خاص : بقلم : أحمد عبدالعليم :
ما بين العجز والأمل ينتج المجتمع ثقافته ويطرح رؤيته حول الدولة والعالم في إطار نسق قيمي يمكنه المواءمة بين ما هو “مشروع” وما هو “غير مشروع”، بين تطلعات مأمولة واحتياجات ملحة، ليخلقوا لأنفسهم فرصًا جديدة في الحياة. إنهم ــــ وإن كانوا ــــــ غير قادرين على مواجهة الأسباب والعوامل التي أودت بهم إلى ذلك، كما وأنهم غير قادرين على تغيير العالم، لكنهم ـــ بلا شك ـــــ قادرون على التوافق والتكيف مع معطياته، حيث يفرض الوجود الاجتماعي على الأفراد داخل “الجماعة الاجتماعية” تقديم معالجات من شأنها الحيلولة دون الوقوع في فخ “العوز” والاحتياج و”الفقر المدقع”؛ وهي معالجات وإن تبدو “شخصية” إلا أنها في مجملها تعبر عن مضامين اجتماعية ذات أبعاد متعددة أو هكذا أرادوا لها أن تكون، حيث تلعب الثقافة دورًا مثلما تؤدي العقيدة أدوارًا في عمليات المقاومة اليومية التي يقوم بها الأفراد في مواجهة عنت الحياة وشروطها القاسية، إنها عملية مقاومة في مواجهة التردي والإقصاء ونقصان القيمة.
وإذا أمعنا النظر في طبيعة وتاريخ هذه الجماعة الاجتماعية لأدركنا على الفور حجم القدرة ومساحة الخبرات التي يمتلكونها لإنتاج ثقافة قادرة على “التحايل” على قسوة الحياة وشروطها المجحفة، وهذا ما يصنعه المواطن المصري بشكل يومي في مواجهة ظروف الحياة التي باتت تقسو عليه مستعينًا بتاريخه الطويل والممتد في مواجهة مثل هذه التجارب الاجتماعية التي أصبحت تبدو مألوفة لديه، وهو ما يعبر عنه المعجم في معنى “التحايل”، حيث يقول: تحايل على الرجل أو تحايل على الشيء “سلك معه مسلك الحذق ليبلغ منه مأربه”.
إن هذا الإدارك الضمني الذي تكشف عنه الثقافة بطرقها المتنوعة، فرض على المصري دومًا طرح أشكال من التفاعل الاجتماعي التي ربما يبدو فيها دور الفرد متراجعًا لصالح الجماعة، ولكنها في صميمها تعبر عن رغبة الفرد في الانتماء لجماعة تضمن له بعض من الأمن والأمان الاقتصادي والاجتماعي؛ وهي تعبر عن تلك الأشكال (المتوارثة) من التضامن الاجتماعي في المناسبات المختلفة، فطقوس الفرح والتي تتضمنها منح مبالغ مالية للعروسين، “النقطة”، وتقديم الهدايا العينية، وطقوس الوفاة؛ حيث يتولى جيران بيت المتوفى تقديم الطعام لأسرة المتوفي وضيوفهم لليال عدة، وغيرها من الممارسات (الثقافية) التي تزخر بها عادات وتقاليد المصري تكشف حجم التعاون والتضامن الذي يفرضها المجتمع على الفرد ويستأنس بها الفرد في إطار منظومة اجتماعية، عقائدية يسيطر فيها ما هو (أعراف/تقاليد) على ما هو (رسمي/قانوني)؛ وتتوازى و تتجاور المنظومتين زمنيًا ومكانيًا على مر العصور، منظومة (شعبية) حامية، ومنظومة (حكومية) حاكمة.
تمثل الثقافة المصرية جوهر الشخصية المصرية، والمحرك لوجدانه وعقليته، والمشكل لشخصيته، فلقد تميز منذ أن أنشأ أول دولة قومية ومن ثم أول حكومة مركزية فى التاريخ، بالجدية والانضباط والإيمان والإخلاص والمودة والتسامح والكرم وحب الحياة والانتماء لأرضه والذوبان والحنين إلى الوطن، وهو الأمر الذي تراجع في الآونة الأخيرة، حيث مر المجتمع المصري خلال النصف الثاني من القرن العشرين بأحداث تاريخية حادة أحدثت تحولات ثقافية واجتماعية أدت إلى إحداث تغييرات جذرية في شخصيته، بل وتغييرات في بنيته الديموجرافية، وهو الأمر الذي أدى إلى تبدل في رؤية المجتمع لذاته وللعالم، مما أعاد صياغة وتشكيل الوعي الجمعي للمواطن المصري.
ويبدو أن التحولات الاقتصادية التي طرأت على هيكل الاقتصاد المصري وتراجع دور الدولة عن تبني ودعم الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة وغيرها، قد أدى إلى إحساس عميق بتأثيرات الفقر، حيث زادت الكلفة المادية في ميزانية الأسرة فيما يتعلق بالتعليم والصحة، وهو الأمر الذي زاد من حدة الآثار المترتبة على تدني الدخول، ومن ثم تراجع طبقات اجتماعية في “السلم الطبقي”، وتفشي كثير من الظواهر الاجتماعية السلبية والمرضية، حيث أدت الأزمات المتتالية التي تعرض لها المجتمع إلى تغير في نسق القيم السائد، وانتشار منظومة قيم مغايرة، فتراجعت قيم التكافل والعطاء والتضحية والانتماء لصالح القيم التي تعبر عن الفردية والأنانية، إذ يفرض الفقر على الأفراد موقفًا خاصًا من الحياة وهو موقف القلق والتشكك وعدم الأمان والخوف، وتؤدي محاولات التكيف المتكررة والمستمرة مع الظروف الضاغطة في فترات متعاقبة إلى حدوث تشوهات حادة في سمات الشخصية.
ومن هنا تبدو ثقافة التحايل وكأنها نوع من محاولة التكيف أو التعامل مع أوضاع مستحيلة، ترتبط بعملية التكيف مع الواقع غير العادل وغير المنصف، والشخص الساعي للتكيف تدفعه الظروف إلى سلوك التحايل أو التكيف ويعتمد على وجود بدائل مثل وجود معتقدات بديلة أو اللجوء إلى أنماط سلوكية بديلة، وهي تتراوح بين التكيف الإيجابي الذي يقوم على التقبل والرضا والاندماج والتوافق مع النظام بهدف الاستمرار في البقاء، وقد يتخذ خطوات عن طريق البحث عن حلول وسط توفيقية تحقق قدرًا من التراضي وعندما يعجز عن إرضاء من يظلمه يلجأ إلى المداراة والمجاملة والتملق، وهناك التكيف السلبي المحبط الذي يقود صاحبه إلى عدد من الممارسات السلبية كالانتهاك الصريح للقانون وتهديد قيم المواطنة واختلال المعايير على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
يمتلك المصريون إذًا مخزونًا وقدرة هائلة على التكيف مع الظروف قد اكتسبوها عبر تاريخهم الطويل في التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات، وتغير الظروف والأحوال التي يعيشون تحت وطأتها، ومن ثم يملكون مرونة كبيرة في التعامل معها، وقدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه، كما يملكون قدرًا كبيرًا من الصبر على ظروفهم الضاغطة والقاسية، ولديهم أمل في رحيل من يظلمهم بشكل قدري لا دخل لهم فيه، فدائمًا ما يراهنون على الزمن ليحل لهم المشكلات، أو تتحلل معه، فالمصري كثيرًا ما يقبل الأمر الواقع ويغير في نفسه وفي شخصيته وفي ظروف معيشته لكي يوائم هذا الواقع، وبالتالي لا يفكر كثيرًا أو جديًا في تغيير الواقع بل يميل غالبًا للإستسلام له والتسليم، فلقد عرف عنه ميله للاستقرار وعدم الرغبة في إحداث تغييرات جذرية، وتخوفه من التجديد، وعدم ميله إلى المغامرة، وصبره على ظروف ربما تستحق المواجهة أو التغيير.
وتشير البحوث الى أن نسبة الفقر منذ اوائل التسعينيات دفعت الأسر في المناطق الأكثر فقرًا إلى تكثيف العمل العائلي وبالتالي زادت أعداد النساء الملتحقات بسوق العمل، واللائي لا يجدن عادة سوى الأعمال قليلة العائد، مثل العمل أجيرات في الأراضي الزراعية، أو بائعات في الأسواق، أو يقمن بدور الوسيط، بحيث يقمن ببيع المنتجات المنزلية للبيوت القادرة، “دلالات”، وزادت أعداد النسوة العاملات بالتسول، كما تلعب أدوارًا متعددة في هذه المجتمعات، إذ ينقطعن عن التعليم ويفسحن المجال أمام الذكور للتعليم، ويعملن في سن صغيرة لمساعدة أسرهن، كما يلجأن إلى ممارسة كثير من الحيل لتصريف أمور أسرهم من بينها خفض الإنفاق وتأجيل كل ما يمكن تأجيله، مثل الذهاب إلى الطبيب، أو تخفيض جرعات الدواء التي يصفها الطبيب، وضغط نفقات الأسرة قدر المستطاع، وتخفيض عدد الوجبات الغذائية التي تقدم وكمياتها، واللجوء إلى ممارسات اقتصادية بديلة مثل تربية الطيور المنزلية والمواشي، لتدبير احتياجات أسرهن من الألبان، والاعتماد على البروتين النباتي وشراء بقايا الخضراوات من السوق الأقل جودة والأرخص سعرًا بالضرورة، والاكتفاء بصنف أو صنفين، كما تتميز المرأة المصرية بقدرتها على الإبداع في إعادة تدوير الأشياء القديمة والاستفادة بها لأقصى مدى ممكن.
وقد يفضي التكيف؛ ومن ثم “التحايل”، إلى شيوع نسق من القيم السلبية مثل الإذعان، من خلال الإمتثال لأمور كثيرة في إطار علاقة قوة غير متكافئة، والتبرير، حيث يعلل الفرد في نظره ونظر الآخرين رأيًا أو تصرفًا أو عملاً، ويرجع السبب في ذلك إلى الهوه التي توجد بين السلوك والأفكار، واللامعيارية مما يؤدي إلى غياب أو انهيار أو وجود صراع في معايير المجتمع، كما يشيع ممارسات انحرافية، حيث يساعد الفقير بالذات على اللجوء إلى أساليب التحايل والتكيف السلبي ما تبديه الثقافة من تجاوزات من فرض بعض القيم والتهاون في مراقبة الالتزام بها، وسواء تسامحت الثقافة أو تجاوزت، تظل مجالات عديدة للعلاقات في حياة الإنسان الفقير غير معلنة أو واضحة، وبالتالي يستطيع أن يخرق أو يتجاوز الكثير من الحدود.
وخطورة التحايل أن يلجأ البعض إلى الحيل والمبررات التي يتخذها كوسائل دفاعية للخروج عن القيم؛ فيحاول انتهاكها عن طريق تغليفها بأسماء جديدة تواكب ظروف واقعه مثل مفاهيم “الشطارة والفهلوة” و”الرزق يحب الخفية” أو تشاع ألفاظ مثل “الكل كده” أو إلقاء المسؤولية على الغير، وهو ما يردنا إلى حالة التسيب التي أصبحت سمة سائدة في مجتمعنا المصري. فالتحايل ثقافة تمارس بشكل عادي تتمثل في التأثير على تراجع حجم المواطنة، حيث يزيد شعور الفقير بضعفه مع ازدياد ضغوط ومشكلات الحياة اليومية، وتكون نتيجة ذلك انكفاؤه على مشاكله الخاصة المحدودة إلى الحد الذي يقلل من اهتمامه بالمجتمع وقضاياه ومشاركاته فيما يحدث فيه.
داخل كل جماعة اجتماعية، “مستديمة”، تتجاور تجارب إنسانية متنوعة، وحيث تعي “المجموعة” بالمتناقضات التي تتصل على الأقل بنمط الحياة الذي يفصل بين الطبقات أو بين الأجيال مع كل الأخطاء الناتجة عن غياب/قصور الوعي، فإن المواجهة المباشرة هي خير طريق نحو زيادة الوعي (المغرض) و(الجزئي)، لإدراك الوضع الذي يشغله “الفرد” في العالم الاجتماعي الأكبر تتحدد وتتبلور نتيجة الأثر المباشر (المحسوس/الملموس) للتفاعلات الاجتماعية داخل العوالم الصغرى.