26 ديسمبر، 2024 3:46 م

تنشئة الأطفال في القرن 21.. الانتماء الأسري أساس لطفل سوي

تنشئة الأطفال في القرن 21.. الانتماء الأسري أساس لطفل سوي

خاص: قراءة- سماح عادل

في كتاب (تنشئة الأطفال في القرن الحادي والعشرين- علم الصحة النفسية للأطفال) تأليف “شارون كيه هول” ترجمة “أحمد الشيهي” اهتمام بالصحة النفسية للأطفال، واعتبارها أمرا يجب الانتباه له مثل الصحة البدنية، إن غرض الكتاب توضيح أن إقامة علاقات صحية مع الأطفال الموجودين في حياتنا تساعدهم على أن يصيروا أناسًا أصحَّاء نفسيٍّا.

تنشئة صحية..

يؤكد الكتاب منذ البداية أن تنشئة أطفال أصحاء هي غايتنا، ولكن هناك نوعين من الصحة ينبغي لنا الاهتمام بهما، ألا وهما: الصحة البدنية والصحة النفسية. غير أن تعزيز الصحة نفسية للأطفال يحظى بتقدير أقل بين الناس وبينما قد يعلم معظم الآباء والأمهات أن الأطفال الصغار بحاجة إلى ما يقدمونه لهم من رعاية بدنية، يهملون الاهتمام بالصحة النفسية. إن العلاقات والروابط العاطفية بين الآباء والأطفال تمثل القاعدة التي تقام عليها الصحة النفسية للأطفال وتعني لبنات البناء الأساسية هذه أن البالغين يساعدون الأطفال في التطور حتى يصيروا آباء وأمهات ومعلمين وقادة للمجتمع في المستقبل، فالصحة النفسية تسهم في تشكيل مستقبلهم ومستقبل عالمنا. والمجتمعات القوية تعول على أفراد يتميزون بالفاعلية والانتماء والالتزام، ويدركون أن العلاقات هي سبيل التقدم، وأن مسئولية المستقبل تبدأ بالفرد.

أن للتنشئة والرعاية المبكرة للوصول إلى الصحة النفسية أهمية كبيرة، فالتطور المعرفي للأطفال يبدأ منذ الولادة ويعتمد بدرجة بالغة على الاستجابات الإيجابية لمقدمي الرعاية البالغين. وتشكل الصلات المتبادلة بين مقدمي الرعاية والأطفال الأساس لبيئة التعلم الأولى. عادة ما يطلَق على روابط الاتصال المبكرة “التعلق” الذي يعني ببساطة أن مجموعة من السلوكيات تنشأ بين الأطفال الرضع ومقدمي الرعاية وتتنبأ بتطور الأطفال، إذ تَحدث تفاعلات بين هؤلاء الأطفال الرضع ومقدمي الرعاية ممن تجمعهم رابطة نفسية جيدة من شأنها تعزيز الشعور بالراحة واستعداد الطفل لاستكشاف عالمه.

وقد اكتشف باحثون آخرون أن فكرة وجود مقدم رعاية واحد أساسي، عادة ما تكون الأم، يعزز كافة جوانب النمو، هي فكرة معادية للنساء أو عنصرية أو مضللة. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة وفي أوساط العديد من الأسر الأمريكية ذات الأصول الأفريقية، من الممكن أن يكون هناك العديد من مقدمي الرعاية الأساسيين، وعادة ما تقع على عاتق الأشقاء والأقارب الآخرين مسئولية كبرى لرعاية الأطفال الرضع الصغار، حيث يمكن اعتبار الصلات بين هؤلاء الأطفال الرضع وجميع مقدمي الرعاية مظاهر تعلق صحية.

التحفيز المعرفي والاجتماعي..

إن التحفيز المعرفي والاجتماعي الجيد في المنزل وفي مراكز رعاية الأطفال يرسخ العديد من العناصر الأساسية للتطور اللاحق لدى الأطفال. سيحقق الأطفال ممن لديهم خبرات قوية عن المهارات التعليمية الخاصة بمرحلة الطفولة المبكرة نجاحا في المدرسة، فالأطفال المهيئون للتعامل مع موضوعات القراءة والمسائل الحسابية بتركيز وبسلوك لائق اجتماعيٍا، سيكونون من ألمع الطلاب في الصف الدراسي.

يتعلم الأطفال في سنواتهم الأولى في المدارس مهارات معقدة على مدار فترة زمنية قصيرة إلى حد ما، وعلى الرغم من أن سنواتهم الابتدائية تتراوح عادة بين ست سنوات وسبع فقط من حياتهم، يتطور نموهم المعرفي من مرحلة التعرف المبدئي على الحروف والأرقام إلى قدرتهم على التعامل معها لفهم العالم من حولهم. وعندما يصل الأطفال إلى الصف الثالث الابتدائي، فإنهم يجيدون مهارات التفكير المركب، مثل القراءة وحل المسائل الحسابية. وعندما يبلغ الأطفال الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فإنهم يكونون على استعداد للتعامل مع العمليات الأكثر تعقيدا للكلمات والأعداد التي تتضمن الأفكار المجردة، ويعني مصطلح الأفكار المجردة التفكيرَ في الكلمات والأعداد بصورة افتراضية.

عندما يكون الأطفال مستعدين للالتحاق بالمدرسة الإعدادية، التي يطلق عليها المرحلة المتوسطة، فإن قدرتهم الناشئة على استخدام الأفكار المجردة تساعدهم في التركيز على أكثر من مسألة وحل في وقت واحد، ومن شأن هذه القدرة المتزايدة أيضا المساهمة في تعزيز علاقاتهم الاجتماعية. تزداد قدرة الأطفال في هذه المرحلة على التفكير في وجهة نظر الآخر. وبحلول سن الثانية عشرة، تكون هذه التغييرات النوعية في ذاكرة الأطفال قد بدأت ويصاحبها اكتسابهم مهارات جديدة تساعدهم في تنظيم المعلومات واستذكارها. ويعني تزايد مهارات الذاكرة والقدرة على رؤية الموضوع من زاويتين مختلفتين أن التفكير النقدي لدى الأطفال يتطور.

وبحلول العام الثاني عشر تقريبا، من المتوقع أن يتمتع الأطفال بقدر أعلى من الاستقلالية عن المعلمين والوالدين فيما يتعلق بنموهم المعرفي، مقارنة بمستوى الاستقلالية المتوقع منهم أثناء سنوات الدراسة الابتدائية. وكالعادة، يحقق الأطفال الذين ينشئون في بيئات منزلية داعمة النجاح في المدرسة.

كيف تعزز مشاعر الانتماء الأُسري؟..

إن إرساء مبادئ الأخذ والعطاء في العلاقات الأسرية يعد مؤشرا للمسئولية الشخصية والعلاقات الإيجابية في الحياة لاحقا، فالأطفال الذين يشاركون في نجاح الأسرة من خلال القيام بالمهام المنزلية أو من خلال المساعدة في التخطيط لنشاط ترفيهي، يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من الأسرة. ومن الوسائل البسيطة الأخرى التي تسهم في تعزيز شعور الطفل بالانتماء للأسرة التواصل بشكل فعال مع الأطفال، وتحديد التوقعات والمسئوليات المنتظرة منهم بشكل واضح، واستغلال دفء العلاقات في نقل هذه التوقعات إليهم.

كما أن الأطفال الذين يشعرون أنهم ينتمون إلى أسرة ناجحة يتكون بداخلهم شعور بالذات، من شأنه مساعدتهم في البيئات المهمة الأخرى كالبيئة المدرسية، ومن ثَمَّ فإن الأساس الأسري المتين الذي يتضمن الدفء الأسري والحدود أمر يمكن تحقيقه. وهذا هو المفهوم الذي أطلق عليه “الانتماء”.

يدرك علماء النفس أنه عند وصول الأطفال إلى مرحلة البلوغ أو سنوات المراهقة، يكون لديهم حس أسري يمكن أن يحصنهم من اتخاذ بعض القرارات السيئة التي تتعلق على سبيل المثال بالتدخين وتعاطي المخدرات والممارسات الجنسية. تُعد السلوكيات المحفوفة بالمخاطر هذه أمرًا من الأمور التي على المراهقين التغلب عليها، ربما بصفة يومية، فالترابط الأسري يشبه التحصين الذي يؤدي إلى تعزيز الإيجابيات وتفادي السلوكيات التي قد تعرض الأطفال لتداعيات سيئة، والهدف من كل هذا أن يتمتع الأطفال بصحة نفسية جيدة. فإذا ما شعر الأطفال برابطة أو انتماء شخصي لأسرهم، فمن المؤكد أن شعورهم بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو أسُرهم سيتجسد في الارتقاء بسلوكياتهم وصحتهم النفسية.

بمقدور البالغين غرس حالة الانتماء الصحية هذه وتعزيزها بداية من السنوات الأولى في عمر الطفل، ومواصلة هذه العملية على مدار مراحل التطور. ويمكن تعليم الأطفال بعضَ المهارات الاجتماعية، مثل التفكير في اتخاذ القرارات والمساومة، بحيث يدركون مسئوليتهم الشخصية عن سلوكياتهم والتوقعات الأسرية الخاصة بكيفية تأثير سلوكياتهم في الآخرين. تساعد هذه المعرفة الأطفال في التفكير على نحو مستقل في غياب البالغين، كما تقدّم هذه الاستراتيجيات الفعالة نموذجا للأطفال عن الصبر والاهتمام.

العلاقات الاجتماعية..

إن العلاقات الاجتماعية المبكرة في الأسرة تزود الأطفال بمعلومات عن التفاعلات الاجتماعية بوجه عام، كما تعمل هذه العلاقات المبكرة على مساعدة الأشخاص في الارتقاء بقدراتهم على التواصل وإنشاء علاقات مع الآخرين والمحافظة عليها، ويطلق على هذه المهارة كفاءة العلاقات الاجتماعية أو الكفاءة الاجتماعية، جدير بالذكر أن كفاءة العلاقات الاجتماعية هذه تضع الأطفال على طريق إيجابي لتحقيق النجاح المستقبلي في المدرسة والعمل، وعلى مدار مرحلة البلوغ أيضا.

يوفر الأقران والأصدقاء للأطفال فرصة للتفاعل على نحو أكثر تكافؤا منه في التفاعل مع الأشخاص البالغين في حياتهم. يدرك الأطفال أن الأشخاص البالغين يتمتعون بنفوذ أكبر في العلاقات القائمة بينهما، ولذلك، فإن العلاقات مع الأقران تجسد الخطوة الأولى في عملية إدراك الذات في العلاقات المتبادلة المتكافئة النفوذ. إن العلاقة الأولى التي تنشأ بين الآباء والأبناء تقدم أطرا عامة لكافة العلاقات التي تنشأ على مدار حياة الفرد، ورغم أننا ندرك إمكانية تغير هذه الأطر نتيجة لعدة عوامل، يتفق علماء النفس على أن النموذج السلوكي الذي يحاكيه الأطفال للتعامل مع الآخرين يبدأ عند الآباء.

يشير مصطلح “الكفاءة الاجتماعية” إلى أن الأطفال لديهم مجموعة من المهارات التي تعمل على تيسير تفاعلاتهم مع الآخرين، بحيث ترتكز علاقاتهم على أساس متين ومباشر للتواصل يعكس الاهتمام بالنفس وبالآخرين، وتشير هذه الكفاءة في كثير من الأحيان إلى أن الأطفال يتمتعون على الأرجح بتقدير ذاتي كبير وأقل عرضة للإصابة بأعراض الإحباط أو القلق، علاوة على تمتعهم بمستوى أعلى من الرضا عن الحياة مقارنة بالأطفال الذين لا يتمتعون بهذه الكفاءة.

يستمتع الكثير من الأطفال بصحبة أقرانهم، وتُعد هذه العلاقات المبكرة مع الأقران تدريبا جيدا على العلاقات اللاحقة، بما في ذلك علاقات الصداقة والزواج. ويعتقد علماء النفس أن الطفل الذي يتمتع بالكفاءة الاجتماعية يسير على الطريق الصحيح للصحة النفسية الجيدة.

الإدراك الإيجابي للذات..

يعتقد الأطفال الذين يتمتعون بإدراك إيجابي للذات أنهم يمثلون قيمة للآخرين، وأنهم قادرون على إنجاز المهام، ويشار إلى الأطفال الذين يعتقدون أن لهم سيطرة على البيئة المحيطة بهم بعض الشيء بأنهم يملكون “قدرة على التأثير”. تعكس القدرة على التأثير ببساطة اعتقادا بأن ما نفعله له قيمة وباستطاعتنا التأثير في عالمنا الاجتماعي بغية تحقيق النتائج المرجوة. وتتميز مثل هذه النظرة الإيجابية للذات بأنها عامة بطبيعتها، ولكن هناك بعض مجالات التطور التي يشعر الأطفال أنهم أكثر كفاءة بها عن غيرها.

القيم..

يبعث الآباء برسائل يومية إلى أطفالهم حول القيم التي يؤمنون بها، ويكتسب الأبناء قيم الآباء من خلال محاكاة السلوك والتفكير المنطقي والتوجيه المباشر. ساد اعتقاد تاريخي في علم النفس يشير إلى أن الوالد الحازم أو الوالد الذي يستخدم الود والمنطق في التعامل مع أبنائه يرجح أن يتحلى أبناؤه بنفس نسق القيم الذي يؤمن به. كما ظهرت في الوقت الحالي نظريات أكثر تعقيدا حول الطرق التي يجري من خلالها نقل القيم، ولكن تؤكد الأبحاث على الأهمية الشديدة للتعامل الودود مع الأبناء. من المحتمل أن يؤثر المعلمون وقادة المجتمع والأقارب الآخرون إيجابيا في تطور القيم الخاصة بالأطفال.

وفي النهاية إن السياقات المتعددة للمنزل والمدرسة والمجتمعات هي أماكن يحدث بها تطور الأطفال، وفي داخل بيئات التعليم هذه، يتضح أن هويات الأطفال المعرفية والاجتماعية والسياسية الأكبر مهمة للصحة النفسية الجيدة للأطفال. إن الصحة النفسية الجيدة للأطفال تعطينا الأمل في بناء مجتمعات أفضل للجميع في المستقبل، فتطور الأطفال يعتمد على التفاعلات مع الأشخاص البالغين والأطفال الآخرين، وهو ما يعزز الصحة النفسية الجيدة.

إن الإشكاليات العالمية تؤثر على هذا التطور، ونحن في حاجة إلى أفراد بالغين يحرصون على التسامح في وقتنا الحاضر أكثر من أي وقت مضى. إن القرن الحادي والعشرين حافل بالنزاعات وثمة افتقاد واضح لقيمة التسامح بين الناس المتحاربين في كافة أنحاء العالم، وهذا يفرض على الأشخاص البالغين في المجتمع الحر، بل وربما حول العالم في المجتمعات الأقل حرية، أن يعملوا على الارتقاء بتطور الأطفال في جميع هذه المجالات المهمة. وتعتمد الصحة النفسية الجيدة للأطفال على الأشخاص البالغين الذين يبحثون عن التسامح والعدالة للجميع. علينا ألا نلقيَ بهذا العبء على أطفالنا دون أن نزوِّدهم بوسائل تعمل ک “منارات ودروع للقِيَم”.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة