6 أبريل، 2024 11:20 م
Search
Close this search box.

تكوين العرب السياسي

Facebook
Twitter
LinkedIn

هذا الكتاب يحمل غلافُه أكثرَ العناوين إجمالاً لما قد تحتويه صفحاته من أفكار، فالأنصاري يناقش موضوعًا-تكوين العرب السياسي- يُسهِمُ في صنع آخر-مغزى الدولة القطرية- ويسعى بالنهاية الأنصاريُ لـ-إعادة فهم الواقع العربي-.
الأنصاري يُعارض التصور الماركسي، الذي يُحيل للأسباب الاقتصادية وصراع الطبقات جميعَ أحوال وقضايا المجتمع، ويبدو أنه خصَّ الفكر الماركسي -دون غيره- لما له من تأثير على فكر نخبة المثقفين القوميين العرب.

يقول الأنصاريُ:

“إنَّ ما “خرجَ” عليه هذا الكتاب هو التصور الماركسي للعامل الاقتصادي من حيث هو صراع طبقي…. هذه نظرية لا تنطبق ببساطة على واقع التاريخ العربي، الذي يتصف بخصوصيته في كيفية وعمل وتأثير العامل الاقتصادي“.

إذًا، فبحسب الأنصاري هناك ثمة عوامل وأسباب أخرى تُسهم في تكوين فكر العرب السياسي:

“إن القاعدة والبُنْيَة السوسيولوجية المجتمعية العامة، التي تداخلت فيها عوامل المجتمع بالاقتصاد، بالتاريخ، بالجغرافيا، بالسياسة، هي التي تمثل-في خصوصيتها- البُنْية “التحتيَّة” الأساسية المولِّدَة لمختلف النظم والحركات والتيارات والأفكار وسائر البُنى “الفوقيّة””.

ولدراسة المجتمع العربي، يتخذ الأنصاريُ من فكر ابن خلدون الاجتماعي “مُنطلقًا نبدأ به، لا كنهاية نتوقف عندها“، منتقدًا بذلك الخِطابَين العربيين السياسييَن (الإسلامي التُراثي والايديولوجي المعاصر)، إذ كلا الخطابين لا يُلامسان الواقع العربي المعاصر، فالأول مازال في مثالياته يبحث عن حلول من التاريخ، والآخر اقتصر على نقل مناهج وحلول من واقعٍ آخر، وبيئة مُغايرة تمامًا لبيئتنا.

فيما يتعلق بالسياسة وإدارتها، يرى الأنصاري أن الإخفاق الحاصل في وقتنا الحاضر له جذوره التاريخية والاجتماعية والدينية والثقافية، التي تعود لمئات السنين.

إخفاق العرب-المتكرر-في السياسة تمثّل تاريخيًا في الصراع بين الفصائل القرشيّة، ثم بين أفرع الأسرتَين الأموية والعباسية، لتصل في كل مرَّة الدولةُ و معها المجتمع إلى نقطة الصفر، والبِدْء من جديد، حسب دورة ابن خلدون لعمر الدولة!

ويُلفت الأنصاري النظرَ إلى مفارقة عجيبة، وهي أنه في الوقت الذي كانت الدولة تعاني صراعًا أهليًا انتحاريًا في السياسة والسلطة، كان هناك بناء حضاري في الدين والعلم، والعمران والفكر، والثقافة والفنون، وتفسيرُ ذلك أن “الأمة -لا الدولة- هي التي أبدعَت حضارة الإسلام“.

الشخصية العربية، أو الهوية العربية كانت ومازالت هي الأخرى تعاني إزدواجية ثلاثية، يحدث بينها تناقض وتنافر، فالعربي المسلم له انتماءاتٌ ثلاث؛
١/ انتماء عام للعقيدة والحضارة.
٢/ انتماء مجتمعي متحدد القبيلة أو الطائفة أو المِحلة(المنطقة).
٣/ انتماء بحكم واقع الحال للكيانات السياسية القائمة.

ومن ناحية أخرى، كان الفكر السياسي الشرعي، يعاني تخلُفًا وقصورًا عن مواجهة التغيرات التي مرّت بها المجتمعات العربية، إذ أن الفكر السياسي الشرعي:
١/ في معظمه تبريرًا أو تنظيرًا أو رفضًا مثاليًا للأحكام السلطانية القائمة.
٢/ لم تظهر طروحاته إلا في وقت متأخر من بناء الدولة.
٣/ لم يكن تأسيسيًا وتنظيميًا بقدر ما كان وصفيًا.
٤/ أكثر فروع الفكر الإسلامي تواضعًا وأقلها غنى وخصبًا في النظرية والتطبيق.
ولقد أصبح معيار القبول الإسلامي-بحسب هذا الفكر السياسي الشرعي-لأي حكم أو سلطة حكم، هذا المعيار أصبح محصورًا في أمرَين؛

القدرة على منع الفتنة من الانتشار.
تطبيق الشريعة الإسلامية.

هناك جملة من الأسباب جعلت الدولة تواجه مأزق عدم الاستقرار في البلاد العربية، منها؛

الطبيعة التعددية الصراعية للعشائر والفرق في المجتمع العربي.
إنطلاقة الدولة الإسلامية من واقع “اللادولة” وواقع العشائر والقبائل المتعددة، حديثة العهد بالدين وبوحدة السياسة.
من ناحية أخرى، كانت الدولة الإسلامية تتوسع بسرعة وتحتك ببيئات ومؤثرات حضارية وسياسية متنوعة، مما أضاف لها مزيدًا من الأعباء والتحديات والمشكلات.

من الأفكار الجديدة -على الأقل بالنسبة لي- التي يطرحها الأنصاري في كتابه هذا هو دور الجغرافيا في خلق واقع التجزئة الذي تعيشه الأمة العربية، يقول الأنصاري:

“إن هذه القطيعة المكانية تتمثل في دور الفراغات والفواصل والحواجز الصحراوية الشاسعة الممتدة بين معظم الأقطار العربية في تقطيع وتجزئة المنطقة العربية عمرانيًا وسكانيًا، وبالتالي مجتمعيًا وسياسيًا في الماضي والحاضر“.

إن امتداد الصحاري العربية المتقطع، والذي تبلغ نسبته ٩٠٪ من مساحة الوطن العربي… إن هذا الامتداد هو “عامل التجزئة الأوّل والأكبر“.
ويلخص الأنصاري أثر الصحراء في أنها:
١/ منعت نشوء نسيح حياتي عضوي بدورة تفاعل واحدة ومتكاملة في المنطقة العربية لمجتمع موحَّد ولدولة موحدة ثابتة.
٢/ كانت الخلفية الجغرافية الطبيعية التي نشأت وفرّخت فيها التعدديات العشائرية والمذهبية والإقليمية المحلية المتباعِدة والمتنافرة.
٣/ هذه القطيعة ولّدَت انعكاسات وإفرازات تاريخية ومجتمعية.

هناك سؤال مهم، وهو؛ لماذا لم تَقُم دولة عربية موحدة في هذا العصر؟
وإجابة هذا السؤال تنبع من الداخل والعمق العربي، واقعيًا وتاريخيًا، “فالعرب -بحكم ما ذكرناه من أسباب- لم يُتَح لهم أن يخبروا حياة الدولة المستمرة، وأن يمارسوا بشكل متصل فن إدارتِها وقيادتها، كون حضورها في حياتهم ظاهرة متقطعة، وأحيانًا غائبة تمامًا”!

هناك، يُحيلنا المؤلف إلى فئة تبوأت منذ فترات طويلة في تاريخ الدولة في الإسلام مهمةَ القيادة، وهم “العناصر الرعوية الآسيوية الوافِدة” الذين طبعوا الدولة والبلاد العربية بطابعهم الخاص “الرعوي” ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا.

كانت المجتمعات العربية المدينية(نسبة إلى المدينة) هي أضعف المجتمعات العربية إذا ما قورِنَت بالريف والبادية، وهذا ما جعلها في حال تحتاج فيه إلى الحماية المستمرة من غيرها من العناصر الأخرى، سواء عناصر ريفية أو بدوية رعوية!

لقد وقعت الحواضر والمدن العربية ومجتمعاتها الأهلية والمدينية(غير البدوية وغير الريفية) تحت السيطرة الرعوية لقرون عدة، ولم تخرج عن سيطرتهم إلا بوجود القوة الأوروبية الاستعمارية في البلدان العربية!

عندما يتحدث الأنصاري عن القبائل الرعوية، فهو يشير إلى القبائل الآسيوية التركية، وهو ينتقد ابن خلدون لتجاهله-نوعًا ما- دورَ هذه القبائل في تكوين العرب السياسي، ويمتد-هذا التأثير-بحسب الأنصاري، ليصعد إلى هرم الدولة، فهو ينظر إلى الخلافة العثمانية أنها “قوة ذات منشأ وتنظيم سلطوي رعوي وقيم رعوية“، بخلاف دولة الخلافة الراشدة التي غلب عليها “الطابع والتوجه الحضري“.

يقول الأنصاري:

“أن قيام دولة قطرية في منطقة من الوطن العربي، يمثّل خطوة ملموسة باتجاه التوحيد بمقياس الواقع القائم قبل قيامها”!
وقد تبدو العبارة شاذة ضمن السياق القومي الوحدوي، بل ومرفوضة، إلا أن الأنصاري يوضح عبر عرض أمثلة تاريخية حديثة، بأن ما كان يُنقل ويُتكلَمُ به عن وحدة قومية عربية -من المحيط إلى الخليج- إبّان الدولة العثمانية لم يكن صحيحًا تمامًا، فلم يكن موجود سوى وحدة “هلامية” ضمن إطار الدولة الأكبر، بل ويقع بعض أجزاء الوطن العربي -بتعريفه الحالي- خارج نطاق هذه الدولة الجامِعة، مثل عُمان واليمن والمغرب، كما أن الأقطار العربية التي كانت تقع ضمن هذه الدولة الجامعة، لم يكن يجمعها وحدة سياسية ثقافية دينية واقعية، فالعراق مثلاً -بصفة العراق السياسية الحالية- لم يوجَد موحدًا وبهذا الاسم إلا بعد سقوط الدولة العثمانية، فقد كان واقعيًا وتاريخيًا مجرد ٣ مناطق رئيسة، لكل منها تكويناتها الثقافية والاجتماعية المتنافرة أحيانًا كثيرة، ويقع ضمن كل منطقة، كيانات أخرى أكثر صغرًا وأكثر تنافرًا لأسباب مجتمعية أو دينية أو اقتصادية أو غيرها، وينطبق المبدأ ذاته على سوريا الحالية، والتي قامت فيها الدولةُ القطرية على أنقاض ٤ دويلات طائفية!، كما يسري الكلام كذلك على اليمن، وليبيا والسعودية وغيرها من البلدان “القُطرية”… لذلك تبدو أهمية الدولة القطرية كخطوة مهمة لمنع التذري والتجزؤ أكثر ضمن نواحي البلدان العربية، وكمطلب أساسي لتأسيس الوحدة العربية الشاملة.

من جانب آخر، ينظر الأنصاري للدولة القطرية كمرحلة ودور تاريخي “توازي فيه مرحلة الإقطاع” التي تأسست في أوروبا، والتي مهدَّت لتطور المجتمعات الأوروبية نحو الوحدة القومية القائمة على منطق التشكيلات الاقتصادية-السياسية في العصر الحديث.
ستقوم هذه الدول القطرية -هكذا يُفترَض!-، كل في مجاله السياسي الجغرافي بتأسيس “تنمية قطرية” تمامًا كما قامت بذلك الإقطاعيات الأوروبية.

إذاً، فأبرز الخصائص المتشابهة بين النظامين الإقطاعي الأوروبي والكيان العربي القُطري هو أن كليهما مثّلا “الإطار العام لتحويل الولاء من القبيلة والطائفة والمحلة إلى “الكيان السياسي العام” وإلى السلطة العليا في هذا المكان“… وفي كلام الأنصاري هنا بالتحديد نظر فيما يتعلق بدور الدولة القطرية.

في نهاية كتابه، يستعرض الأنصاري ما تناوله سابقًا عبر “استخلاصات فكرية” ملخصًا الأفكار التي تناولها، وطارحًا أخرى بشكل سريع مثل؛
– وجود السلطة لا يعني وجود الدولة بالضرورة، وهذا ما ينطبق تمامًا على الدولة العربية القطرية التي مازالت مجرد “مشروع دولة“.
– لقيام ثورة ما، فلابد من وجود الدولة، وإلا فستعتبر “الثورة” مجرد حركة تمرد، إذ أن الثورة “تغيير سياسي عميق، يتطلب وجودَ “دولة” تقوم الأولى في إطارها“، ولفهم هذا المبدأ يضرب الأنصاري مثلاً بفشل مشروع “الوحدة” بين مصر- التي تحققت فيها أركان وشروط الدولة- وسوريا-التي كانت مجرد سلطة آنذاك-.
– قد يكون لتمسك الطبقة الحاكمة بالسلطة في الدولة العربية القطرية، ثمة وجهًا موضوعيًا!، غير “مسألة تعطش الحاكم العربي للسلطة”، وفي هذا لا تشكل الدولة القطرية انحرافًا عن المسار الذي سارت عليه بقية الدول في الشرق والغرب في مسارها نحو الديمقراطية.
– الحرية من خارج الدولة طوبى خادعة، وهذا يعكس الارتباط العضوي بين الدولة والحرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتاب: تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطْريّة- مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي.
المؤلف: د/محمد جابر الأنصاري
الدار: مركز دراسات الوحدة العربية ط١٩٩٥/٢.
عدد الصفحات: ٢٠٣

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب