15 نوفمبر، 2024 2:34 م
Search
Close this search box.

تدوين الأثر/تاريخيا/وثائقيا.. رواية ما انكشف عن حجر الصوّان أنموذجا

تدوين الأثر/تاريخيا/وثائقيا.. رواية ما انكشف عن حجر الصوّان أنموذجا

خاص: كتب- نصير الشيخ

 

1

(هذا المكان غرق فيه الصمت واستقر في قعره سنوات طويلة، وعقود من التاريخ، ظن الناس أن الذي حصل في النجف عام 1918م، قد تبدد وتلاشى من الذاكرة ولم يبق منه شئ، لكن الرياح عندما تهب تحرك كل ساكن وترفع معها ضجة لا سبيل إلى وصفها….).

هكذا يختتم الروائي “محمود جاسم عثمان النعيمي”روايته الصادرة حديثا عن دار سطور للنشر والتوزيع (ما انكشف عن حجر الصوان ــ النجف 1918) وبواقع 273 صفحة من القطع المتوسط. قدم خلالها سفرا روائيا مكانيا، وحفريات كتابية لمدينة عريقة أسست حضورها في الذاكرة والتاريخ والوجدان، تلك هي (النجف الأشرف)…يفتتح الروائي النعيمي خطاطته متوجسا، بين خوض المغامرة الكتابية ونتائجها، وبين وضع خطوته الأولى وهو يفتح درج الوثائق التي بين  يديه، والتي ضمت شخوصا وأحداثا ووقائع، كانت كلها ناطقة بما فعلت وما خطت على أديم تراب هذي المدينة المقدسة.. ليمهرها بختم ديباجته (المؤلف/أنا…./التاريخ؟؟؟؟

تساؤلات الذات العارفة تقوده إلى نقطة صفرية لخط العبارة الأولى ربما، من هنا نقرأ(حتما سنقرأ في الصفحات التالية عن حوادث لا نستطيع أن نؤسس لها فيما إذا كانت من الحقيقية أو المتخيل.. فقطعا نحن جميعا من الذين يعيشون الآن، ولم نكن بصحبة أولئك الذين أتت على ذكرهم هذه الصفحات).

لنصل عند ص9 (أنا أيضا سأحذو حذو المؤلف والتاريخ، فقد أصابتني عدواهما، لذا سوف لن أعطيك رأيا قاطعا..؟؟ سأتركك تكتشف كل هذا بنفسك، ومنه ستعرف من الذي سطر هذه الصفحات وماذا كان يريد).. هل نحن عند لعبة روائية اتخذت من أساليب السرد الحديث طريق..؟ هل نحن إزاء ذات ساردة تفتعل التغييب لتقدم لنا خطاطة ممهورة بأحداث التاريخ والوقائع يتخفى عنها كاتبها…؟؟أم أن الكاتب يود أن يكون شاهدا لا فاعلا حقيقيا في الأحداث متبنيا وجهات نظر تعيد رسم الأحداث والوقائع..؟؟؟؟

 

2

السرد الروائي الذي اختطه الكاتب بصيغة (الراوي العليم) وهو يتتبع الرواية ترسم مساراتها، المسارات التي حددتها تاريخية اللحظة في الزمان والمكان{النجف/1918}…لتنفتح الحياة بكل تفاصليها، أمكنة، حوارات، مصائر، ذكريات متقادمة، قسوة محتل….الخ، من هنا أراد لنا الروائي محددات اشتغال سرده على وفق رقعة أحداثه الجغرافية.. (هل أرادوا أن يثبتوا للجميع أنهم غير هذا؟ إثبات الذات؟ كيف يمكن أن يكون في مجتمع يدين بالولاء والطاعة لثنائي تاريخي وحديدي متمترس على نفسه لا يجسر أحد على الاقتراب منه، رجل الدين وشيخ العشيرة والمحلة). من هنا أكد لنا الروائي محددات اشتغال سرده على وفق الرقعة الجغرافية، تتصاعد الأحداث منذ بدء تواجد القوات الانكليزية عند عتبات النجف واتخذاهم معسكرات(حاميات)، ومن ثم توتر العلاقات بينهما وشعور أهالي النجف أن ثمة شيئا غريبا قد اخترق خصوصية الانتماء لهذي المدينة…(وهؤلاء الفتية آمنوا بقضية كبرى، تحرير النجف وطرد الانكليز، وشعروا أنهم نواة حركة تحرير مقدسة، وأن هذه الأرض قد أودعت أمانتها عندهم) ص31.

اعتمد الكاتب إلى تقسيم روايته إلى صفحات (كل صفحة هي تدوين للأحداث ورصد حركة الشخوص وتنامي الفعل الدرامي بممازجة ذكية بين قدرة الروائي على إدارة هذا الفعل وبين ما توافر عليه من وثائق، من هنا كان ثبت التاريخ زمانا ومكانا مثل 18/3/1918. مع توحد صوت الشخصيات وأبرزها (مهدي البقال) مع صوت الثوار الآخرين، وبروز دور المقاومة كحل أمثل ووحيد لاستعادة كرامة أهالي النجف، مع تصاعد وتيرة أساليب العنف والتعامل اللإنساني للمحتل، بكسر عنصر الخضوع وعدم الاستجابة لأوامر الدورية الانكليزية للشابين بضرورة تسليم سلاحيهما. وهذا واضح عند الصفحة76، والوصف الدقيق للحالة النفسية التي انتابت الأخوة (سعد وأحمد راضي) وهما يرمقان جنود الدورية.

توافر الأحداث وتسارع معطياتها ورصد حركة الشخوص بالاعتماد على حواراتها من أجل دفع الفعل السردي باتجاه التوتر كصيغة مطلوبة لشد القارئ. لكن الروائي هنا لم ينس (المونولوغ الدرامي) كصوت هامش وضمير محرض في نفس الوقت للشخصية التي تواجه ما وصلت إليه حال هذه المدينة والتي هي جزء من بلد حاول المحتل تقطيع أجزاءه وتنفيذ مخططاته الاستعمارية.. (عبد حميمة هذا الفتى اليافع، ماذا يعرف عن وطن لم يتشكل بعد..كان عراقا منذ الأزل، وكان مركز الإمبراطورية العربية الإسلامية، لكنه عندما وعى وجده ثلاث ولايات، فأين الوطن من عقله وقلبه…؟).

3

إذا كانت السيرة الذاتية قد ارتبطت بخصوصيات سردية لذات ما، أي أن المدون هو نفسه للوقائع والحياة والمكان، فإن رواية  ما انكشف عن حجر الصوان، حايثت هذا المنطوق، ذلك للثقل الأكبر للوثيقة وحضورها الطاغي على المسار السردي، بوصفها متنا حكائيا.. ذلك أن الكاتب أخبرنا تنصيصا ومنذ البدء أن التاريخ هو من كتب نفسه.. وما عمله (الكاتب) إلا إعادة فرش الوثائق التاريخية ووصلها ببعضها.

من هنا صار على الرواية أن تزجنا معها للبحث عن طبيعتها الجمالية للقبض على سحر السرد وتسامي البطولة وبالتالي ترك الأثر الإنساني في دواخلنا، وكذلك الحرص على ضخ فلسفتها الخاصة معرفيا ووجوديا، وبما تمثل من خطاب يعي ما يريد ويعكس توجهات الروائي، سواء اتفقنا معه أم لم نتفق. من هنا لنا أن نسأل، هل أراد الكاتب أن يقدم لنا يقينياته بالتاريخ..؟

وقد أثبتت الدراسات الثقافية الحديثة أن لا يقينيات في الآداب الإنسانية، تلك الدراسات التي اعتمدت الحفر والتنقيب ومساءلة الواقع، ومحاولة الكشف عن المسكوت عنه، ورفع النقاب عما أطلق عليه (حقائق).

الصفحة الثانية (أي تطورات الأحداث وتصاعدها).. وعند ص79/2، الإشارة إلى قداسة المدينة وتحولها إلى مركز ديني هام، ذلك أن العلاقة الروحية بين رجل الدين والناس علاقة وطيدة يسودها الود والطاعة، وحضور رجل الدين ك(كاريزما) بوصفه ليس خطيبا منبريا أو واعظا بل هو (مرجع ديني) جعل منه شخصية مقدسة داخل العقل الشعبي، مؤكدا الكاتب تاريخ تأسيس (المدرسة الفقهية) لكي تكون بداية عهد جديد في حياة وتاريخ النجف. من هنا كانت نقطة الصفر قبل المواجهة العسكرية /استعداد عسكري يقابله توجس وترقب على أشده من المجاهدين وهم يتوقعون أن تقتحم القوات الانكليزية المدينة في أية  لحظة، وهي تنتظر شارة البدء من من قائدها (بلفور) وأركان قيادته.

من هنا تتجدد الإشارة إلى مدينة النجف لا بوصفها جغرافيا متاخمة لحدود صحراوية، وإنما هي حاضرة ثقافية تنتج فقهاً، وأغلب ناسها أدباء وشعراء يتذوقون الشعر ويقرضونه، حتى الأمي يتذوق الشعر عندما يسمعه.. ص113. ولأن إنتاج الخطاب الروائي يحتاج لمرتكزات أساسية تنهض عليها فصول الرواية، ولأن ما انكشف عن حجر الصوان هي سفر كتابي، أرخت لنضال مدينة ومقاومتها وأبرزت دورها كحاضرة ثقافية إسلامية، ولأن شخوصها هم أناس فاعلون اختاروا درب المقاومة وصولا للشهادة، فاللمرأة النجفية حضورها الخفي في بيئة مجتمعية عانت فيها الأمرين من سطوة القهر والعذابات واستلاب الحرية المنشودة.

هذه الرواية للكاتب “محمود جاسم النعيمي”هي صفحة جديدة من مشروع الكاتب الخاص الذي أطلقه لتوثيق مدينة النجف سبقتها رواية قصيرة بعنوان (حي السعد).

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة