13 أبريل، 2024 8:57 ص
Search
Close this search box.

تحقيق المصالحة والحرب على الفساد: معادلة تونس الصعبة

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد / بنعيسى الدمني
شكَّل الفساد أهم عامل لانفجار فاتحة “الربيع العربي” في تونس؛ فالجماهير التي هبت ثائرة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، لم يكن في مقدمة أهدافها أن تحتج على غياب الحريات والديمقراطية السياسية، إنما كان هدفها الأول هو الانتفاض ضد المظالم الاقتصادية والاجتماعية المسلطة عليها إبان حكم ابن علي.

لا شك أن تلك المظالم كانت في الأصل نتيجة منوال تنموي قاصر بنيويًّا عن النهوض باقتصاد البلاد استثمارًا وتشغيلًا وتحقيقًا للعدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات. إلا أن آثار ذلك القصور تفاقمت بفعل فساد منهجي ضلع فيه عدد غير قليل من المسؤولين في السلطة، وأقارب الرئيس المخلوع وأصهاره، ورجال المال والأعمال، والمتنفذين في شتى المجالات؛ الأمر الذي استدعى تشكيل “لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة”(1) فور الإطاحة برأس النظام.

في مبادرة رديفة لمعالجة مخلفات الاستبداد، سنَّ “المجلس الوطني التأسيسي”(2)، في أواخر 2013، قانونًا أساسيًّا للعدالة الانتقالية(3). ثم أنشأ “هيئة الحقيقة والكرامة” لتنظر، وفق ذات القانون، في قضايا يتعلق بعضها بفساد مالي. لكن السلطة المنبثقة عن انتخابات 2014 جنحت، بالتوازي مع ذلك، إلى معالجة هذا الملف خارج إطار العدالة الانتقالية(4) أملًا في إصابة هدفين يبدوان متنافرين، هما: “تحقيق المصالحة” و”محاربة الفساد”. فما أسباب الجنوح إلى هذه السياسة المفارقة؟ وما حظوظ نجاحها في ظل النزاعات السياسية المحتدمة ورهانات الانتخابات المقبلة؟

الفساد وتداعياته قبل الثورة
تكرَّس الفساد قبل الثورة في عدة صور من المعاملات غير المشروعة على غرار اعتماد الرشوة والاستزلام (clientélisme) في مجال عقد الصفقات العمومية، وإسداء الخدمات، وإسناد التراخيص، وتوفير فرص الشغل، والتمكين من شتى أنواع المنافع في كل المؤسسات، بما في ذلك أجهزة الدولة.

تلك المعاملات بلغت حدًّا فظيعًا من الانتشار عكَس درجة استشراء ظاهرة استغلال النفوذ والاستهتار بالمصالح العامة داخل المؤسسات الحكومية. من أكثر الأمثلة الدالة على ذلك تعمد وزارة أملاك الدولة التفويت، بمقابل زهيد، لبعض ذوي القربى أو الحظوة لدى السلطة، في أراض تابعة لمناطق مصنفة ذات طابع أثري، وغير قابلة للبيع والشراء قانونًا؛ إضافة إلى تعمد مسؤولين في مؤسسات حكومية إسناد وظائف وهمية لفائدة مقربين ظلوا لعدة سنوات يتقاضون جرايات مالية سخية، وينعمون بامتيازات عينية من مَعين المال العام بغير وجه حق(5).

كانت هيئات الرقابة الحكومية في تلك المرحلة تلزم سياسة غض الطرْف عن أمثال تلك الممارسات الفاسدة وعن مسالك الاقتصاد غير النظامي والتجارة الموازية التي أنتجتها. ورغم أن مسؤولي الرقابة دأبوا على تبرير تقاعسهم آنذاك بعدم القدرة على إخضاع الفاسدين للمحاسبة نظرًا إلى تحصنهم بالسلطة، فإن غياب الفاعلية الرقابية شكَّل، موضوعيًّا، تواطؤًا إداريًّا مع الفساد وساعد، عمليًّا، على نشأة جماعات من التجار والمضاربين وأرباب الأعمال الذين حققوا لأنفسهم ثروات طائلة، معتمدين على تهريب السلع، والمتاجرة في الممنوعات، والاحتكار، وتبييض الأموال.

الأخطر من التواطؤ الإداري هو السند غير الخافي الذي كان رموز الفساد يحظون به، فعلًا، من قبل مسؤولين كبار. وهو ما ضمن لهم، فوق الحصانة، التمتع بامتيازاتِ تمويل مصرفي وتسهيلات جمركية وإدارية متنوعة مكنتهم من توسيع أعمالهم داخل البلاد وخارجها. وقد لحق الاقتصادَ التونسي، جرَّاء كل ذلك، أضرارٌ، أهمها:

1. تقويض نظام السوق نتيجة التحكم الموازي في مسالك جلب السلع وتوزيعها، وتحديد وتيرة انسيابها وأسعارها؛ بحكم هيمنة جماعات الاحتكار.

2. اختلال موازنات المالية العامة جراء ضعف المداخيل المستحَقة لفائدة الدولة، في ظل تفشي ظاهرتي الرشوة والتهرب الضريبي.

3. إفساد مناخ الأعمال بما أدى إلى تعطيل الاستثمار وإعاقة التنمية. وهو ما يفسر عجز نظام ابن علي عن الوفاء بوعوده المتكررة بتحقيق “الإقلاع اقتصادي” وجعْلِ تونس “بلدًا للفرح الدائم” على نحو ما كان إعلامه الرسمي يردد.

وقد شكَّلت جماعات الفساد لوبيات ضغط سياسي تدخلت في اختصاصات المسؤولين داخل الدولة وأثَّرت في قرارات من قبيل تعيين أشخاص طيعين في خطط ومناصب وظيفية وحتى وزارية، ضمانًا لمصالحهم. هذا ما شهد به، من محبسه، عماد الطرابلسي، أحد أصهار ابن علي، المسجون منذ أول عهد الثورة جرَّاء تورطه في هذا السياق(6).

خلاصة القول: إن الفساد المالي قبل الثورة شكَّل مكونًا أصليًّا في منظومة حكم مطلق تراكب فيها السياسي مع الاقتصادي مع الأمني لإحكام القبضة على دواليب الدولة، والهيمنة على مؤسسات المجتمع بغية تدجينها وشل فاعليتها المدنية. وقد أدى استحكام تلك المنظومة لأزيَد من عشرين عامًا إلى اقتراف مظالم اجتماعية وسياسية غير مسبوقة. وفي المقابل، نشأ عن ذلك وعيٌ عام لدى التونسيين أساسُه أن السلطة غير قابلة للإصلاح من تلقائها، وأن القضاء على الفساد غير ممكن إلا بالقضاء على نظام الحكم ذاته.

الآثار المستمرة لتركة الفساد
كان الفساد أسوأ تركة ورثتها حكومات ما بعد الثورة عن سابقاتها. وقد حَدَا بضحاياه أمل في ألا تتقاعس السلطة الجديدة عن إنصافهم والقيام بما ينبغي لتخليص البلاد نهائيًّا من منظومة المال الفاسد التي جثمت عليها. لكن الأمل ما لبث أن تبدد بعد أن اتضح أن منظومة الفساد لم تَزُلْ بزوال حكم ابن علي، وأن أذرعها التي استحكمت في كل مفاصل المجتمع والدولة تقريبًا استطاعت، بعد الثورة، أن تدير مشاريع مشبوهة، وأن تمارس تأثيرًا بالغ الخطورة على مستقبل البلاد عن طريق الاستثمار في مجال الإعلام وتمويل بعض الأحزاب، إضافة إلى مجالات أخرى أكثر خطورة وتعقيدًا.

بيَّنت الأحداث أن ذلك الاستثمار كان جزءًا صميمًا من استراتيجية إعادة انتشار ذات مرحلتين، اعتمدتها مكونات ما يسمى “الدولة العميقة”. التي ظلت كامنة في الإدارة وبعض الأجهزة التنفيذية ودوائر المال والإعلام ـ وعمدت أولًا إلى الانحناء تكتيكيًّا لعاصفة الثورة، مستفيدة من تساهل السلطة إزاءها، ثم انتقلت إلى تفعيل ديناميات “ثورة مضادة” كان “المال الفاسد” محركها.

وإذا كان بعض المنخرطين في تلك الاستراتيجية اختاروا الاستثمار في مجالات مدنية وحزبية ظاهرة للعيان، كما أسلفنا، فإن آخرين كانوا أشد بأسًا؛ إذ تعمدوا الاستثمار في مجالات خطرة سوغها لهم اشتراك المصالح مع شبكات التهريب والجريمة المنظمة وجماعات الإرهاب التي استغلت فترات الارتخاء الأمني لتهريب السلع، والاتجار بالأسلحة عبر الحدود، وشن هجمات دموية ألحقت ضررًا بليغًا بالوضع العام في البلاد.

في قراءة لهذا التواطؤ المفضوح، تبلورت لدى عدد متزايد من المحللين وأنصار الثورة، أطروحة مثيرة للجدل مفادُها أن الظاهرة الإرهابية هي محض “صناعة” دأبت “الثورة المضادة” ـ وأنصارها الدوليون، والإقليميون “الأسخياء” ـ على استخدامها لأداء أدوار وظيفية ضمن استراتيجية شرسة هدفها إجهاض المفاعيل الديمقراطية “للربيع العربي” تونسيًّا، ومنع انتشارها إقليميًّا.

معالجة ملف الفساد بعد الثورة: من التساهل إلى المصالحة
كان التساهل إزاء تركة الفساد المالي عنوان سياسة المرحلة الانتقالية الأولى التي قادها كل من فؤاد المبزع، رئيسًا للدولة، والباجي قائد السبسي، رئيسًا للحكومة. فقصارى ما أمكن للسلطة أن تحققه في تلك المرحلة هو اعتقال بعض كبار المسؤولين المتهمين بالفساد وإخضاعهم للتحقيق، والبدء في مقاضاة الرئيس المخلوع غيابيًّا، وبعض أقاربه وأصهاره. لكن الصرامة لم تكن حاضرة في معالجة عدة ملفات كبرى؛ عدا قرارات إدارية وأحكامًا قضائية محدودة جدًّا، صدرت ضد أشخاص حققوا لأنفسهم منافع شخصية، كان أبرزهم رجل الأعمال وعضو “مجلس النواب” الأسبق الراحل، جيلاني الدبوسي، الذي كان النائب العام أذن باعتقاله ومحاكمته سنة 2011.

بتشكل ائتلاف “الترويكا” الحاكم، إثر انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، ازدادت خشية أتباع المنظومة القديمة من الوقوع تحت طائلة المحاسبة؛ ما دفعهم إلى مغادرة حالة الانكفاء ومحاولة دعم واستثمار كل ما من شأنه تخريب مسار الانتقال الديمقراطي. أكثر عمليات التخريب شراسة كانت قد وقعت سنة 2013 باقتراف جريمتين إرهابيتين أوْدتا بحياة رمزين من المعارضة اليسارية(7). وكان ذلك كافيًا للزج بالبلاد في مأزق سياسي غير مسبوق، وإجبار ائتلاف “الترويكا” على لزوم ذات السياسة الحذرة التي توختها تشكيلة الحكم السابقة في معالجة ملفات الفساد؛ اجتنابًا لمزيد الاحتقان.

قوبلت تلك السياسة في حينها بانتقاد شديد من قبل أنصار الثورة وشبابها، بمن فيهم أنصار “حركة النهضة” التي كانت عماد “الترويكا”. فقد وصفوا المسؤولين في تلك المرحلة بأصحاب “الأيادي المرتعشة”، وأطلقوا على شبكات التواصل الاجتماعي حملة تحت وسم “اكبس” للمطالبة بتوخي الصرامة في زجر الفاسدين.

لكن حكومتي حمادي الجبالي ثم علي العريض لم تكونا قادرتين على القيام بأكثر من الحد الأدنى بهذا الخصوص؛ على غرار اتخاذ وزير العدل، نور الدين البحيري، قرارًا بعزل ثمانين قاضيًا تعلقت بهم تهم فساد. بينما ظل القضاء غير ناجز فيما يخص ملفات وزراء ابن علي وكبار المسؤولين السياسيين والإداريين ورجال الأعمال والإعلاميين الموالين له، الذين وقع اعتقالهم بعد الثورة بتهم فساد بينة ومصادرة أموالهم. ثم وقع إطلاق سراح أكثرهم تباعًا بكفالات مالية في فترة الحكم المنبثقة عن انتخابات 2014، وظلت قضاياهم جارية(8).

إن هذا التساهل في محاسبة منظومة الفساد وفَّر لرؤوس تلك المنظومة نفَسًا جديدًا، وسوَّل لسلطة ما بعد 2014 انتهاجَ طريق المصالحة مع كثير منهم. فقد بادر رئيس الدولة الباجي قائد السبسي، في 20 يوليو/تموز 2015 بتقديم مشروع قانون أساسي إلى البرلمان يحمل عنوان: “المصالحة في المجال الاقتصادي والإداري والمالي”. وبرر مبادرته بأن من شأنها أن تدعم اللُّحمة الوطنية وتعزز الاستقرار، وتساعد على الخروج من حالة الانكماش الاقتصادي الناجمة عن قلة الموارد في مجال تمويل الاستثمار، لاسيما وقد طالت آماد مصادرة كثير من الأموال بتهمة الفساد وتعطلت مردوديتها.

لكن تلك المبادرة وُوجهت بردود فعل شعبية وحزبية رافضة، صدرت عن قوى المعارضة وحتى عن بعض مكونات الائتلاف الحكومي، وبخاصة حركة “النهضة” رغم التوافق الرسمي الذي كان قائمًا بينها وبين حزب “نداء تونس” متزعم منظومة الحكم. وقد ظل مشروع القانون، نتيجة لذلك، مجمدًا في رفوف البرلمان لفترة ناهزت السنتين، فاضطرت رئاسة الدولة إلى إدخال بعض التعديلات عليه، أملًا في أن تتوافر له حظوظ جديدة للقبول. وهذا ما تحقق فعلًا؛ إذ وَقَع عرض المشروع المنقح على المداولة داخل “مجلس نواب الشعب”، وتمت المصادقة عليه في جلسة 13 سبتمبر/أيلول 2017.

قانون “المصالحة الإدارية”
جاء القانون عدد 62، المؤرخ في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017، تحت عنوان “المصالحة في المجال الإداري”؛ وهو عنوان يعكس جوهر التعديل الذي أُدخِل على فحوى المشروع الأول. يتضح من الصيغة المعدلة أن هدف القانون هو إعفاءُ مَن تعلقت بهم تهمُ فساد من الخضوع للتتبع والعقوبة الجزائية. ويشمل العفو “مبالغ جبر الضرر المادي والمعنوي المسلط على أولئك الأشخاص، المحكوم بها لفائدة الدولة”. ولا يستفيد من هذا العفو الجزائي الأشخاصُ الذين استولوا على المال العام أو أموال الغير بدون وجه حق. بل يستفيد به حصرًا الأشخاصُ الذين ارتكبوا أفعالًا “متصلة بمخالفة التراتيب أو الإضرار بالإدارة لتحقيق منفعة لا وجه لها للغير شريطة عدم الحصول على فائدة لا وجه لها لأنفسهم. ويُستثنَى من ذلك من كانت الأفعال المنسوبة إليهم تتعلق بقبول رشاوي أو بالاستيلاء على أموال عمومية”(9).

ولم يجعل القانون أمر النظر في هذه الملفات من اختصاص الهيئات القضائية القائمة، بل أوكل البت فيها إلى هيئة قضائية مستحدثة للغرض أعطاها صلاحيات استثنائية باتَّة؛ إذ نص حرفيًّا على أن “قرارات تلك الهيئة لا تقبل الطعن بأي وجه من الأوجه”(10).

اعتراضات على القانون
وُوجِه قانون “المصالحة في المجال الإداري” باعتراضات شديدة من قِبل أنصار الثورة وفي الأوساط الحقوقية والحزبية المعارضة. واستند المعترضون إلى حجج سياسية وأخرى قانونية.

ملخص الحجج السياسية
1. إن عنوان القانون المصادَق عليه يعطي انطباعًا بأن الإعفاء من التتبع والعقوبات الجزائية يشمل الأشخاص الذين ارتكبوا أفعالًا مخالفة للتراتيب المعتمَدة أو تلك المضرَّة بالإدارة؛ دون سواهم من المتورطين في قضايا متعلقة بانتهاك حقوق الغير ونهب الأموال الخاصة والعامة لتحقيق منافع شخصية. لكن بالتأمل في الأثر العملي، يتضح أن القانون يكرس في الحقيقة مبدأ إفلات الفاسدين من العقاب. فهو بهذا المعنى شكل من المكافأة لبعضهم على تمويلات قدموها لفائدة أحزاب وهيئات وشخصيات سياسية فاعلة، وذلك ضمن خطة تهدف إلى إعادة رموز الفساد إلى المشهد السياسي خدمة لأجندات “الثورة المضادة”.

2. من حيث السياق السياسي والإجرائي، تنزلت مبادرة سنِّ “قانون المصالحة في المجال الإداري” خارج إطار آلية العدالة الانتقالية المتعارف عليها دوليَّا، والتي تشرف عليها دستوريًّا “هيئة الحقيقة والكرامة”. من ثم، فإن المبادرة تمثل محاولة لقطع الطريق أمام تفعيل تلك الآلية التي انطلقت بعدُ في الاشتغال عمليًّا.

3. أما من حيث المضمون، فإن أحكام القانون لا تتفق مع آلية العدالة الانتقالية التي تعتبر أن المصالحة ليست غاية في ذاتها، بل هي تتويج لمسارٍ كامل من المحاسبة يبدأ بإقرار المتورطين في الفساد والاستبداد بما اقترفوه، ثم الاعتذار للمتضررين وجبر أضرارهم المادية والمعنوية، وصولًا إلى الصلح.

ملخص الحجج القانونية
1. إن قانون المصالحة الإدارية المصادق عليه ليس هو ذات المشروع الذي بادر رئيس الدولة بتقديمه ابتداءً تحت عنوان “المصالحة في المجال الاقتصادي والإداري والمالي”؛ وهذا وحدَه يُعَد مبررًا كافيًا للطعن فيه من قبل “لجنة مراقبة دستورية القوانين”، لاسيما أن تلك اللجنة سبق أن قالت بمناسبة نظرها في مشروع المجلس الأعلى للقضاء: “إنه لا يجوز للجنة البرلمانية ذات النظر أن تحدِث تغييرًا في المشروع الذي يوكَل إليها النظر فيه”.

2. تضمن القانون الجديد استحداث “هيئة قضائية استثنائية”؛ وهذا أمر يتعارض مع الدستور الحالي الذي يمنع صراحة في فصله عدد 110 استحداث محاكم استثنائية، ويمنع أيضًا إجراءات استثنائية من شأنها الإخلال بمبادئ المحاكمة العادلة(11).

3. إذا كان دستور البلاد قد نص في فصله عدد 108 على أن التقاضي يكون على درجتين (ابتدائية واستئنافية)، فإن قانون “المصالحة في المجال الإداري” ينص على أنه لا يجوز الطعن في قرارات الهيئة القضائية الاستثنائية التي استحدثها؛ وهذا وجه إضافي لتعارض القانون مع الدستور(12).

رغم هذه الاعتراضات السياسية والحقوقية التي صدرت عن عدة أطراف حزبية وشعبية، يجدر التنويه إلى أن قانون المصالحة سرعان ما استكمل صيغته التنفيذية ومرَّ إلى حيز التطبيق قضائيًّا.

مقاومة الفساد في مهب النزاعات الحادة والحوكمة المتعثرة
عندما تولى يوسف الشاهد رئاسة حكومة “الوحدة الوطنية”، في 26 أغسطس/آب 2016، بناء على “وثيقة قرطاج” الائتلافية، خلفًا للحبيب الصيد، سرعان ما وجد نفسه في خلاف حاد مع قيادة حزبه “نداء تونس” الذي اتفق مع جهات نقابية ومع رئيس الدولة على ضرورة تغييره. ولم يجد الشاهد من سند سياسي قوي يمنع تنحيته من منصبه إلا “حركة النهضة”، التي لم تحل شراكتها مع حزب “النداء” في الحكم دون تمسكها في مفاوضات مراجعة “وثيقة قرطاج” الثانية بمبدأ الحفاظ على “الاستقرار الحكومي”.

أرجع المراقبون أصول الخلاف إلى ما كان أعلنه رئيس الحكومة، في 23 مايو/أيار 2017، من كون “الحرب على الفساد” ستكون أولوية في برنامجه السياسي، وقد رافق ذلك حملة اعتقالات وإجراءات بحث قضائي شملت عددًا من رجال الأعمال، كان من أبرزهم شفيق جراية، أحد ممولي حزب “النداء”، وياسين الشنوفي، ضابط الجمارك السابق الذي كان ترشح لانتخابات 2014 الرئاسية.

منذ ذلك التاريخ، ظل الجدل على أشده بين موقفين متقابلين: يعتبر الأول أن المطالبة بتغيير رئيس الحكومة تعكس حرص أصحابها على حماية لوبيات الفساد، بينما يعتبر الموقف الثاني أن “الحرب” المعلنة على الفساد هي حملة انتقائية لتصفية حسابات سياسية مع خصوم ومنافسين محتملين في الانتخابات المقبلة، وهي في ذات الوقت محاولة لاحتواء موجة الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها البلاد في ذات الظرف.

وإذا كانت الحكومة قد حاولت إضفاء بعض المصداقية على حملتها ضد الفساد بتنويع القرارات والمبادرات في هذا السياق، فإن محاولاتها لن تكون ذات جدوى ما لم تنظر إلى الفساد في شموله؛ ذلك أن الملفات المطلوب معالجتها تتوزع تحت أربعة عناوين كبرى:

1. استرجاع أموال الدولة المهربة إلى الخارج في عهد ابن علي، وكانت أبحاث أكاديمية قدرتها بنحو 101 مليار دينار تونسي (33.9 مليار دولار أميركي)(13)؛ أي ما يفوق ضعفي حجم الموازنة السنوية الحالية للدولة التونسية، وأربعة أضعاف موازنتها لسنة 2011.

2. التصرف في الأموال والممتلكات المصادرة بعد الثورة؛ علمًا بأن ذلك التصرف كلف الدولة نفقات وجهودًا لم تكن ذات جدوى؛ إذ تراجعت مردودية كثير من تلك الممتلكات وتقلصت قيمتها العينية في ظل وضعها، لعدة سنوات، تحت ائتمان عدلي، من غير بت.

3. استيفاء محاسبة المتهمين بالفساد في العهد السابق، مع العلم بأن قضايا كثير منهم ظلت جارية عدليًّا.

4. مقاومة فساد ما بعد الثورة بكل صوره المتعلقة بالرشوة، وعدم الحفاظ على المال العام والثروات الوطنية، والتهرب الضريبي، والتهريب، وتبييض الأموال.

خاتمة
لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن تونس الثورة لو نجحت في معالجة ملفات الفساد التي ورثتها عن النظام السابق، لكان ذلك وحده كفيلًا بتمكينها من الحصول على إيرادات مالية تكفي لإخراجها من أزمتها الاقتصادية الراهنة من غير لجوء إلى الاقتراض ولا خضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي. لكن عدة قضايا وطلبات رسمية رفعتها الدولة لهيئات مصرفية أجنبية ولدول (أبرزها: سويسرا، وفرنسا، والإمارات، ولبنان، والاتحاد الأوروبي، وكندا، والسيشل) بغاية تسليمها أموالًا مهربة من قبل الرئيس المخلوع وأعوانه وأهل قرابته، باءت بالفشل، رغم وجود كثير منها بحالة تجميد في بلدان الإيداع.

وإذا كان الخطاب الرسمي عادة ما يجنح إلى تبرير الإخفاق في استرجاع تلك الأموال، بعدم توافر التشريعات والإمكانيات المالية اللازمة للقيام بإجراءات الاسترجاع، فإن مثل هذا التبرير لا يمكن أن يحجب ضعف أداء الدبلوماسية التونسية بهذا الشأن.

هذا ما يستدعي تجديد الوعي المرحلي

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب