9 مارس، 2024 10:34 م
Search
Close this search box.

تهشيم الصنم في رواية “بجعات برّية

Facebook
Twitter
LinkedIn

تهشيم الصنم في رواية “بجعات برّية
دراما الصين في حياة نساءٍ ثلاث
1909 ـ 1978”
أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي

الكاتبة يونغ تشانغ، ولادة الصين عام 1952 وأول شخص من جمهورية الصين الشعبية حاصل على شهادة دكتوراه من جامعة بريطانية عام 1982، وريثة عهود وأحداث وتغيرات سياسية واجتماعية وفكرية عاصفة شهدها بلدها الأم، تجسد تلك التحولات في بانوراما سردية تربط بين حياة الجدة والابنة والحفيدة، ورغم أن صوت الحفيدة هو صوت الراوي على مدى فصول الرواية إلا أن والدتها هي الشخصية المحورية التي تعمل على ربط مسار النص ما بين الماضي، البعيد والقريب، والحاضر، ليس لأنها مصدر أغلب المعلومات عبر ستين ساعة من التسجيلات الصوتية فحسب، إنما تمثل الجيل الثوري الذي شارك بصنع أهم تحول آيدلوجي في تأريخ الصين الحديث، وذات الأمر بالنسبة للوالد، أحد مسؤولي الحزب الشيوعي الحاكم، وأحد ضحاياه كذلك، مثله مثل عشرات وربما مئات الألوف في عهد ماو تسي تونغ.
قد يخطر في ذهن القارئ أنه كان من الأنسب لو بدأت الكاتبة ملحمتها الروائية منذ سيطرة الشيوعيين على أرجاء الصين مترامية الأطراف عام 1949، وتعمل على تقديم وتأخير الأحداث زمنيًا ضمن لعبة سردية تستدعي تنقلات الذاكرة عبر السنين والعقود، لكن احتشاد عشرات الشخصيات وتراكم الأحداث حال دون ذلك تقنيًا وألجأ السرد إلى الأسلوب الكلاسيكي في سبر غور التأريخ العائلي المتشعب ما بين سقوط الإمبراطورية عام 1911 وتمزق البلاد في لجة صراعات أسياد الحرب والاحتلال الياباني والروسي والحشود الأمريكية وسلطة الكومنتانغ.
“قاومت في اللا وعي فكرة الكتابة، فلم أكن قادرة على الغوص في ذاكرتي…
عمّق تأليف “بجعات برية” مشاعري تجاه الصين، فبعد أن تخلصتُ من الماضي لم أعد أريد أن أنسى كل ما يذّكرني به” ص 14، 20
تحرير الذات من زنزانة الاعتقال (البطريريكية) ومصالحة الوطن بكل أوجاعه ونكباته المرتحلة من جيلٍ لآخر تمت عبر الكتابة الكاشفة عن المسكوت عنه في تلك البلاد التي عانت من العزلة عن العالم طويلًا، فصارت لغزًا عصيًا على الفهم جراء السياسية الانغلاقية للحكم الشمولي الذي استمر عقودًا حتى وفاة ماو سنة 1976، عندها شهدت الصين بعض الانفتاح لتتحول البلاد إلى ما هي عليه اليوم، وأطلق عنان الذاكرة للتجوال بين أطلال الزمن الغارب والمنكتم على حكايات يسّطرها النص تباعًا، ابتداءً من عهدٍ تسلط أسياد الحرب واقتناء الجواري، كانت الجدة إحداهنّ في مطلع شبابها لقاء حصول والدها على وظيفة أمنية تمده بالامتيازات والثروة، والجارية حسب الأعراف الصينية في ذلك الوقت أرفع منزلة من العشيقة وأقل من الزوجة سيدة المنزل، وصاحبة المكانة الاجتماعية المرموقة، كانت الأم ثمرة ذلك الارتباط الذي لم يدم طويلًا، فتزوجت (الجدة) من طبيب معروف تنازل عن ثروته لأبنائه ليبدأ حياة جديدة مع امرأة شابة تصغره بعقود ويعكف على تربية ابنتها معها، تلك الابنة وجدت نفسها على مفترق طرق بين فكرين متناقضين ومتصارعين، فاختارت الشيوعية رغم أنها من طبقة برحوازية إلى حدٍ ما، وهذا ما ظل يلاحق سجلها النضالي عند كل حملة تصفية جديدة ينادي بها ماو تحت هذا المسمى (الشعار) وذاك، رغم اقترانها بأحد الأعضاء البارزين في الحزب على مستوى الإقليم، الرجل المتعصب لمبادئه، متغاضيًا عن كل التجاوزات التي يجد أن لا بد منها في سبيل بناء مجتمع يجسد أفكار ورؤى كارل ماركس، لكن “ماركس ليس ماركسيًا” مقولة لكارل ماركس ذاته، تتنقل في ذهن القارئ من صفحة لأخرى وكلما أخذته الدهشة من سياسات ماو المسابقة كل شطحة خيال، ولولا المقدمة التمهيدية للأحداث التي جاءت في صدر الرواية من قبَل الكاتبة لأخذنا الظن أن تلك الممارسات (الشطحات) هي من وحي الخيال كنوع من الكوميديا السوداء أو الفنتازيا التي يتبناها بعض الكتّاب لإضفاء ظلال متباينة الغمقة الرمادية على اللوحة (السردية) كي تكسبها وهجًا وعمقًا أقوى يشيان بدلالات فنية متعددة لدى المتلقي، ليس أكثرها غرابة “المكابدة ستجعلك شيوعيًا أفضل”، “النساء المقتدرات يستطعن إعداد وجبة بلا طعام”، “دمروا أولًا والبناء سيتكفل بنفسه”، و”الاعتناء بالأزهار والعشب عمل اقطاعي وبرجوازي”…
تقتنص الكاتبة تفاصيل كثيرة من الحقبة (الماوية) وتداعياتها الأخلاقية والنفسية والثقافية على التركيبة الاجتماعية داخل البلد المحكوم بقبضة الجنون من قبل (الإله) وزوجته، الممثلة الفاشلة، المتدخلة بكل شؤون الحكم وفق المواقف والأحقاد الشخصية، دون أن يكون أي شخص بمأمن عن التقلب المزاجي الذي أدى إلى مجاعة كبرى استشرت في البلاد على أثر حلم/ وهم “القفزة الكبرى” متمثلة بتصنيع أكبر كمية من الفولاذ، يشترك فيه الجميع دون استثناء، المسؤول والفلاح والطالب والطبيب وربات البيوت… حتى فرغت البيوت من طناجر الطبخ التي تستخدم كوقود إنتاجي، وما ضرورتها مادام الطبخ ممنوع في المنازل وعلى الجميع تناول الطعام في مطاعم عامة تعمل بنظام القسائم، إلا أن قسائم كل مسؤول، حسب درجته الحزبية، تختلف عن قسائم العامة، وكذلك حقه في استخدام الماء الساخن والسيارة الحكومية دون سواه من أفراد عائلته التي عليه أن ينتبه جيدًا، متوخيًا أقصى درجات الحذر، كي لا يتم تلويث الإسم بوصمة عار (سوداء) تستلب من “أنصار الطريق الرأسمالي” مستقبلهم وتشتتهم بين مزارع الشقاء البعيدة والمنعزلة خلف الجبال.
كل ذلك الرصد من الصعب الاسترسال فيه دون تشتت وبعيداً عن هاجس الملل الحزين الذي يستشعر به القاريء في بطون النص، لكن الأسلوب الذي اتبعته الساردة استطاع التملص من ذلك المأزق الذي يهابه الكاتب كلما بدأ في كتابة نص جديد، علماً أن هذه الرواية هي العمل الأول لأستاذة اللسانيات الجامعية، قبل ذلك كانت تخشى الكتابة لئلا تتعرض لمزيد من العقوبات التنديدية، كانت تنظم مقاطع شعرية وتحفظها وهي تعمل في زراعة الرز أو في قطاع توزيع الكهرباء أو كطبية حافية حسب توجيهات الحزب في عموم البلاد دون الاعتماد على أي تخصص دراسي، بعد أن عُلقت الدراسة في كافة المراحل الأكاديمية، ذات مرة تجرأت وكتبت بعض الأبيات الوجدانية في ورقة، سارعت برميها قبل اقتحام “المتمردين” المنزل، أستبدِلوا بعد ذلك بـ “الحرس الأحمر”، لأخذ الأب أو الأم إلى اجتماعات تنديدية خلال “الثورة الثقافية” التي بدأت أواسط الستينات، ومن ثم إلى المعتقل أو منافِ العمل (الإصلاحية).
“كنت أحمل السلة الثقيلة على ظهري، وأزحف بشق النفس… وحين وصلت إلى الحقل كنت أرى الفلاحات يفرغن حمولتهن بمهارة… كنت أحاول نزع السلة، أخرجت ذراعيّ اليمنى من حزامها، وفجأة مالت السلة ميلاً حاداً إلى اليسار، آخذة كتفي اليسرى معها، سقطتُ على الأرض وسط السماد… و كانت المأساة جزءاً من”إصلاح الفكر نظرياً”، كان ينبغي التلذذ بها لأنها تقرّب المرء من أن يصبح إنساناً جديداً أكثر شبهاً بالفلاحين”. ص 461
ذاكرة مخضبة بالحزن والألم والخوف والنقمة الخرساء، يستوقفها مليًا مرض الأم في أحد معسكرات الاعتقال، موت الجدة، وتعرض الوالد لأكثر من لوثة جنون ثم وفاته عام 75، ولولا جلد الأم ومثابرتها من أجل تنقية سيرته الحزبية لضاع مستقبل أبنائها ولمّا استطاعت الكاتبة السفر في منحة دراسية وبالتالي قراءتنا لهذه الرواية التي عرّفتنا على الصين الحقيقية، عبر شخصيات من أجيال مختلفة وانتماءات اجتماعية وعقائدية ومكانية متنوعة، لعلّ ماو ذاته لم يكن يدرك عنها شيئًا، فالمهم لدى الإله الطاعة والالتزام بطقوس عبادته، المتغيرة من حين لآخر كي تستمر آلة الخوف في الحصاد والغربلة وعلى نحو غير متوقع، فليس بغريبٍ، على سبيل المثال، أن يجتمع مسؤولو الأمس مع من مٌنِحوا مناصبهم الحزبية في معتقل عملٍ واحد.
“لم يُرد لأبي اعتباره ولم يُعطَ عملاً، بخلاف معظم زملائه السابقين… كانت المشكلة أنه انتقد ماو بالإسم، الفريق الذي حقق معه كان متعاطفاً، وحاول أن يعزو بعض ما قاله ضد ماو إلى مرضه العقلي، ولكن الفريق اصطدام بمعارضة شديدة من السلطات العليا التي كانت تريد إدانته إدانة قوية، كان العديد من زملاء أبي متعاطفين معه، بل معجبين به، ولكن عليهم أن يفكروا في سلامة رقابهم”. ص 569
من التساؤلات التي تطرحها الرواية، معنى المواطنة في بلد شمولي لا تخضع سياسة نظامه لأي منطق عقلاني، هل الانتماء للحزب الواحد كافٍ لذلك، هل النضال من أجله منذ بواكير الشباب وقبل استلامه السلطة كفيل باكتساب حقوقها كاملة كي تحفظ للشخص وجوده الإنساني دون أن يلجأ للبحث عن ذلك الوجود في (الوطن البديل)؟
إشكالية تختلف باختلاف الظروف والحقب الزمنية والأنظمة والأمكنة، لكنها تحمل ذات المضمون في جوهرها، تتجدد مع كل طغيان يتخذ من العقيدة، سماوية كانت أم وضعية، وسيلة للقهر والاستعباد والتهميش، للإقصاء المادي والمعنوي، لذا جاءت رواية “بجعات برّية” مثل صرخة تتناثر أصداؤها في وجدان كل قارئ مغترب عن وطنه، وإن لم يجتَز حدوده، استطاع وعيه الذاتي تهشيم كل صنمٍ استحوذ على حريته في كهنوت الظلمة الفكرية المتوارثة منذ عقود أو قرون.
“بدأت أدرك إن ماو هو المسؤول في الحقيقة عن “الثورة الثقافية”، ولكني، مع ذلك، لم أحكم عليه صراحةً يالإدانة، ولا حتى في ذهني، كان من الصعب جداً تدمير إله! ولكني كنت ناضجة نفسياً للكفر به” ص 557
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
14 ـ 2 ـ 2021 عمّان

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب