي تلجأ إلى استخدام الاغتيال ووسائل العنف لحلّ خلافاتها السياسية والفكرية، فالحكومات أو القوى التي تشعر أنها تحظى بتأييد الرأي العام ومؤسّساته واختيار الشعب، لا تفكّر في اللّجوء إلى وسائل العنف أو الاغتيال لإلغاء حق الخصم في التعبير، وبالتالي إلغاء حياته.
III
الاغتيال والقانون الدولي
لا بدّ من الإشارة إلى أن الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة، هما أسوأ درجات انتهاك حقوق الإنسان، وهما دليلا ضعف وليس دليل قوّة، ولذلك فإن الجهات التي تلجأ إليهما أحياناً تحاول التنصّل منهما رسمياً أو تنفي مسؤوليتها عن أعمال تُرتكب باسمها.
كما لا بدّ من الإشارة إلى أن القوى التي تلجأ إلى الاغتيال ومصادرة حق الحياة في الغالب تعتمد على “الإيمانية” المطلقة أو “اليقينية” الثابتة، وهي جزء من الفكر الشمولي، الإطلاقي الوحيد الجانب، وهي لا تؤمن بالتعدّدية وبحق الآخرين، بل تعطي نفسها الحق أحياناً في تحريم أو تجريم الآخرين، ومصادرة حقوقهم تارة باسم ” الشعب” كل الشعب، وأخرى باسم الأمة أو القومية أو الطبقية، وثالثة باسم الدّين.
ولا يربط القوى والجماعات التي تعتمد على الاغتيال والعنف وسيلة لحل الخلافات رابط مع العقلانية ولا الموضوعية، فالانحياز المسبق والتفكير المعلّب المصنوع خصيصاً من نسيج التصوّرات الناجزة، هو الذي يفعل فعله ويحكم علاقة هذه القوى والجماعات بالآخرين وبالموقف منهم.
ولم تكتفِ بعض الحكومات باعتماد محترفين للقيام بمهمّات الاغتيال، بل لجأت إلى استئجار مرتزقة، مُرغمة، في بعض، الأحيان الفاعلين عن طريق احتجاز عائلاتهم أو إكراههم على القيام بارتكاب جرائم “للنجاة بأنفسهم”، مقابل اغتيال خصوم تختارهم هذه السّلطات بالاعتماد على بعثاتها الدبلوماسية، التي تتمتّع بالحصانة الدبلوماسية بموجب اتفاقية فيينا لعام 1961 حول “العلاقات الدبلوماسية”، مهرّبةً الأسلحة والمعدّات ووسائل القتل بالحقائب الدبلوماسية، مستفيدةً من المزايا التي تمنحها اتفاقية فيينا.
هكذا تتحوّل الدبلوماسية، التي هي جناح من أجنحة الدولة لإظهار وجهها الحسن ولحماية مصالح البلاد الوطنية ورعاياها في الخارج، وتعزيز وتطوير علاقاتها الدولية إلى جهاز من أجهزة القمع، يجمع بعض المحترفين من القتلة، فدبلوماسية من هذا النوع، حسب حسن العلوي في كتابه “دولة المنظمة السرية“، لا تعني سوى عين استخبارية مصحوبة بالعنف والإرهاب، أي “عين المقر” كما يطلق عليها.
وحين نكون أمام حالة انعدام المعايير واختلاط الرغبة في تطويع الآخر بتبرير حق تصفيته، وادعاء امتلاك الحقيقة، والرغبة في الحفاظ على المواقع بمصادرة حق الآخرين أو لقاء الله قرباناً لزرع العدل على الأرض، كما سمعنا الكثير من المسوّغات الإرهابية.
أغلب الظنّ أنّ الذين يمارسون الإرهاب والعنف ويصدرون أوامر الاغتيال، يريدون أن يصوروا الأمر لنا على هذه الشاكلة… هكذا يموت الإنسان بدون مُرتكب، بالمصادفة بشرب كأس الثاليوم، أو عن طريق رصاصة طائشة تستقرّ في رأسه يفارق الحياة، وبقدر غاشم تصطدم سيارته أو تسقط طائرته أو يلقى على قارعة الطريق ثم تقوم السلطات بإلقاء القبض على الضحية ويهرب الجناة، كما هو في الكثير من الأفلام السينمائية. هكذا يريدون أن نصدّق بأن الأشياء تحدث بدون مرتكب، سوى الصدفة المجنونة، وفي الواقع ليس ذلك سوى إهانة للعقول وتمادياً في الزيف واستخفافاً بالمنطق.
IV
الاغتيال ومواثيق حقوق الإنسان
لم يعد الاغتيال فردياً، فقد وسعّت الحملات الجماعية من مفهومه، وتحوّل إلى نوع من العقوبة الجماعية: حروب إبادة لجماعات عرقية أو دينية أو مذهبية، وأحياناً لشعوب بكاملها . فلم تكتفِ “إسرائيل” والصهيونية العالمية بإلغاء وجود شعب فلسطين وحقه في الحياة وتقرير المصير، بل اقتطعت أجزاءً عربية عزيزة من جنوب لبنان، إضافة إلى الجولان السورية وغيرها، وامتدت يد الإرهاب الصهيوني لتحاول اقتلاع بعض رموز ثقافة المقاومة، ولتُجهز على مثقفين بارزين أمثال غسان كنفاني، الذي طارت أشلاؤه في بيروت بانفجار سيارته، وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، الذين اغتيلوا في وضح النهار بقرصنة “إسرائيلية” في بيروت، وماجد أبو شرار في روما وخليل الوزير (أبو جهاد)، الذي اغتيل في تونس، وباسل الكبيسي في باريس، وناجي العلي في لندن. ولم تكن بعض الحكومات العربية أكثر رحمة مع الفلسطينيين من غيرهم، كما أن بعضهم لم يكن أقل عنفاً من الغرباء.
ظهر ذلك في الصراعات العربية – الفلسطينية والفلسطينية – الفلسطينية، وكان الرصاص المشبوه الهويّة، قد تكفّلته الصّراعات الداخلية وحلّ محل الحوار والعقلانية وحق الاختلاف وحرية التعبير… رصاص ملتبس ومتسلّل، وإنْ تعدّدت المصادر والجهات.
ومؤخّراً، شملت أعمال الاغتيال في الجزائر أعداداً كبيرة من المواطنين، وخصوصاً من المثقفين، حيث اغتيل إضافة إلى الكاتب الجزائري المعروف الطاهر جعوّط ونحو 33 صحافياً وفناناً، إضافة إلى عدد غير قليل من النساء اللّواتي جرى اغتصاب العديد منهن ثم اغتيالهن، ووصلت موجة الصدام بين الحكومة وقوى التطرّف إلى اغتيال سجناء أبرياء عزل، وتُرتكب مجازر يُلقي كل طرف مسؤوليتها على الطرف الآخر، في حين لا يمكن قبول تبرير مسوّغات قوى التطرّف وانفلات الإرهاب والتجاوز على القانون، كما لا يمكن قبول تبريرات الحكومة وممارساتها الإرهابية، التي تنتهك حقوق الإنسان بزعم مواجهة الإرهاب.
وفي مصر امتدّت قوى التطرف لتنال من الكاتب والمبدع الكبير نجيب محفوظ، الذي حاولت سكّين حاقدة أن تقضي على حياته وتصادر حقّه في التعبير، خصوصاً بعد محاولات ظلامية لتكفيره عن رواية “أولاد حارتنا“، التي مضى على إصدارها أكثر من ثلاثة عقود، كما حدث مع الكاتب فرج فودة، الذي اغتيل غدراً في القاهرة قبل سنوات، وبتصاعد موجات التطرّف تضاعف الحكومة من أعمالها العنفية والإرهابية لتضيف ذرائع جديدة على كبت الحرّيات، وتقليص دائرة المشاركة.
وفي لبنان يوم سقط الشيخ الجليل حسين مروة مضرجاً بدمائه، وقف مهدي عامل مودّعاً زميله أمام ضريح السيدة زينب في دمشق، مخاطباً المثقفين بالقول: إذا لم توحّدنا الثقافة بوجه الظلام والتخلّف فماذا سيوحّدنا بعد… أهو كاتم الصوت؟ ولم يدر بخلده أنه سيكون الضحية القادمة بعد مروة بثلاثة أشهر، سبقه الصحافيان خليل نعوس وسهيل طويلة والقائمة تطول، وتشمل عشرات الأسماء اللاّمعة، والتي تشكّل منارة مشرقة في الثقافة اللبنانية والعربية.
وفي ليبيا كشفت نتائج غير قليلة من الأعمال التي ارتكبتها “الدبلوماسية الليبية”، في الخارج في لندن وألمانيا وأثينا وفيينا وغيرها، عن وجود “جهاز إرهابي” متخصّص مهمّته اغتيال المعارضين، وهو نهج يبدو أنه متبع، فعقب اختفاء المعارض الليبي المعروف وداعية حقوق الإنسان منصور الكيخيا، صدر أكثر من تصريح رسمي من مراجع حكومية متنفّذة استخفافاً منها بهدر دم المعارضة في الداخل والخارج، وهذا لعمري اعتراف صريح من جانب الحكومة بممارسة “الإرهاب” ضدّ مواطنيها على نحو علني ومباشر، بالضدّ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.
ونهجت حكومة السودان مؤخّراً نهج تصفية الخصوم وتصعيد العنف، الذي لم يكن بمعزل عن مساهمة قوى التطرّف، التي مارست أعمالاً عدوانية هي الأخرى، حيث اغتيل مؤخّراً الفنان الخوجلي عثمان بحجج واهية ولأغراض خاصّة بعد المفكّر الإسلامي محمد محمود طه، الذي أعدم بسبب أفكاره في 18 كانون الثاني (يناير) 1985.
والقائمة تطول عربياً، ولا يتّسع المجال لذكر كل التفاصيل، لكنّني سأتناول بشيء من التركيز على الاغتيال كوسيلة من وسائل تعميم الإرهاب في العراق، حيث يكاد يكون النموذج الأصرح ليس على صعيد العالم العربي وحسب، وإنما على الصعيد العالمي.
فقد اتّهم النظام بارتكاب “جرائم إبادة جماعية” في جنوب العراق، وبخاصة مناطق الأهوار وفي شمال الوطن “كردستان”، خصوصاً خلال الانتفاضة في 1991، وقبلها في “حلبجة” عام 1988، وعمليات “الأنفال” السيئة الصيت، ومارس الاغتيال ضدّ جميع القوى والتيارات والاتّجاهات السياسية والفكرية على الصعيد الداخلي والخارجي، أذكر بعض الحالات على سبيل المثال لا الحصر.
فبينما كانت الحكومة العراقية تتفاوض مع الحزب الشيوعي لتوقيع ميثاق الجبهة الوطنية، قامت باغتيال ثلاثة من قادته وهم: ستار خضير ومحمد الخضري وشاكر محمود. وحين تمّ الاتفاق مع قيادة الثورة الكردية في 11 آذار (مارس) 1970 استغفلت الأجهزة الأمنية عدداً من رجال الدّين فألغمتهم القنابل لتفجيرها في مقر الملاّ مصطفى البارزاني، وبينما كان صالح اليوسفي، الزعيم الكردي المعروف، مقيماً في داره في بغداد (أشبه بالإقامة الجبرية أو ما يسمّى تحت المراقبة)، أرسل إليه طردًا لينفجر ويقضي عليه، بينما اغتيل الزعيم القومي العربي فؤاد الركابي في حين كان يقضي سنواته في السجن بتهمة ملفّقة، وقبله اغتيل العسكري البعثي اللّواء مصطفى عبد الكريم نصرت بحادث مفتعل ومدبّر.
بينما اغتيل حردان التكريتي (في الكويت) وعبد الرزاق النايف (في لندن)، وهما من أركان انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، وحامت الشبهات أيضاً حول اغتيال عدنان شريف وعدنان خيرالله طلفاح اللّذين لقيا مصرعيهما بحادثي طائرة، بينما سمّم بالثاليوم، كما أفادت التقارير الطبية، عضو قيادة قطر العراق مجدي جهاد، الذي توفّي في لندن في ما بعد.. ولقي مصيراً مشابهاً فؤاد الشيخ راضي. وتعرّض العديد من عناصر النظام إلى حوادث غامضة، أودت بحياتهم في ظروف ملتبسة.
وجرت محاولات تسميم بالثاليوم خلال فترات مختلفة لعدد من الشخصيات بينهم الدكتور محمود عثمان وعدنان المفتي وسامي شورش والدكتور حسين الجبوري والعقيد عادل الجبوري، ومؤخّراً صفاء البطاط والشيخ فيصل الشعلان، الذين نجوا من تلك المحاولات بأعجوبة.
كما جرت محاولة اغتيال كبرى لزعامات وشخصيات قومية عربية في القاهرة في 25 – 26 شباط (فبراير) 1972 شملت الدكتور مبدر الويس والفريق عارف عبد الرزاق وعرفان عبد القادر ورشيد محسن وصبحي عبد الحميد وهادي الراوي وسيد حميد سيد حسين الحصونة، لكن السّلطات المصرية أحبطتها بعد أول عملية تنفيذ.
وأقدمت الحكومة العراقية، بواسطة عدد من دبلوماسييها في الخرطوم، على اغتيال الزعيم الإسلامي المعروف السيد مهدي الحكيم نجل السيد محسن الحكيم وذلك عام 1988، وبعد تنفيذ هذه الفعلة النكراء هرب القتلة، ولم تكن التحقيقات بمستوى الحادث الأثيم، كما أثيرت الشكوك حول مصير السيد محمّد تقي الخوئي، الذي صدمت سيارته في الطريق العام بين مدينتي النجف وكربلاء، حيث نصب له كميناً على الطريق، وسحقت سيارته شاحنة كانت تنتظره على جانب الطريق العام ليلاً، ثم أشعلوا النار في السيارة التي كانت تقله، فأصيب بنزف في رأسه، وتم تطويق المنطقة في مكان الحادث، و محاصرة النّجف، ومنع الناس من نقل المصابين إلى المستشفى بحجة الانتظار لوصول سيارة الإسعاف، وبقي الشهيد ينزف في الشارع من المساء حتى الفجر، فتوفي في 22 تموز (يوليو) 1994.
وقد أعرب المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عن بالغ قلقه للظروف الغامضة والملابسات التي أحاطت بوفاته، إضافة إلى ما تعرّض له والده السيد أبو القاسم الخوئي، واعتقال العشرات من أفراد عائلته مما يثير الارتياب حول التقارير التي أشارت إلى أن السيارة تعرّضت للاحتراق ولم يتسن العثور على سائق الشاحنة.
ومن الحوادث المثيرة والصارخة اغتيال الشيخ طالب السهيل (رئيس عشيرة بني تميم العربية المعروفة) التي اتّهم بها موظفّان من السفارة العراقية في لبنان، حيث ألقي القبض عليهما بعد أن التجآ إلى السفارة العراقية واعترفا بأنهما قدما إلى لبنان خصيصاً بهدف قتل الشيخ طالب السهيل. ونشأت أزمة دبلوماسية بين لبنان والعراق نجم عنها قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق السفارة العراقية في بيروت.
هذه الحادثة تجعلنا نفكّر بأي زمن نعيش فيه حيث يتم اختلاط الأشياء وتداخلها وتنوّع وتبادل الأدوار والمواقف بقصد خلط الأوراق وإخفاء الحقيقة. فالشرطي يصبح دبلوماسياً، والدبلوماسي الذي يفترض أن يحترم قواعد القانون الدولي والبروتوكول الدبلوماسي يتحوّل إلى قاتل محترف، والدولة التي يفترض فيها أن ترعى حقوق مواطنيها تتحوّل إلى صيّاد للخصم لانتهاك الشرائع والأعراف، والحجة هي تصفية الرأي الآخر.
ونريد هنا أن نذكّر أن الحكومة العراقية والحكومات التي مارست وتمارس الإرهاب، تترتب عليها مسؤولية دولية جديدة، إضافة إلى مسؤوليتها في خرق قواعد القانون الدولي والقانون الدبلوماسي، كما أن من واجب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تأمين احترام القواعد العامة للقانونين الدولي والدبلوماسي، وإرغام المرتكبين والمخالفين على الامتثال لهذه القواعد باعتبارها قواعد آمرة ملزمة، إضافة إلى تأمين احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي أصبحت قواعد ملزمة على الدول والحكومات احترامها وإلّا ستعرّض نفسها للمسؤولية، أي أنها واجبة الأداء وكما يُقال في اللاتينية Jus Cogens. يضاف إلى ذلك ثمة مسؤولية تقع على عاتق الحكومة العراقية والمجتمع الدولي وبخاصة الأمم المتحدة على حدّ سواء؛ الأولى في ضرورة الامتثال للقرار 688 القاضي بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق؛ والثانية لتأمين تطبيقه. وفي الوقت الذي تصرّ فيه على تنفيذ جميع القرارات المجحفة وغير المتكافئة، نراها تغضّ الطرف وتتهاون إزاء تنفيذ القرار المذكور.
*****
ونتساءل هل نحن حقاً أمام “حكومات” تمتثل للمشروعية القانونية وللشرعية السياسية، التي تتمثّل باحترام الإرادة العامة للنّاس وعليها أن تسوسهم باختيارهم وتمثيلهم ومشاركتهم؟ أما ما يخصّ الشق الثاني من أعمال الاغتيال والإرهاب من جانب قوى التعصّب والتطرّف، نتساءل أيضاً: هل يمكن كسب الجمهور وتحقيق البرنامج السياسي بقوّة السلاح؟ وقد جربت قوى وأنظمة ذلك تحت واجهات مختلفة، لكنها لم تصل إلى ما تصبو إليه.
إننا أمام أسئلة محرجة وقاسية، “فهذا زمن تتقدّم فيه الأسئلة وينهزم الجواب” مثلما يقول الشاعر العربي الكبير أدونيس.
- نُشرت المقالة بعد أسابيع من اغتيال السيد محمّد صادق الصّدر، في جريدة المنبر (اللندنية) التي كان يصدرها السيد حسين الصدر، في حزيران (يونيو) 1999، بعنوان: “ملف الاغتيال السياسي.. إلى أين – بعد رحيل السيد الصدر محمّد صادق”. وكان النص الأولي قد تُلي كمحاضرة ألقاها الباحث في لندن في غاليري الكوفة (ديوان الكوفة)، عن “الاغتيال السياسي”، لمناسبة اغتيال الشيخ طالب السهيل التميمي بمنزله في لبنان في عام 1994. وهو إذْ يعيد نشرها بعد مرور ربع قرن على اغتيال السيد محمد صادق الصدر، تعميمًا للفائدة.
- نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 24 أيار / مايو 2024.