خاص: إعداد- سماح عادل
اتسمت انتفاضة تشرين 2019 بأنها كانت بلا قيادة، يفتخر بعض الشباب الذين شاركوا فيها أنهم كانوا بلا قيادة، أولا لأنهم فقدوا الثقة في النخب، والأحزاب، والتيارات السياسية المختلفة، وثانيا لأنهم خافوا على حركتهم من أن تسرق أو تستغل لصالح جهة أو أخرى، لذا فهم يفخرون أنهم ظلوا بلا قيادة، وأصروا على ذلك إصرارا، في حين أن البعض يلوم على حراك تشرين أنه بلا قيادة، ويستنتجون أن افتقاد الحراك لقيادة هو ما جعله لا يحقق مكاسب تذكر.
بمناسبة ذكرى ثورة تشرين العظيمة نواصل نشر ملف عن (تأثيرات ثورة تشرين الثقافية) وكيف تجلت تلك التأثيرات على أرض الواقع، حيث نجمع في هذا الملف آراء مجموعة من الكتاب والمثقفين والمتفاعلين مع أحداث ثورة تشرين.
الدم العراقي الحار..
يقول الكاتب “محمد كريم”: “على صعيد المشهد الثقافي والاجتماعي فإنّ أهم ما أنجزه هذا الجيل بهذه القيامة الاجتماعية:
1/ سقوط النخبة: ما بين نظام الدكتاتور ونظام الإسلام السياسي لم يخرج خطاب هذه النخبة العراقية (مُثقفين، فنانين، أكاديميين، صحفيين، كافة النقابات الصحية والمهنية والتعليمية والإعلامية) عن خطاب السلطة القذر. كان تأريخ 1 أكتوبر 2019 يمثل اللتر صفر لهذا الدم الذي فجّر الشرارة الأولى لأكبر حدث شعبي في تأريخ العراقي السياسي والاجتماعي. حسابات تُغلق، وحسابات تضخّ الطائفية، وحسابات تطبخ التهم وتشرعن قتل الشباب العراقيين الذين أخذت السلطة تحصدهم بالقنّاص بكل دمٍ بارد. من هنا انتقل الشعر والفن والثقافة والسينما والمسرح للشارع والساحات، الساحات التي أصبحتْ متحفاً عراقياً لهذا الدم العراقي، بعيداً عن الاتحادات والقاعات الفارهة والايفادات والمؤتمرات والوصوليات والمجاملات الرخيصة ومسح المؤخرات والمناصب والشحن الطائفي وكل قذارات هذا النظام.
2/ انتهاء الوصاية:
مطرود ولكنّي سعيد…!
هذه الجملة ينشرها أحد الطلبة العراقيين مرفقة بصورته وابتسامته أمام مدرستهِ التي تم طرده منها، نتيجة تأخّره عن الدوام في هذه الثامنة صباحاً. هذا المنشور البسيط يؤكّد لنا قوّة هذا الجيل، إنه لا يؤمن بهذه الوصاية سواء كانت أسرية أو تربوية أو ثقافية أو سياسية أو دينية. هذا الجيل بلا أب، وهذا ما يفسّر بقاء الانتفاضة بلا قيادة، لأنها بلا أبٍ كهذا الجيل الذي يحدّد بدمه بوصلة الحراك.
3/ تفجير الرأي العام:
ماذا عن تظاهرات العراق؟
هذا التعليق وجدته لمراهق عراقي مستفزاً به الرأي العام الدولي في منشور على صفحة (منظمة العفو الدولية)، يعنى بأحداث تظاهرات لبنان. لم يكتفِ هذا المراهق ورفاقه بنشر الصور والمقاطع والهاشتاكات التي تؤكّد هذا الهولوكوست العراقي، بل حتى الموقع الأزرق لم يخلُ من زيارة هؤلاء العراقيين، فأنت تجد التعليقات التي تمثل خطاب الاحتجاج ومطالبه ـــ نريد وطن، العراق ينتفض، ثورة أكتوبر، الشعب يريد إسقاط النظام، نازل آخذ حقّي، حاكموا قتلة المتظاهرين،…ــ تعليقاً على فلمٍ إباحي مثلاً، كل همّم كان إيصال الصوت، إيصال الصورة والفيديو والسكرين والهاشتاك؛ لإيقاف هذا الدم.
4/ قتل الطائفية:
(آني من شيعة عمرومن سنة علي وأمي مريم العذراء)
لافتة أخرى من اللافتات التي رفعها الشباب العراقيين في الاحتجاجات، لافتة تؤكّد نفاد صلاحية هذا النظام بنفاد بطاريته، الطائفة التي أنتجتْ حمّامات الدم العراقي والفساد وكل هذه الخطوط الحمراء.
5/ تفعيل الهويّة الوطنية:
كتاج تاج على الرأس
دم الشهيد الغالي
الهتاف أعلاه يوحي بانقلاب اجتماعي خطير وسريع وحقيقي؛ فمن تقديس الطائفة متمثلة بالعمامة، من تقديس العشيرة متمثلة بالعقال، من تقديس البدلة والرباط متمثلة بالمسئول، من تقديس الرتبة العسكرية متمثلة بالقائد الضرورة، إلى تقديس الدم، الدم الذي يجري لحياة الآخرين وإيصال صوتهم، الدم العراقي الحار الذي يحرّك هذه القيامة من تحت التراب”.
حراك مدني..
يقول الشاعر “إياد ميران”: “لثورة تشرين أهمية على جميع الأصعدِ ومن ضمنها طبعا على الصعيد الثقافي، إن هذه الثورة ومنذ بداياتها كان للعامل الثقافي فيها دورا مهما وحيويا فهي امتداد للحراك المدني الثقافي الذي ابتدأ منذ عام ٢٠١١، فمن تلك البذرة الصغيرة والتي كان المكون الأساس لها هم المديون والنخب الثقافية صارت هذه الشجرة الكبيرة، أن لهذه الانتفاضة بوجه الفساد والفاسدين دور في إعادة الدور للثقافة، وفرضت على المثقف الحقيقي النزول لأرض الواقع والمساهمة مع الشباب في الثورة، والتواجد في ساحات الاعتصام ضد السلطة الغاشمة، ولقد قدم الكثير من الأدباء أرواحهم فسقط العديد منهم شهداءً في هذه الساحات، وتعرض العديد منهم للاختطاف والاعتقال مع هذا لم يتراجعوا وواصلوا دورهم. بالإضافة لمساهماتهم الأدبية سواء بالشعر والقصة والموسيقى والغناء والمسرح والفنون التشكيلية”.
الروح الجماعية..
يقول “د.عباس رهك”: “مما لاشك فيه بأن ثورة تشرين كان لها تأثير سياسي واجتماعي وثقافي هائل، باعتبارها أنها أول ثورة في تأريخ العراق الحديث نتجت من البنية الاجتماعية، وقد حملت في مضامينها شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، وبناء الدولة المدنية الحديثة بلسان الروح الجماعية، وقد كشفت بهذه الشعارات زيف الأحزاب السياسية الحاكمة، ليصطف معها الكثير من المدونين الأحرار والطبقة المتصفة بالوعي والثقافة، والكثير من الكتاب والشعراء والروائيين والمسرحيين، الذين قدموا نتاجاتهم في خيم وساحات التحرير، أضف إلى ذلك التشكيليين المتمرسين والهواة، إذ ماتزال شواهدهم مجسدة على شكل لوحات، تمجد البطولات التي قام بها أبطال الثورة، ولا ينسى دور الشعراء الشعبيين وكتاب الأغاني والمطربين، وصولا إلى كتاب السيناريو والأفلام، حيث كانت لهم بصمة مهمة في إيصال أفكار الثورة عبر التلفاز والسينما، وهي بهذا قد وصلت إلى جميع طبقات الشعب بلا استثناء، لذا يمكن القول بأن تشرين أنتجت ثقافة كتابية وفنية لها خصوصيتها المحلية، وبهذا هي تأخذ مكانتها الأصيلة بين الثورات الحقيقية في العالم في عصر مابعد الألفية”.
رفع الوعي..
ويقول الكاتب “عباس نعمان”: “ثورة تشرين صنعت الكثير من التغييرات في كل الأصعدة، الاجتماعية، الفكرية، الوطنية، الإنسانية وغيرها، وكل هذه الأصعدة تؤثر بشكل مباشر على الجانب الثقافي في أي مجتمع، مهما حاولت الجهات الأخرى طمس معالم ذلك. الأمر يشبه صحة الإنسان، العلاج مؤلم ومرّ لكنّه ضروري لشفائه من فيروس تمكن من جسده، وسيطر على أعصابه ودروب اطمئنانه”.
مؤكدا: “ثورة تشرين رفعت الوعي الثقافي إلى أقصى مدى ننتظره من ثورة، فهي اليوم المنبع والجذر الذي تستند عليه الكتابة في كل فروعها، من شِعر ورواية و مقالات ونصوص أدبية، ونستطيع أن نستدل على ذلك بأقرب مثال في المقالات الوطنية التي ظهرت أثناء الثورة، والتي اندفع الشباب العراقي إلى قراءتها رغم كل ما شغل الشارع العراقي على المستوى الحيوي”.
ويوضح: “مهما كتبنا في ذلك لن نستطيع أن نمنح الشهداء حقهم، لا كتابة ولا وعي ثقافي ولا محتوى فكري سيعيدهم، لكننا نستطيع على الأقل ان نحيي مبادئهم التي قُتلوا من أجلها، وتذكير البشرية بهم كأيقونة أصيلة في حب الوطن وإحياء هدف الثورة، وكلّ هذا سيذكره التاريخ فيما هو مكتوب من شِعر ورواية وفي مختلف الفنون، التأثير الثقافي هو المؤرخ الذي سيخلد للأبد”.
تبادل المعرفة..
وتقول الكاتب والمهندسة “هبه محمد صفاء”: “لها تأثيرات عظيمة ظهرت بشكل حركة دؤوبة في مجال الأدب (الشعر والمقالة والخطابات أيضا)، بالإضافة للجلسات والندوات الثقافية التي أصبحت تعقد بشكل شبه دوري، ضمن خيام المعتصمين وأحيانا في الهواء الطلق لتكسر بذلك الأعراف المتداولة، عن تحجيم الفن والأدب واقتصارهما على الصالونات الثقافية والمعارض الفخمة، التي تضم رواداً من فئات معينة ومحددة يمثلون غالباً الطبقة المترفة، وبعض أبناء الطبقة المتوسطة. في تشرين كتبنا وصدحت أصواتنا في الهواء الطلق، اجتمعنا وتبادلنا المعرفة في الشوارع التي تعج بالدخان ورائحة الدم والتراب، ورسمنا وسجلنا تأريخاً على جدرانِ الساحات، كما وأسقطت ثورة تشرين كل التابوهات والقيود والأفكار التي كان يستخدمها مدعو الدين لأحكام سيطرتهم على الفكر الحر”.
الانتفاضة الشبابية..
ويقول الكاتب “خالد السلطان”: “إذا ما توخينا الدقة المفاهيمية والاصطلاحية يمكن توصيفها بالانتفاضة الشبابية التي لا رؤوس قيادية لها، ولا برنامج موحد تتفق عليه الشرائح المنتفضة برغم دماء الشهداء الشباب. إنها صراحة انتفاضة لا تطرح تغييرا جذريا إنما تنتظر من الحكومة الراهنة تحقيق مطالبها المطلبية لا السياسية، الأمر العصي على التحقق في ظل هيمنة الميليشيات الولائية وهامشية القوى الوطنية العراقية. أحيي بصدق ذكرى الانتفاضة التشرينية، وأتمنى أن تتحول إلى ثورة برغم المهيمنات الداخلية والخارجية. على المستوى الثقافي ما زالت الانتفاضة بحاجة إلى مثقفين فاعلين جدد. مثقفون تجاوزوا صنمية مبدأ الواقع الراهن باتجاه الواقع الممكن”.