خاص: إعداد- سماح عادل
“توفيق الحكيم” كاتب مصري، من رواد الرواية والمسرح، ومن الأسماء البارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث، وكانت مسرحيته المشهورة (أهل الكهف) في عام 1933 حدثاً هاماً في الدراما العربية، فقد كانت تلك المسرحية بداية لنشوء تيار مسرحي عرف بالمسرح الذهني. وبالرغم من الإنتاج الغزير ل”توفيق الحكيم” فإنه لم يكتب إلا عدداً قليلاً من المسرحيات التي يمكن تمثيلها على خشبة المسرح، فمعظم مسرحياته من النوع الذي كُتب ليُقرأ، فيكتشف القارئ من خلاله عالماً من الدلائل والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع في سهولة لتسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع تتسم بقدر كبير من العمق والوعي.
حياته..
ولد “توفيق إسماعيل الحكيم” بالإسكندرية عام 1897 لأب مصري من أصل ريفي يعمل في سلك القضاء في مدينة الدلنجات بمحافظة البحيرة، وكان يعد من أثرياء الفلاحين، ولأم تركية أرستقراطية كانت ابنة لأحد الضباط الأتراك المتقاعدين، عندما بلغ السابعة من عمره التحق بمدرسة دمنهور الابتدائية حتى انتهى من تعليمه الابتدائي سنة 1915 ثم ألحقه أبوه بمدرسة حكومية في محافظة البحيرة حيث أنهى الدراسة الثانوية، ثم انتقل إلى القاهرة مع أعمامه، لمواصلة الدراسة الثانوية في مدرسة محمد علي الثانوية، بسبب عدم وجود مدرسة ثانوية في منطقته.
في عام 1919 مع الثورة المصرية شارك مع أعمامه في المظاهرات وقبض عليهم واعتقلوا بسجن القلعة. إلا أن والده استطاع نقله إلى المستشفى العسكري إلى أن أفرج عنه. عاد عام 1920 إلى الدراسة وحصل على شهادة الباكالوريا عام1921. ثم انضم إلى كلية الحقوق بسبب رغبة أبيه ليتخرج منها عام 1925، التحق “توفيق الحكيم” بعد ذلك بمكتب أحدالمحامين المشهورين، فعمل محامياً متدربا لفترة زمنية قصيرة، ونتيجة لاتصالات عائلته بأشخاص ذوي نفوذ، تمكن والده من الحصول على دعم أحد المسؤولين في إيفاده في بعثة دراسية إلى باريس لمتابعة دراساته العليا في جامعتها قصد الحصول على شهادة الدكتوراه في الحقوق والعودة للتدريس في إحدى الجامعات المصرية الناشئة، فغادر إلى باريس لنيل شهادة الدكتوراه (1925م – 1928م). وفي باريس، كان يزور متاحف اللوفر وقاعات السينما والمسرح، واكتسب من خلال ذلك ثقافة أدبية وفنية واسعة إذ اطلع على الأدب العالمي وفي مقدمته اليوناني والفرنسي.
انصرف عن دراسة القانون، واتجه إلى الأدب المسرحي والقصص، وتردد على المسارح الفرنسية ودار الأوبرا، فاستدعاه والداه في سنة 1927 أي بعد ثلاث سنوات فقط من إقامته هناك، وعاد الحكيم صفر اليدين من الشهادة التي أوفد من أجل الحصول عليها. عاد سنة 1928 إلى مصر ليعمل وكيلاً للنائب العام سنة 1930، في المحاكم المختلطة بالإسكندرية ثم في المحاكم الأهلية. وفي سنة 1934 انتقل إلى وزارة المعارف ليعمل مفتشاً للتحقيقات، ثم نقل مديراً لإدارة الموسيقى والمسرح بالوزارة عام 1937، ثم إلى وزارة الشؤون الاجتماعية ليعمل مديرا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي. استقال في سنة 1944، ليعود ثانية إلى الوظيفة الحكومية سنة 1954 مديرا لدار الكتب المصرية. وفي نفس السنة انتخب عضواً عاملاً بمجمع اللغة العربية وفي عام 1956 عيّن عضوا متفرغا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدرجة وكيل وزارة. وفي سنة 1959 عيّن كمندوب مصر بمنظمة اليونسكو في باريس. ثم عاد إلى القاهرة في أوائل سنة 1960 إلى موقعه في المجلس الأعلى للفنون والآداب. عمل بعدها مستشاراً بجريدة الأهرام ثم عضواً بمجلس إدارتها في عام 1971.
المسرح الذهني..
في مقالة بعنوان (توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني) يقول”بهاء علي حسين السعدي” : “يُعد توفيق الحكيم أحد رواد الرواية العربية والكتابة المسرحية في العصر الحديث فهو من أبرز العلامات في حياتنا الأدبية والفكرية والثقافية في العالم العربي، وقد امتد تأثيره لأجيال كثيرة متعاقبة من الأدباء والمبدعين، وهو أيضا رائد للمسرح الذهني ومؤسس هذا الفن المسرحي الجديد وهو ما جعله يُعد واحدا من المؤسسين الحقيقيين لفن الكتابة المسرحية ليس على مستوى الوطن العربي فحسب وإنما أيضا على المستوى العالمي.. وقد تألق الحكيم واشتهر ككاتب مسرحي بعد النجاح الذي حققته مسرحية (أهل الكهف) التي نُشرت عام (1933) التي مزج فيها بين الرمزية والواقعية على نحو فريد يتميز بالخيال والعمق دون تعقيد أو غموض . وأصبح هذا الاتجاه هو الذي يكوِّن مسرحيات الحكيم بذلك المزاج الخاص والأسلوب المتميز الذي عُرف به. ويتميز الرمز في أدب توفيق الحكيم بالوضوح وعدم المبالغة في الإغلاق أو الإغراق في الغموض فـ(عودة الروح) هي الشرارة التي أوقدتها الثورة المصرية وهو في هذه القصة يعمد إلى دمج تاريخ حياته في الطفولة والصبا بتاريخ مصر فيجمع بين الواقعية والرمزية معا على نحو جديد. وتتجلى مقدرة الحكيم الفنية في قدرته الفائقة على الإبداع وابتكار الشخصيات وتوظيف الأسطورة والتاريخ على نحو يتميز بالبراعة والإتقان، ويكشف عن مهارة تمرس وحسن اختيار للقالب الفني الذي يصـب فيه إبداعه سواء في القصة أو المسرحية، بالإضافة إلى تنوع مستويات الحوار لديه بما يناسب كل شخصية من شخصياته، ويتفق مع مستواها الفكري والاجتماعي. لقد أغنى الحكيم المكتبة العربية بعشرات المسرحيات منها (أهل الكهف، إيزيس، سليمان الحكيم، إديبوس الملك، الأيدي النّاعمة، الاتّفاقية، مسرحيّة الموت، شمس النهار، الطّعام لكلّ فم، ياطالع الشجرة، الرّحلة إلى المستقبل، بايجماليون، السلطان الحائر، المسرح الفلسفي “21 مسرحية قصيرة”، المسرح المجتمع “21 مسرحية قصيرة”) . كما ترجمت العديد من مؤلفاته ومسرحياته إلى اللغات ألاجنبية كالفرنسية والإنجليزية والإيطالية والأسبانية والألمانية والروسية ومثلت بعض منها على مسارح باريس وبوخارست مثل: (يوميات نائب في الأرياف، أهل الكهف, عصفور مـن الشرق). وكما لديه مقالات عديدة وحوارات روايات وقصص وكتب سياسية وثقافية. وبالرغم من الإنتاج المسرحي الغزير للحكيم الذي يجعله في مقدمه كتاب المسرح العرب وفي صدارة رواده، فإنه لم يكتب إلا عدداً قليلاً من المسرحيات التي يمكن تمثيلها على خشبة المسرح ليشاهدها الجمهور، وإنما كانت معظم مسرحياته من النوع الذي يمكن أن يطلق عليه (المسرح الذهني)، الذي كُتب ليُقرأ فيكتشف القارئ من خلاله عالماً من الدلائل والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع في سهولة ويسر لتسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع تتسم بقدر كبير من العمق والوعي. وهو يحرص على تأكيد تلك الحقيقة في العديد من كتاباته، ويفسر صعوبة تجسيد مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح فيقول: (إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن وأجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز.. لهذا اتسعت الهوة بيني وبين خشبة المسرح ولم أجد قنطرة تنقل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة)”.
ويواصل: “ولا ترجع أهمية توفيق الحكيم إلى كونه صاحب أول مسرحية عربية ناضجة بالمعيار النقدي الحديث فحسب، وهي مسرحية (أهل الكهف)، وصاحب أول رواية بذلك المعنى المفهوم للرواية الحديثة وهي رواية (عودة الروح) اللتان تم نشرهما في العام (1932)، وإنما ترجع أهميته أيضا إلى كونه أول مؤلف إبداعي استلهم في أعماله المسرحية الروائية موضوعات مستمدة من التراث المصري. وقد استلهم هذا التراث عبر عصوره المختلفة، سواء أكانت فرعونية أو رومانية أو قبطية أو إسلامية، كما أنه استمد أيضا شخصياته وقضاياه المسرحية والروائية من الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي المعاصر لأمته لذا منحته الحكومة المصرية أكبر وسام وهو ( قلادة الجمهورية) تقديراً لما بذله من جهد من أجل الرقي بالفن والأدب وغزارة إنتاجه كما منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1961”.
المرأة في مسرحه..
في دراسة بعنوان (الشخصية النسائية فى مسـرح توفيـق الحكيـم قراءة نقدية تحليلية) يقول ” د.أحمد صقر” : “احتلت المرأة فى مسرح “توفيق الحكيم” مكانة مرموقة عالية حيث كرمت وأعطيت حقها من التقدير والاحترام، ولم يعد ينظر إليها على أنها متاع مملوك للرجل، تأكل وتشرب وتنجب وكفى، بل أصبحت محترمة، خلافا لما كان سائدا. ومن ناحية أخرى تمتعت المرأة أيضا عنده بسمة أخرى تمثلت فى أنها تقوم بالخطوة الأولى لتحريك كل الأمور المحيطة بها مما جعلها مركز الثقل بالمسرحية. هذا إلى جانب أنها تمتعت ببعض السمات التى تمثلت فى قوتها التى يخشى بأسها، تحمل من صفات الرجل الكثير ولم تعد تلك المرأة المستكينة الضعيفة التى صورها الكتاب من قبل. صور “توفيق الحكيم” دور المرأة من خلال مسرحيته “شهرزاد” فجعل لها الحق فى القيام بالخطوة الأولى المتمثلة فى مبادرتها من أجل تغيير حال ترى أنه مشين، ويتحقق هذا لـ”شهرزاد” التى رفضت ما كان يقوم به “شهريار” تجاه النساء ونجحت فى أن تصرفه عن حبه وعشقه لسفك الدماء وتحول إلى طلب المعرفة والعلم، كذلك شخصية الغانية فى مسرحية “السلطان الحائر” تنجح فى إعطاء “السلطان” و”القاضى” بل الجميع درسا فى إصرارها على أن يصححوا نظرتهم إليها كامرأة نظر إليها على أنها ساقطة تسعى من أجل المال واللذة، وتعطيهم درسا تبادر فيه وتوضح ضرورة التمسك بالقيم والقانون والابتعاد عن القوة”. إن “الحكيم” هنا ينجح فى أن يجعل الغانية قادرة على إبداء الرأى، بل وتغيير ما حولها، فهى لم تعد المرأة التقليدية بل أصبح لها الحق فى المشاركة وإبداء الرأى فى كثير من الأمور مما يجعلها قوة محركة دافعة لتسيير عجلة الأمور. يتحقق عند “توفيق الحكيم” أيضا ملمح آخر يميز الشخصية النسائية فى مسرحه وهو حقها فى الاختيار والرفض فيما يتعلق بأمور الزواج والحب، وتتحقق هذه السمة عند “الحكيم” فى مسرحيته “السلطان الحائر”، فـ”الغانية” التى اشترت السلطان وأجلسته إلى جوارها وأصرت على حقها فى أن تتمتع بوقتها، كيفما تحب، نراها تصر على أن يبقى “السلطان” معها تلك الليلة إلى أن يؤذن المؤذن لصلاة الفجر، وهنا نرى أن “الغانية” تحادث “السلطان” وتطلب منه أن يشاركها فى الاستمتاع بالغناء والموسيقى، ويتساءل “السلطان” هل هذا كل ما تطلبه، فتجيبه أنها لا تسعى إلى أكثر من ذلك. وهذا ما حدث بالفعل أيضا مع شخصية “شهرزاد” التى استطاعت برغم القيود الظاهرة أن تمارس ميولها دون قيود حقيقية عن طريق التحايل على “شهريار”، وتنجح فى أن تنقذ حياتها، وتستمتع بتحقيق ما تتمناه، وأكثر من ذلك نجاحها فى تحقيق التغيير فى شخصية “شهريار””.
ويضيف: “سمة أخرى أراها تتحقق فى مسرح “توفيق الحكيم” فيما يتعلق بملامح الشخصية النسائية، وأقصد به أن المرأة كشخصية نسائية قد صورت ولها بعض الملامح من وعيها وقدرتها على إبداء الرأى واتخاذ القرار، إلا أن هذا لا يعنى أنها صورت بملامح لم يعتدها الناس من قبل، بل وجدنا الرقة والأنوثة وفيض المشاعر هذا يتحقق إلى جانب ما ظهر من ملامح الخشونة والقسوة فى الشخصيات النسائية مثل “شهرزاد” حيث تحمل الأنوثة والرقة ومشاعرها الفياضة وأيضا شخصية “الغانية” فى مسرحية “السلطان الحائر” وشخصية “براكساجورا” فى مسرحية “براكسا”. إن تميز هذه الشخصيات النسائية بقدرتهن على اتخاذ القرار وإبداء الرأى لم يقلل من شخصياته وقيمتها، ذلك أن شخصياته لم تحرم ما تتمتع به الشخصية الإنسانية من مشاعر الرقة وفيض الأنوثة والحب مما جعلهن شخصيات باقية خالدة. سمة أخرى تتحقق عند شخصيات “توفيق الحكيم” النسائية ألا وهى أن النساء يدلين فى بعض الأحيان بآراء لا تتفق مع قدراتهن وطبائعهن وما يتوقع منهن الجمهور مما أدى ببعض النقاد إلى وصفهن بأنهن أبواق لآراء المؤلف وليس لهن الرأى الحر المستقل. إن “توفيق الحكيم” بذلك يكون قد قدم صورا ونماذج عديدة لشخصية المرأة من خلال بعض مسرحياته، ولعله فى ذلك أراد أن يوضح ما أُثِيرَ حول عداوته للمرأة، ذلك أنه كان من المناهضين لحركة تحرير المرأة التى نادى بها “قاسم أمين”، إلا أنه رغم ذلك لم يدعو إلى أن تمكث المرأة فى المنزل وتحترم حقها فى التعليم والثقافة، ولكنه حدد أن كل هذه الأمور لا يرفضها ولكنه يبدى تخوفه من أن يؤدى تيار الحياة العصرية إلى جرف المرأة بعيدا عن واجبها الأسمى الذى حدده “الحكيم” فى تربية الأولاد ورعاية الأسرة. وعليه نستطيع القول أن “الحكيم” لم يكن كارها لهذه النوعية من النساء اللائى يحفظن أسرهن ولكن كراهيته وجهت إلى المرأة المتحررة كما اتضح فى مسرحياته “المرأة الجديدة” و”مصير صرصار” إذ أعلن “الحكيم” فى كتابه المعنون بعنوان “حمارى قال لى” عن عداوته لهذه النوعية من المرأة التى تنسى واجباتها وتريد أن تتخطى حدود المشاركة إلى حد السيطرة على الرجل وتحويله إلى تابع لها. وربما تكون البيئة التى نشأ فيها “الحكيم” هى السبب فى هذه التكوينة النفسية”.
توفيق الحكيم ونجيب محفوظ
لقاء مع توفيق الحكيم
مسرحية شمس النهار