9 مارس، 2024 6:24 م
Search
Close this search box.

تركيا والميثاق البلقاني لعام 1934 بعيون دبلوماسية عربية

Facebook
Twitter
LinkedIn

الكتاب الأحدث الرقم/23 لوالدي الحبيب الدكتور صبحي ناظم توفيق
“تركيا والميثاق البلقاني لعام 1934 بعيون دبلوماسية عربية”
عرض/ نور صبحي ناظم توفيق
بادئ ذي بدء أقرّ وأعترف بأني -أسوة بشقيقتَيَّ العزيزتَين سُنبُل وزينب- لستُ كاتبة مقالات أو باحثة، ولكني أخوض للمرة الأولى في حياتي هكذا مخاض لفرحتي بصدور الكتاب/23 لوالدنا الحبيب والموسوم “تركيا والميثاق البلقاني لعام 1934 بعيون دبلوماسية عربية” بواقع (304) صفحات بوقائعه وحيثيّاته خلال السنوات (1930-1941)، وإغتباطنا لإنبثاقه إلى حيّز الوجود.
وها أنا أعرض نبذة عنه أمام ناظرَيّ المتابعين الكرام معتمدة كثيراً في إعدادي لهذا العرض على المقدّمة المفصّلة التي سردها السيد الوالد بالصفحات الأولى لكتابه.
ومثلما حال كتابه/22 الموسوم “مواقف تركيا من قضية فلسطين بعيون دبلوماسية عربية” فإن كتابه هذا ليس تأليفاً بل يحتضن بضع عشراتٍ من الوثائق التي تُعَدّ أهمّ مرتكزات الدراسات التأريخية بمختلف حُقَبِها، وهي الأساس في تحليل أحداثها أو إعادة البحث في مفاصلها والتعمّق في وقائعها، ولا عَجَبَ أن أُطلِقَت بحقها المقولة “لا تأريخ من دون وثائق”، إذْ لا يُعقَل أن تُكتَب حُقبة منه دون اللجوء إلى معلومات دقيقة يُستَحسَن كونُها غير مُنحازة، فالتأريخ -بحد ذاته- ليس عِلماً قائماً فحسب، بل أنه “علم العلوم” يتعامل مع الماضي إن كان قديماً أو قريباً، ويتطلّب وُلوجُه مصادر ومراجع ذات شأن، ومن المُسَلَّم به أن تأتي “الوثيقة” على رأس مُعتَمَداتِها.
وتكمن مصداقية الوثائق أو جزئيّـتها أو تلك المشكوكة في مضامينها التي تُقرّبها أو تُبعِدُها عن مشروعيّتِها ونهوج إعدادها قبل إضفاء صفة المرجعيّة بما لا يقبل الظن بها، لأن مُعِدّ “الوثيقة” إنسان لا بدّ أن يتأثر بعوامل، بعضها تكوينيّ وخَلقيّ، وآخر سياسي وثالث عِرقِي أو مُعتَقَديّ، ورابع مشاعريّ يصطفّ مع تكوينه وبصيرته ورجاحة عقله ومستوى ثقافته ومجتمعه وصولاً لمكامن شخصيّته وأخلاقياته وطبائعه وعاداته، ناهيك عن عيشه أو معايشته في خضمّ أحداث ساخنة مشوبة بالمخاطر، أو وسط أجواء مُريحة تعكس عليه -من حيث يدري أو لا يدري- أحاسيسَ ومنعطفات وإرهاصات وأحاسيس قد تجعل كتاباته بمَنأىً عن النهج المُفتَرَض إتباعه.
من أين أتت الوثائق؟؟
ولإهتمام والدي بالوثائق، فلربما شاء حُسنُ قَدَره أن يعيّنه العالم الجليل والمؤرّخ ذائع الصيت “الأستاذ الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف” -وهو الأستاذ المشرف على أطروحته للدكتوراه التي نالها بعرق جبينه عام 1995- بصفة عضو لدى “اللجنة الوثائقية الدائمية” بمؤسسة “بيت الحكمة” الموقّر ببغداد عام (1997). ولإلمامه باللغة التركية ومفرداتها فقد أناط له مَهَمَّة تجميع المئات من التقارير الرسمية -الدَورية، الشهرية، والطارئة- التي أعَدَّها سفراء “العراق المَلَكي” المعتمَدون لدى “آنقرة” وقناصله في “إستانبول” عن مجمَل الأوضاع السائدة في “تركيا” منذ إنبثاق العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتَين في أواخر العشرينيات من القرن المُنصَرم ولغاية عام (1957)، والتي رفعوها إلى وزارة الخارجية العراقية والتي بدورها عرضت الأهم أمام أنظار ملوك العراق وكبار مسؤولي الدولة في غضون ما يربو على ربع قرن.
هذه التقارير كانت محفوظةً لدى البلاط الملكي العراقي، والذي نَهَبَ الرُعاع وأولاد الشوارع آثاثَه منذ صبيحة إنقلاب (14/تموز/1958)، ولكن خزائن وثائقه الأثمن لم تستجلب أنظار الجَهَلة، فظلّت مُهمَلة في قبو مبناه المهجور طيلة عقد الستينيّات حتى تأسّست “الدار الوطنية للكتب والوثائق” وبادرت إلى وضعها إلى جانب “آرشيف دولة العراق”.
وثائق الكتاب
أما ما يخص الوثائق التي أضحت بين أيدينا -وقد نشرها “مركز شرقيات للبحوث”، وبمبادرة كريمة من رئيسه الأستاذ الكبير “محمد زاهد كول”- فإنها لا تعدو سوى جزء يسير من ذلك المجموع، ولكن أهمّيتها تكمن بإحتوائها مواضيع وعناوين وأحداثاً ووقائعَ تَطَلَّبَ الظَرف في حينه أن تعرضها وزارة الخارجية العراقية بأسبقية عالية أمام أنظار أعلى المراجع لدى دولة العراق أوانئذٍ، حيث يُفتَرَض أن تكون محتوياتها من الأهمية بحيث يُحتَمَل بموجبها أن إتخذت الدولة العراقية قرارات محددة سُيِّرَت بموجبها أو وُجِّهَت سياستها مع “تركيا” بشكل خاص، ولربما حيال دول الجوار والمنطقة ذات المصالح المشتركة أو المتخالفة.
هذه الوثائق أعدّها دبلوماسيون شغلوا إمّا منصب “سفير” أو “قائم بالأعمال” أو “قنصل عام” قبل أن يبعثوها بالبريد الدبلوماسي المُغلَق، وضمَّنوها بمعلومات رصينة لم تكن مجرد آراء شخصية عابرة أو أقاويل ذات رؤى ساذجة أزاء أحداث بسيطة، بل كانوا يرفعونها إلى وزارة مسؤولة عن دبلوماسية الدولة، فتُمَحّصها قبل أن تعرضها على الديوان الملَكي ورئاسة مجلس الوزراء ووزارات ذات شأن بالمحتويات والأحداث، والتي لا يُعقَل أن تُفرَشَ أمامها سوى القضايا ذات الحساسية العالية.
يبلغ المجموع الكلّي لصفحات الوثائق التي إستطاع والدي ترتيبها -وسط ملفّات عديدة وفقاً لتسلسلها الزمني- (2719) صفحة إستنسخَها من الوثائق الأصل في خزائن “الدار الوطنية للكتب والوثائق العراقية” خلال عامَي (1997-1998)، وتشتمل “كتباً رسمية، برقيات، تقارير شهرية ونصف شهرية وطارئة وخاصة”، ولكنه لم يعثر سوى على (63) وثيقة تخص عنوان هذا الكتاب أو تتعلّق به، وذلك من مجموع (861) وثيقة يضمّها المجموع الكلي للوثائق.
الكتاب الثاني لمركز شرقيات للبحوث
هذا الكتاب هو الثاني من نوعه الذي يصدّره “مركز شرقيات للبحوث” التركي الموقّر من مجموع (عشرة) كتب وثائقيات متسلسلات وفقاً لترتيب أزمانها وأحداثها منذ أواخر عقد العشرينيات ولغاية الخمسينيات من القرن العشرين، وسوف لن يكون الأخير بإذن الله، وأنه ثمرة أخرى تُضاف إلى ثمار هذا المركز التركيّ الذي يخدم بها تأريخ “تركيا” السياسي المعاصر لثلاثة عقود، بالإعتماد على وثائق تتضمَّن -من حيث الأساس- تقارير دبلوماسية رسمية -معظمها سرّية- وهي شهرية في بعضها وأخريات كلّ شهرَين أو ثلاثة أو أنها طارئة وعاجلة، وقد أعدّتها المفوضية أو السفارة العراقية في “آنقرة” والقنصلية العراقية العامة في “إستانبول” لتسلّط بها أضواءً على الأوضاع العامة التي كانت سائدة في “تركيا” خلال تلكم العقود… وهي بمعظمها موسومة بدرجات كتمان “سري” أو “سري للغاية” مرفوعة إلى وزارة الخارجية العراقية ومعروضة أمام أنظار الديوان الملكي ومجلس الوزراء ووزارة الدفاع وعدد من الوزارات العراقيّة ذات الشأن.
وما يخص “الميثاق البلقاني لعام 1934″ -موضوع بحثنا- فإن وثائقه لا تعدو سوى بضع عشرات من المجموع الكلّي الذي يبلغ المئات، كونها تسلّط ضوءاً على المواقف السياسية لـ”الجمهورية التركية” إلى جانب الأقطار البلقانية المتمثّلة بـ”اليونان، يوغوسلافيا، رومانيا” أزاء بعضها البعض، فضلاً عن المواقف المتعاكسة لجارتهم “بلغاريا” ومداخلات (خمس) دول عظمى هي:- “الإتحاد السوفييتي، إيطاليا، آلمانيا، بريطانيا، فرنسا” كلّ وفقاً لمصالحه وإستراتيجياته.
إنبثاق الميثاق البلقاني
ويبحث كتابنا هذا في شؤون “الميثاق البلقاني” المُبرَم يوم (29/شباط/1934) في “آثينا” عاصمة المملكة اليونانية، مشتمِلاً (أربع) دول، هي:- “تركيا، اليونان، رومانيا، ويوغسلافيا الإتحادية”، والتي إستهدفت حكوماتها -إضافة لمحاولة لـمّ شملها وتحقيق نوع من الصداقة والعلاقات الحسنة فيما بينها بعد قرون من العداء والخصام أثناء كونها من ممتلكات الدولة العثمانية- تشكيل جبهة موحدة أمام “آلمانيا النازية” العازمة على إهمال الشروط المهينة والمفروضة عليها إثر هزيمة “آلمانيا القيصرية” أمام “الحلفاء” لدى إنتهاء الحرب العظمى الأولى عام (1918)، وإستخفاف الزعيم النازي “آدولف هتلر” بمنظمة “عصبة الأمم” لكون الدول العظمى أضحت تتحكّم في مقدّراتها وقراراتها المجحِفة بحق الشعب الآلماني الذي إنتفض للتحدّي وإستنهض ليزيل الغبار المتراكم على جسده إثر تبوّء “هتلر” مستشارية “الرايخ الثالث” وفوزه الساحق بإنتخابات عام (1933).
أحداث سبقت الميثاق
في أواخر عام (1918) وضعت الحرب العظمى الأولى أوزارها بعد صراعات مريرة طالت (أربع) سنوات عُجاف من تأريخ البَشَرية المليء بإلإقتتال والدمار والخراب ومآسي الأيتام والأرامل والثكالى والمكلومين إلى جانب تفشّي الأمراض والأوبئة الفتاكة والصروفات الهائلة من الأموال وتراجع الإقتصادات والثقافات وكوارث تفكّك العائلات والمجتمعات وترسّخ العداءات بين الشعوب، فقد ظلّت على الساحة السياسية (سبع) دول عظمى منتصرات من مجموع (عشر) إمبراطوريات إقتحمت تلك الحرب التي كلّفت زهق أرواح عشرات الملايين من الأنفس وحوّلت مئات المدن العامرة إلى أنقاض دُفِنَت تحتها أجساد يانعة تزكم روائحها الأنوف.
مُحِيَت من قائمة الدول العظمى (إثنتان) منضَمّتان لصفوف “الِمحوَر”، إشتملت “السلطنة العثمانية الكبرى” و”إمبراطورية النمسا والمَجَر” فإستحوذ “الحلفاء” السبعة على ممتلكاتهما، فيما حوصرت “آلمانيا القيصرية” وأُجبِرَت على الإستسلام وجُرِّدَت من عموم أسلحة قواتها المسلّحة بلا قيد وشرط، وفَرَضَ عليها المنتصرون ما لذَّ لهم وطاب من شروط الإذلال والمهانة، مُجبِرينَها على دفع كلّ صرفيّات تلك الحرب العظمى وإعادة إعمار ما خُرِّبَ ودُمِّرَ وحُرِق في عموم العالم على نفقتها ومن أموال شعبها، وقد لعب قادة اليهود والصهاينة أدواراً مشهودة وخبيثة في ترتيب تلك الشروط، ما أرغم الشعب الآلماني أن يتهيّأ للتنازل عن معظم موازناته السنوية ويعيش على الفُتات طيلة عقود قادمات بقرارات دولية رتّبها قادة الدول العظمى المتحكّمين في منظمة “عُصبة الأمم” التي أسّسوها حسب مراميهم في “جنيف” عام (1919).
نهوض الآلمان
لم يكن الشعب الآلماني من ذلك الطراز الذي يتقبّل الظلم والجَور، فبعد قرارات “مؤتمر فرساي” (1919) تشكّلت خلايا في السرّ داعية الشعب الألماني للتوحّد وإعلاء العنصر الجرماني لمناهضة الهوان الواقع على كاهله وتحدّي الأعداء والخصوم الذين تسبّبوا في كوارثه والثأر منهم، وما لبثت في أوائل العشرينيات أن تحوّلت إلى “حزب العمال الوطنى الإشتراكي الآلماني” -الذي أُشتُهِرَ فيما بعد إختصاراً بـ”الحزب النازي”- ففرض وجوده على كل الوطن حتى حلّ عام (1933) ليفوز فوزاً ساحقاً في الإنتخابات العامة ويُكَلَّف زعيمه “آدولف هتلر” بتشكيل حكومة تَحَدٍّ مُعلَن حيال كل من فرض تلك الشروط بحق “آلمانيا” العظيمة التي باشرت بإعلاء رأس صرحها مجدداً ضاربة عرض الحائط كل القرارات الأممية المجحِفة، فعاد الإقتصاد إلى النهوض والمصانع العملاقة إلى الإنتاج، وحُدَت مستويات البطالة وقُضِيَت عليها في غضون سنتَين، ونُظِّمَ الجيش والقوات المسلّحة مجدّداً، وزُجَّت بأموال الدولة للإعمار فنهضت “آلمانيا” لتعود إلى سابق زهوّها عملاقة عظمى، فتهيّأت لإسترجاع كل شبر أُستُلِبَ منها في نهاية الحرب العظمى، وإستحضرت لإستثمار القوة المفرطة في الثأر والإنتقام لو لم تَفِد الدبلوماسية.
قلق البلقان من الآلمان
ولكن هذه الطموحات الآلمانية المشهودة سلبت الراحة النسبية التي لم تتمتع بها القارة الآوروبية سوى (خمس عشرة) عاماً. فوقتما حاول زعماء “الحلفاء” المنتصرون عرقلة العجلة الآلمانية من دون جدوى، فقد باشر قادة الدول الوسطى والصغرى -المغلوبة على أمورها- بتدبّر أحوالهم والنأي عن أخطار الدول العظمى كي لا تُقحَمَ شعوبهم في أتون خلافات تشعل حروباً جديدة أقسى وأَمَرّ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فأقدَموا على عقد تحالفات وإبرام مواثيق وتحقيق إتفاقيات تقارب البعض مع البعض عسى أن يشكّلوا جبهات متكاتفة قد تُردِع الكبار، فكان التخطيط لـ”الميثاق البلقاني” واحداً من تلك الأحلام الوردية التي تحقّقت على أرض الواقع عام (1934)، رغم أن رياح النصف الثاني من عقد الثلاثينيات سوف لا تأتي بما يشتهي السَفَنُ.
أضواء على المصطلحات
ورد العديد من تعريف المصطلحات في وثائق الكتاب، ولكن السيد الوالد قد نَوَّهَ في مقدّمته أن تلك التسميات ليست بالدقة التي ينصّ عليها القانون الدولي رغم كون القائمين بإعداد الوثائق الأصل دبلوماسيون يفترض أن يكونوا دقيقين بتعابيرهم وحريصين في كتاباتهم، إنما جاءت الألفاظ والمصطلحات متداخلة بعض المرات بين “حلف، تحالف، ميثاق، معاهدة، إتفاق، إتفاقية”، فيما وردت في مكاتبات أخرى ألفاظ “عقد، عهد، تعاقد”… لذلك وجب التنويه كي لا يتشبّث القارئ الكريم بمصطلحات القانون الدولي نصّاً وتحديداً.
وثائـق الكتـاب
يحتوي كتابنا (ثلاثاً وستين) وثيقة تغطّي (إحدى عشرة) سنة، أولاها مؤرّخة يوم (25/تشرين الثاني/1930) وآخرها في (13/نيسان/1941)، وتخوض في الموضوعات الآتية:-
العلاقات المتحسنة بإضطراد بين “جمهورية تركيا ومملكة اليونان”، والتي مهّدت لتوافق رباعي على “الميثاق البلقائي”.
علاقات “تركيا” والدول البلقانية المتجاورة مع “بلغاريا”، والتي كانت تشهد تأزّماً تارة وتهدئة هشّة تارة أخرى.
عديد المجالس المنبثقة من الميثاق وإجتماعاتها الدورية.
الأوضاع المتصاعدة في القارة الآوروبية أواسط عقد الثلاثينات وتأثيراتها على مسيرة الميثاق.
الزيارات المتبادلة بين زعماء دوله.
مباحثات على المستوى الإستراتيجي لرؤساء أركان جيوش أقطاره.
مواقف “إيطاليا الفاشستية” المتعاكسة حيال الميثاق.
الإتفاقات الثنائية خارج الميثاق، والتي عُقِدت بين البعض من دوله.
معاهدة التفاهم المؤقتة لدول الميثاق الأربع التي وُقّعت مع “بلغاريا”.
إضطرار كل من “رومانيا ويوغسلافيا” للتقرّب نحو دولتي المحور العُظمَيَين “آلمانيا وإيطاليا”.
الأوضاع الخطيرة التي سادت “آوروبا” خلال عامَي (1938-1939) والتي أشعلت الحرب العالمية الثانية.
توقيع “تركيا” على معاهدة ثلاثية للتعاون الدفاعي مع “بريطانيا وفرنسا”.
مواقف “الإتحاد السوفييتي” تجاه دول البلقان، وتداعيات التعاهد الآلماني- السوفييتي على المنطقة.
بقاء “البلقان” حائرة بين نيران الدول العظمى المتصارعة في القارة الآوروبية.
إستماتة “تركيا” للبقاء على الحياد وإبعاد الحرب عن أرضها ومياهها وأجوائها، وتنصّلها عن الوقوف إلى جانب حليفتها “اليونان” أثناء الغزو الآلماني.
إستحواذ “آلمانيا” على كامل جنوب-شرقيّ القارة الآوروبية وإنهيار دعائم “الميثاق البلقاني” عام (1941).
الميثاق وأهدافه
“الميثاق البلقائي لعام (1934)” هو الأول من نوعه في تأريخ شبه جزيرة البلقان وبلاد الآناضول، والذي أُبرِمَ لتنضمّ إليه (ثلاث) دول بلقانية مسيحية آرثوذكسية و(رابعة) مسلِمة بنظام علمانيّ، يبدأ تسلسلها الجغرافي من “رومانيا” شمالاً، إلى “يوغسلافيا” غرباً، ثم “اليونان” جنوباً، وإلى “تركيا” شرقاً.
الذين أمضوا على الأوراق الرسمية للميثاق في أروقة العاصمة اليونانية “آثينا” يوم (9/شباط/1934) هم وزراء خارجية تلكم الدول، ولكن فكرة الميثاق ذاته لدى الأوساط التركية كانت قائمة منذ عام (1930)، ولكنه لم يتحقّق إلاّ بعد إنقضاء حوالي سنة واحدة على تسنّم “آدولف هتلر” مستشارية “الرايخ الآلماني الثالث” يوم (30/1/1933) وبعد أن توضح تماماً من خطاباته وتصريحاته والخطوات التي إتخذها، بأن “آلمانيا المتجددة” -بعد هزيمتها في نهاية الحرب العظمى عام (1918)- قد شدّت عزمها على إهمال متعمَّد للشروط المُذِلّة التي فرضها “الحلفاء” المناهضون من خلال المعاهدات والإتفاقيات والبروتوكولات التي أنهت تلك الحرب رسمياً، وأن “آلمانيا” -من جانبها- ألغت بنودها ونصوصها، مستخفاً بمنظمة “عصبة الأمم” المُقامة في “جنيف”، وسوف لا تكترث حيال مواقف أي من الدول المنتصرة عام (1918) بل ستتحدّاهم.

الدول التي إنضَمّت للميثاق
إحتضن “الميثاق البَلقائي” -كما آنفنا ذكره- كلاً من “اليونان، رومانيا، يوغسلافيا، تركيا”.. وفيما تعتبر الدول الثلاث الأولى بَلقانِية صرف، فإن “تركيا” إنضمّت إليه لكون شطرها الأوروبي -والمتمثل في قطاع “تراقْيا (Trakya)”- جزءاً ممتداً من “شبه جزيرة البَلقان”، إضافة لإطلالة سواحلها المديدة على ثلاثة بحار هي:- “الأسود، إيجه، والأبيض المتوسط” معاً، والتي تشترك معها في إطلالتها الواسعة على بعض مياهها دولتَي “رومانيا واليونان” البَلقانيّتَين.
إستراتيجيات دول الميثاق
إستهدفت دول الميثاق البلقاني الأربع لدى إبرامه الإستراتيجيات الآتيات:-
تحقيق السلم والوئام بين الدول البلقانية.
الحفاظ على حدودها المشتركة مع دول الجوار.
السعي لتطوير العلاقات التجارية والإقتصادية والقانونية في ما بينها.
فيما تشير الوثائق من بعد ذلك إلى نقاط متمّمة سَهّلَت وضع تلكم الإستراتيجيات موضع التنفيذ، وأهمها:-
إصلاح الطرق البرية الموصلة بين الدول البلقانية وإنشاء أخريات.
الإفادة من المسالك النهرية وتطويرها.
تحسين إرتباطات الملاحة البحرية بين البحار “الأسود، إيجه، الأبيض المتوسط” وصولاً للبحر الأدرياتيكي.
تطوير السياحة والتزاور بين دول البلقان.
تأسيس مصرف بلقاني موحد.
إستراتيجية “تركيا”
ولكن نظرة “تركيا” نحو الميثاق كانت مغايرة في أسسها، فقد إبتغت منذ طرح فكرته تحقيق إستراتيجيات يمكن تلخيصها فيما يأتي:-
إظهار نياتها الحسنة تجاه “البَلقان” بعد طول عداء مستحكم بينهما طال قروناً.
برهنة ذاتها أنها باتت دولة آوروبية، وأمست لا تعير أهمية خاصة نحو العالمَين العربي والإسلامي.
نزعة “تركيا” -بعد إستعادتها لبعض ثقتها ومركزها وثقلها السياسي- في تزعّم منطقة البلقان.
إراحة بالها من الأخطار التي قد تتأتّى من دول متاخمة بعد أن ذاقت الأمرّين في السابق على أيديها.
مدّ حدود أمنها القومي بتشكيل جبهة في غربيّها بعيدة عن بقاعها، قد تقيها من أخطار آوروبية تداهمها، أو تؤخّر إقترابها من ربوعها.
إيجاد أسواق كبيرة شبه مضمونة لصناعاتها ومنتجاتها، والتي تساعد في تحسين إقتصادها.
إستراتيجيات الدول الأخرى
ممّا يتوضح جلياً من مجريات الأمور والمواقف والتصريحات التي بُثَّت بعد طرح فكرة الميثاق، أن كلاً من “اليونان، يوغسلافيا، رومانيا” قد سُرَّتْ وقتما إستشعرت به متوافقاً مع توجهاتها الإستراتيجية في بعض الرؤى التركية، مضيفة إليها الأمور التالية:-
إستمالة تركيا بإعتبارها دولة (آورو-آسيوية) إلى بلاد البلقان والقارة الآوروبية معاً، وإبعادها شيئاً فشيئاً عن جاراتها العربيات والعالم الإسلامي، للحيلولة دون عودتها -إذا ما إنقلبت الأمور ثانية- لحمل راية الإسلام، كما كان حالها إبّان الدولة العثمانية، والتي أثيرت خلال قرون حكمها خلافات عميقة وحروب داخلية أهلكت شعوب البلقان.
قد يؤول إبرام مثل هذا الميثاق إلى تشكيل دولة البلقان الكبرى التي كانت شعوبها تحلم بها، وخصوصاً بعد النجاح الذي تحقق في تجربة “الإتحاد اليوغسلافي”(*).
كل حكومة بلقانية كانت ترتعد خوفاً على مستقبلها من جراء التغلغل الملحوظ للشيوعية المتعاظمة إلى أوساط أوطانها المتاخمة أو القريبة من الحدود السوفيتية، حيث كانت شعوبها تميل إلى الأصدقاء الروس الذين أسندوهم خلال ثوراتهم وحروبهم أزاء الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية، والتي تمخّضت عن تحرّرهم منهما تباعاً أبّان قرنَين منصرمَين… ناهيك عن إحساسات الطبقات البلقانية المعدومة وعمالها العاطلين عن العمل -ممن يفترسهم اليأس وينخرهم الجوع بتأثير الركود الإقتصادي العالمي السائد في عقد الثلاثينيات- فأمسوا توّاقين لأنظمة حكم تنتهج الإشتراكية، لإعتقادهم أنها سترفع من مستوى معيشتهم وتخلّصهم من بؤسهم. وخصوصاً خلال تلك السنوات التي لم يستطع الإتحاد السوفيتي إخفاء ذلك التوجّه المترسّخ في نفوس البعض من قياديي حزبه الحاكم نحو ضرورة توسيع مدَيات نظامهم الإشتراكي ورفع راية “الثورة الدائمة” لتشتمل أقطاراً أخرى وأخرى، حتى تتحقّق في كل بقاع العالم.
لم يكن خافياً على الجميع ما عملته الدولة السوفييتية الجديدة خلال عقد العشرينات وقتما إستحوذت على “دول آسيا الوسطى الإسلامية، وأرمينيا، وآذربيجان، وأوكرايينا، وروسيا البيضاء” وسواها… لذلك، فإن جبهة بلقانية موحدة تحتضن دولاً قوية متعددة قد تحول دون تحقيق الأطماع السوفييتية في ربوعها.
وما ينطبق من دلالات ومؤشرات على الشيوعية، فإنه ينطبق على الخطر الفاشستي الداهم على البلقان عن قرب، حيث “إيطاليا” -الدول العظمى- المتاخمة، والتي تُناصِب الخلاف مع بعض أقطارها منذ منتصف العشرينيات، وكذلك نحو الخطر الآلماني النازي الذي بدا واضحاً للعيان -ولو عن بعد نسبي- مع حلول عام (1933).
تلك هي الإستراتيجيات المجمَلة التي جعلت مقترح “الميثاق البلقاني” لم يشهد معوّقات تُذكر. بل أن الدول التي عزمت على الإنضمام إليه، قد بَسَّطت الخطوات اللازمة وطَوَت المعوّقات نحو إبرامه وسارعت في تنفيذ متطلباته.
تسمية الميثاق
يُطلَق على هذا الميثاق في الوثائق التي يحتويها هذا الكتاب تسمية “الميثاق البلقاني” تحديداً، سواء قُبَيلَ إبرامه أو من بَعد ذلك، وتستمر عليها لحين تدخّل الميثاق بالأمور العسكرية في أواخر عام (1936) وقتما يعقد رؤساء أركان جيوش دوله إجتماعهم الخطير وسط العاصمة الرومانية “بوخارست”، لتتحوّل تسميته -غير الرسمية- في بعض الوثائق إلى “الحلف البلقاني”.

مؤسسات إنبثقت من الميثاق
لم يكن “الميثاق البلقاني” شبيهاً بـ”ميثاق سعد آباد” الهشّ والذي سيُبرَم عام (1937) بين “تركيا، العراق، إيران، آفغانستان”، بل كان ميثاقاً متماسكاً أقدمت دوله الأربع على خطوات جدّية لتحقيق تعاون وطيد فيما بينها وتنفيذ إستراتيجياتها الواضحة، فإنبثقت عنه مجالس ولجان كانت تجتمع بإنتظام وفقاً لتواريخ محددة… ولولا “المملكة البلغارية” لخطَى الميثاق خطوات أمتَن وأرصَن وأبعَد في تشكيل شبه إتحاد سياسي وتحالف فيما بينها، كي يغدو إحدى أفضل دعائم السلم في منطقة البلقان لـ(خمس) سنوات متعاقبات ولحين إندلاع أولى معارك الحرب العالمية الثانية مطلع (أيلول/1939).
وعلى الرغم من عدم وجود ما يشير إلى تلكم المجالس تحديداً، فإن ما تمكنّا إستخراجه من متون الوثائق يشير إلى ما يأتي:-
المجلس الدائم للميثاق البلقاني، ويتكوّن من وزراء خارجية الدول الأعضاء.
السكرتارية العامة.
المجلس الإقتصادي-الإستشاري.
إتحاد الصحافة البلقاني.
لجنة مُبادَلة الأخبار.
لجنة تدقيق القوانين.
مجلس رؤساء أركان حرب الجيوش.
لجنة مديري البنوك المركزية.
لجنة غرف التجارة المشتركة.
اللجنة البحرية للميثاق البلقاني.
المؤتمر الطبي البلقاني.
تفكك الميثاق البلقاني
لا نستطيع الجزم بأن (الميثاق البلقاني) قد إنهار بفعل فاعل إستهدفه عُنوة، إنما تفكّكت أوصاله خلال عامي (1938-1939) بشكل قد يمكن إعتباره سريعاً ومفاجئاً في سِفر التأريخ السياسي المعاصر بالقرن العشرين… فبينما رأينا “الميثاق” من خلال صفحات هذا الكتاب، ومنذ تأسيسه أوائل (1934) وهو يخطو خطوات مدروسة ومتّزنة في سُلَّم الصعود نحو الإرتقاء والتقارب فتتلاحق إجتماعاته وتبادل الزيارات والتصريحات الودّية وإصدار البيانات والبلاغات وعقد إتفاقيات ومعاهدات مُضافة لتعزيز إمكانات دوله، حتى غدا أشبه بـ”تحالف عسكري” خلال عام (1937)… فإننا نراه، بحلول عام (1938) وقد أمست طموحاته تؤول نحو الأفول، حتى لم يعد له تأثير يُذكَر في أحداث عام (1939) الخطيرة.
ولعل الأجدر بنا أن نحاول تسليط الضوء على أسباب تحلّل هذا الميثاق التأريخي الذي ضمّ دولاً أربع كبيرة مساحةً ونفوساً، وذا ثقل إقليمي ملحوظ ومرتبة سياسية يُحسَب لها على مستوى القارة الآوروبية برمّتها.
وقد يمكن تلخيصها وفقاً للنقاط المختصرة الآتية:-
لربما أُبرِمَ هذا الميثاق تأسيساً على “التقليعة” التي سَرَت في عموم “آوروبا” بعد الحرب العالمية الأولى وخلال عقدَي العشرينيّات والثلاثينيّات جراء الضعف المشهود لمنظمة “عصبة الأمم” الدولية في حلّ المشكلات السياسية. إذْ توجّهت الدول الآوروبية وسواها إلى عقد تحالفات تعينها لتفادي حروب أخرى، ولم يُبرَم الميثاق إستناداً لتوافق مصالح دول وشعوب متكاتفة.
أن الحاجة المرحلية تحقق لدول “الميثاق” الأربع إستقراراً سياسياً يحسّن أوضاعها الداخلية والإقتصادية المتهرّئة جراء إقتحامها أو مشاركتها جميعاً في الحرب العظمى، في حين لم تعد الحاجة قائمة بعد إنقضاء سنوات عديدة على إبرامه.
العلاقات التأريخية المتضادّة بين شعوب دول الميثاق، والتي فصّلناها في صفحات سابقة.
بقاء “مملكة بلغاريا” خارج الميثاق رغم كونها دولة مهمة تتوسّط دوله الأربع جغرافياً، ما تسبّب في عدم إمكانية التعاون الوثيق فيما بينها.
معاداة “إيطاليا” المتاخمة -وهي دولة عظمى ناهضة سياسياً وعسكرياً- لمسيرة الميثاق، سواء بتدخلاتها المباشرة، أو من خلال حثّها “بلغاريا” الحليفة على الإضرار بمسيرته.
عدم مباركة “الاتحاد السوفيتي” المتاخم -وهي الدولة العظمى ذات النفوذ التأريخي في البلقان- وتشكّكه من توجهات دول البلقان.
إكتفاء “بريطانيا وفرنسا” بتأييدهما الإعلامي والدبلوماسي للميثاق من دون إتخاذ خطوات جدية تسنده.
الأوضاع الخطيرة التي سادت القارة الآوروبية منذ أواسط الثلاثينيات إثر عودة “آلمانيا”، ليس إلى سابق عدها قوة ونفوذاً فحسب، بل بسطوة هائلة جعلت دولتَين كُبرَيَين من دول الميثاق “يوغسلافيا ورومانيا” تركعان لإرادة “برلين” طواعية، وتهرعان إلى خارج الميثاق مضطرّتَين.
تقارب “تركيا” من التحالف الغربي بزعامة “بريطانيا العظمى” منذ عام (1937) وتوقيعها معاهدة دفاعية معها عام (1939) وتعاكس هذا التوجه حيال “رومانيا ويوغسلافيا” معاً.
عودة “مملكة اليونان” لتحالفها الأساس مع “بريطانيا” منذ الحرب العظمى الأولى، إذْ أٌعتُبِرَت خارجة عن الميثاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عرض/ نور صبحي ناظم توفيق
دبلوم إدارة ومحاسبة-جامعة بغداد
(*) الإتحاد اليوغسلافي:- دولة تشكّلت بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى إثر انهيار “إمبراطورية النمسا والمجر والدولة العثمانية الكبرى” المتحالفتين مع “آلمانيا القيصرية” ضمن “دول المحور”… وقد ضم الإتحاد اليوغوسلافي (ست) دول، هي:- “صِربيا، كِرواتيا، مَقَدونيا، الجبل الأسود، سلوفينيا، وجمهورية البوسنة والهرسك” قبل أن يتفكك الإتحاد مجدداً مطلع عقد التسعينيات وتعود تلكم الدول الست كما كانت في سابق عهودها.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب