خاص: كتب- مشعل يسار:
قدم مؤخرًا كل من الباحثان الروسيان؛ “أولغا بافلوفنا بيبيكوفا”، دكتورة في التاريخ، باحثة أولى، معهد الدراسات الشرقية، الأكاديمية الروسية للعلوم، و”إيرينا يورييفنا جيلينا”؛ دكتورة في التاريخ، باحثة أولى، معهد المعلومات العلمية حول العلوم الاجتماعية، الأكاديمية الروسية للعلوم .دراسة هامة جدًا حول تدمير التراث الثقافي والأثري للعراق وسورية؛ سواء على أيدي الاستعمار الأميركي المباشر أو عن طريق جماعات إرهابية وكيلة مثل تنظيم (داعش)، نشرتها مجلة (ملامح التحولات العالمية: السياسة، الاقتصاد، القانون).. وتعيد (كتابات) تقديمها في بضعة أجزاء للقاريء العربي تباعًا، نظرًا لما جاءت به من معلومات موثقة وراصدة بغاية الأهمية والإفادة…
المقدمة
واجهت الحضارة الإنسانية على مر تاريخها سرقة القيم الثقافية، بل التدمير الكامل للممتلكات الثقافية. ولم تكن العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين استثناءً. خلال هذه الفترة، ونتيجةً لتفاقم الوضع الجغراسياسي، ازداد عدد النزاعات العسكرية المحلية، ولم يقتّصر ضحاياها على البشر فحسّب، بل طالت القيم الثقافية أيضًا. في إطار العملية العالمية لـ (الإنتربول) و(اليوروبول) و”منظمة الجمارك العالمية” وحدها، عُثر على أكثر من 19.000 قطعة أثرية سرقتها شبكات إجرامية في الدول المتحاربة من المتاحف وغيرها في 103 دول. وتُقدم هذه العملية صورة واضحة عن حجم الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية. وتتراوح القيمة التقديرية لهذه التجارة بين بضعة ملايين ومئات الملايين من الدولارات.
بعد الحرب العالمية الثانية، اعتُمدت عدة وثائق دولية تُحدَّد الوضع القانوني للممتلكات الثقافية، ووُضعت تدابير لمنع تداولها تداولًا غير مشروع، وأهمها “اتفاقية اليونسكو” بشأن وسائل حظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرقَّ غير مشروعة؛ (المشَّار إليها فيما يلي باسم الاتفاقية)، التي اعتُمدت عام 1970. وهي أول صك قانوني دولي لحماية التراث الثقافي في زمن السلم. وقد وقّعت على الاتفاقية حتى الآن 140 دولة. واتسمت بداية القرن الحادي والعشرين بتدمير حركة (طالبان)؛ عام 2001، تمثالين عملاقين لـ”بوذا”؛ (يبلغ ارتفاع أحدهما 54 مترًا)، في “وادي باميان” (أفغانستان)، اللذين شُيّدا قبل أكثر من 15 قرنًا. وكان تدمير هذه المعالم البوذية الأكثر أهمية في أفغانستان، وهو أول عملٍ ظاهري لتدمير المعالم في الألفية الجديدة، بمثابة ذريعةٍ لـ”إعلان اليونسكو بشأن التدمير المتَّعمد للتراث الثقافي” (تشرين أول/أكتوبر 2003).
الجزء 1
الأضرار الناجمة عن وجود القوات الأميركية في العراق
تسبب غزو العراق من قبل القوات الأميركية وحلفائها عام 2003؛ في أضرارٍ جسيمةٍ للتراث الثقافي لهذا البلد. عشية الغزو، حذّر الدكتور “دوني جورج”؛ رئيس اللجنة الوطنية العراقية للتراث الثقافي، من أن الأميركيين يُريدون الاستيلاء على: “ليس فقط نفطنا، بل تاريخنا أيضًا”، لكن زملاءه لم يتخيلوا حتى أنه يمكن أن يكون ممثلو “الغرب المسَّتنير” لصوصًا.
ووفقًا لـ”هيئة الإذاعة البريطانية”؛ (بي. بي. سي)، لجأ علماء الآثار ومديرو المتاحف وخبراء الشرق الأوسط، خوفًا من أن تُلحق الحرب أضرارًا بالآثار القديمة، إلى ممثلي (البنتاغون) طالبين ضمان حماية الآثار والحفريات الأثرية. ومع ذلك، في نيسان/إبريل 2003، استقر الجيش الأميركي في أراضي “بابل” القديمة*، حيث تمركز حوالي 6000 جندي وأكثر من 300 مركبة مدَّرعة على مساحة 4 كيلومترات مربعة.
وأفاد شهود عيان بدخول شاحنات فارغة أيضًا إلى المنطقة. وقد استُخدمت لاحقًا لنقل القطع الأثرية المسروقة. وظلت القاعدة العسكرية الأميركية؛ (حصن بابل)، قائمة حتى تشرين أول/أكتوبر 2003.
[*بابل هي واحدة من أكبر المدن في العالم من حيث المساحة. تاريخٌ عريق، تقع على بُعد 88 كيلومترًا من بغداد، وهي مُدرجة على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي].
هنا، على أرض مُجمّع المتحف، نُظّم مهبطٌ للطائرات المروحية، مُغطّى بالقطران؛ وكان لاهتزازات مراوحه تأثيرٌ سلبيٌّ على أسوار المدينة الأسطورية القديمة. وكانت الدبابات الثقيلة تسيّر على طول الرصيف المُشيّد قبل 2600 عام. وهذا هو نفس زقاق المواكب، الذي كتب عنه هيرودوت: “… الطريق المُقدّس الذي كان يمتد من الشمال عبر بوابة عشتار الشهيرة إلى المدينة الداخلية… وعلى طوله… كانوا يحملون تماثيل الآلهة”.
قال شهود عيان إن الجنود الأميركيين راحوا في عام 2003 يتجوّلون في أروقة المتحف كما لو كانوا في سوبر ماركت، ويأخذون ما يحلو لهم. والمُثير للدهشة أنهم كانوا يعرفون أين وماذا يأخذون، إذ كانت بحوزتهم مُخططات المتحف، بما في ذلك المخازن، بالإضافة إلى مُعدّاتٍ لاقتحام منشآت التخزين، التي طُرد منها جميع الموظفين مُسبقًا.
وبعد مغادرة الأميركيين، عثر السكان المحليون على قصاصاتٍ من أدلةٍ وخرائط منشورة في الولايات المتحدة. وبالتالي، أصبحت ”بابل” موقعًا للجيش الأميركي. تم اختيار القاعدة مسبقًا. وبعد مغادرة الأميركيين، سجل “جون كورتيس”؛ خبير المتحف البريطاني في لندن، جميع الأضرار والخسائر في تقرير خاص. وذكّر العالم أن المتحف تعرض لأضرار لا يمكن إصلاحها، وأن الجنود الأميركيين والبولنديين هم المسؤولون.
وخلص “كورتيس” إلى أن معظم الأضرار كانت متعمدة. لنتذكر أن الأميركيين قادوا دبابات؛ (وزنها أكثر من 60 طنًا)، على طول الرصيف القديم. وردًا على ذلك، صرحت القيادة الأميركية نفاقًا بأن مهمة الأميركيين في “بابل” كانت: “حماية الكنوز التاريخية من اللصوص”.
يعتقد “عبد الجعفر”؛ عالم الآثار العراقي الذي قاد ترميم “بابل” في التسعينيات، أن الأميركيين وضعوا لأنفسهم مهمة تدمير ما تبقى من حضارة بلاد ما بين النهرين. ويدّعي أن “العراق” استقطب علماء آثار أميركيين منذ زمن طويل، وقد أرسلوا بعثاتهم الأثرية مرارًا وتكرارًا إلى هذه البلاد. ويرى أن الأميركيين دمروا ما يُقارب 15 ألف موقع تاريخي في العراق.
إن استهتار الجانب الأميركي بمسألة سرقة القطع الأثرية واضحة. وكما قال “أشتون هوكينز”؛ رئيس المجلس الأميركي للسياسة الثقافية، فإن: “التشتيت المشروع (نقل القطع إلى مجموعات خاصة – ملاحظة المؤلف)، للمواد الثقافية في السوق هو أفضل طريقة لضمان الحفاظ على الكنوز”.
يُذكر أن الولايات المتحدة انسحبت من (اليونسكو) عام 2018. وقد حددت لجنة خاصة تابعة لـ (اليونسكو) لتقييّم الأضرار التي لحقت بـ”بابل” الخسائر الناجمة عن استخدام المعدات العسكرية، بالإضافة إلى حفر خنادق بطول 60 مترًا مباشرة في مواقع التنقيب، واستخدام القطِران كمهابط لطائرات الهليكوبتر، وما إلى ذلك. وسرعان ما بدأت القطع المسروقة بالظهور في سوق التحف. ففي عام 2008، سُحبت أقراط ذهبية فريدة عُثر عليها أثناء عمليات التنقيب في “نمرود”، عاصمة الآشوريين شمال العراق؛ (التي باتت مدمرة الآن بجهود مشتركة بين الولايات المتحدة وداعش*)، من المزاد في اللحظة الأخيرة في (دار كريستيز-Christie’s) للمزادات في نيويورك. واندلعت أكبر فضيحة في خريف عام 2012، بعد نشر شهادة مترجم راقب بنفسه تحميل صناديق تحتوي على أرشيفات يهود العراق على متن طائرات نقل أميركية. ويعود تاريخ معظم الوثائق القيّمة من مجموعة الجالية اليهودية في العراق إلى فترة السّبي البابلي؛ (القرن السادس قبل الميلاد). وقد طالبت الحكومة العراقية بإعادة الوثائق المسروقة. لكن، وفقًا للمترجم، يُطالب الأميركيون: “بالسماح لهم بالإبقاء على الأرشيف لفترة غير محددة للبحث والفحص”.
وطُرحت الحجج نفسها فيما يتعلق بإعادة 10 آلاف (!) قطعة أثرية تاريخية اكتُشفت في ربيع عام 2013 في جامعة كورنيل ((Cornell University) ، مدينة إيثاكا، ولاية نيويورك). ونُقلت وثائق تتعلق بالإبادة الجماعية للأرمن في أوائل القرن العشرين من الموصل إلى الولايات المتحدة. كما نُهِب المتحف الوطني العراقي في حي علاوي الحلة ببغداد، والذي أُنشيء عام 1923 على يد “جيرترودا بيل”؛ (جيرترودا بيل 1868-1926، عالمة آثار وكاتبة وضابطة استخبارات بريطانية. شاركت في رسم الحدود الحديثة لعدد من الدول العربية)، التي كانت تأمل أن تُساعد المجموعات التي جُمعت العراقيين على التعرّف على ثراء تاريخهم وتحقيق هويتهم. في نيسان/إبريل 2003، خلال المعارك في بغداد، غادر المتحف موظفوه؛ ونتيجةً لذلك، اختفى حوالي 15 ألف قطعة أثرية من المتحف، كثيرٍ منها لا يُقدّر بثمن. لاحقًا، أشار مؤرخو الفن العراقيون إلى أنه خلال فترة وجود الجيش الأميركي في العراق، كانت البعثات التي قادها “متخصصون” أميركيون تتوالى على البلاد. وبعد “حفرياتهم”، لم يبقَ سوى حفر فارغة.
كتب “ج. كورتيس”؛ في تقريره عن تدمير “بابل”، أن من المستحيل تقيّيم الأضرار: “نظرًا للقيمة الباهظة للآثار المفقودة”. وتدعم تقييّمات (اليونسكو) وخبراء معتمدين في هذا المجال الحقائق المذكورة حول الأضرار التي لحقت بالتراث الثقافي العراقي. ويُضاف إلى ذلك رفض إعادة المقتنيات الثمينة التي نُقلت إلى الولايات المتحدة بذرائع واهية إلى العراق.