إعداد/ وفاء الريحان
خلف انهيار الاتحاد السوفيتي أواخر القرن العشرين العديد من التغيرات الجيوسياسية؛ حيث ظهرت دول جديدة مُحملة بتراث الدولة السوفيتية، وتسعى للتأقلم مع النظام الدولي، كان من بين هذه الدول جمهوريات آسيا الوسطى وهي طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وقيرغيزستان.(1)
وأدت الإمكانات الاقتصادية والعسكرية لآسيا الوسطى بالإضافة إلى الموقع الجيوستراتيجي الهام، إلى أن تكون محور اهتمام القوي الدولية كالولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وكذلك الإقليمية كتركيا وإيران وإسرائيل، ويُركز هذا التقرير بالأساس على تناول ماهية التواجد الروسي والتركي بالمنطقة، باعتبار أن تنافس تلك الدولتان عليها قضية ممتدة تاريخياً، ويتضح ذلك من خلال عدد من الشواهد سيتم تناولها لاحقاً.
أهمية آسيا الوسطى
تقع المنطقة في قلب آسيا وبالقرب من روسيا والصين وإيران وتركيا وشبه القارة الهندية، وتتميز بكبر مساحتها التي تصل لحوالي 4 ملايين كم2، وهكذا تكون أكبر مساحة من دول أوروبا، وتعيش بها شعوب متنوعة في الأعراق واللغات، لذا تتسم المنطقة بمكانة جيوستراتيجية كبرى، وهو ما عبر عنه جون ماكيندر بأن من يُسيطر على آسيا الوسطى يُسيطر على العالم.(2)
وتتمتع دول المنطقة بموارد طبيعية هائلة في مجال الطاقة، إذ تُطل معظم دولها على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز، ويبلغ حجم الغاز الطبيعي فيها نحو 34% من الاحتياطي العالمي، كما أن احتياطاتها من النفط حوالي 27% من الاحتياطي العالمي، وتمتلك ثروات كبيرة من المياه العذبة والباطنية، واحتياطات ضخمة من المعادن والقطن والفحم.
من ناحية أخرى، يوجد بها قاعدة صناعية كبرى مبنية على إرث النظام السوفيتي، الذي جعل من هذه المنطقة مركزاً زراعياً وصناعياً كبيراً، حيث أمدها بالآلات والمعدات السوفيتية ونقل إليها خبرات العلماء في مختلف المجالات.(3)
أبرز ملامح التنافس الروسي التركي
اتسمت العلاقات الروسية التركية على مدار تاريخها بالتأرجح بين التقارب والتباعد، وقد دار بين الطرفين حروب طويلة على مدار خمسة قرون، ترجع إلى قيام العثمانيين بإسقاط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية عام 1453، نتيجة لذلك عملت روسيا القيصرية على محاصرة النفوذ العثماني في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز مستغلة الضعف الذي اعترى الإمبراطورية العثمانية مع أوائل القرن الثامن عشر.
وشهدت العلاقات بين تركيا والاتحاد السوفيتي السابق حالة من التحسن في بدايات الجمهورية التركية الجديدة وقبل الحرب العالمية الثانية، إلا أنه مع انضمام تركيا لحلف الناتو عام 1952 لتُصبح بذلك أداة الغرب في مواجهة السوفيت، عادت التوترات بين الطرفين مرة أخرى.
ثم حدثت محاولات للتقارب بينهما على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي مع انتهاء الحرب الباردة، كان أبرزها معاهدة أسس العلاقات في 25 مايو 1992، وخطة الأعمال المتعلقة بتطوير التعاون بينها في منطقة أوراسيا نوفمبر 2001، ورغم ذلك بقيت منطقة آسيا الوسطى والقوقاز ساحة للتنافس بين الدولتين.(4)
ماهية التواجد
يأخذ التواجد الروسي والتركي في آسيا الوسطى عدة وجهات ولأسباب مختلفة وسيتم عرض طبيعته في التالي:
بالنسبة لروسيا: قسم كريج أوليفانت في دراسته عن المصالح الروسية بآسيا الوسطى النهج الروسي في التعامل مع المنطقة خلال العقدين الماضيين إلى ثلاث مراحل، أولها تبدأ مع انهيار الاتحاد السوفيتي إلى منتصف التسعينيات، حيث لم يكن لها سياسة واضحة تجاه دول المنطقة، ثانيها كانت في النصف الثاني من التسعينيات، وحاولت استعادة نفوذها بالمنطقة استناداً إلى عقيدة بريماكوف.
وثالثها مرتبط بقدوم الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، والذي تزامن مجيئه مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وسعي موسكو لتكثيف تواجدها بآسيا الوسطى في شتى المجالات وخاصة الأمنية.(5) وتُشكل آسيا الوسطى المجال الحيوي لروسيا، وتعمل موسكو على حماية الروس الموجودين بالمنطقة، والذين يمثلوا نحو 23.7% من سكان كازاخستان، و12.5% من سكان قيرغيزستان وتركمانستان، و5.5% من أوزبكستان، وتتعامل مع حدود تلك الدول على أنها حدود أمنية لها، وخاصة من ناحية جمهورية طاجيكستان التي بها أعداد كبيرة من القوات الروسية على الحدود مع أفغانستان.(6)
وفي وثيقة الأمن القومي الروسية لعام 2020 أوضحت أن هناك مجموعة من المخاطر تواجه البلاد تتمثل في تطوير العقلية القومية وكراهية الأجانب والنزعة الانفصالية والتطرف العنيف بما في ذلك التطرف الديني، وأن هناك حاجة ماسة للتعاون في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها من المنظمات، فضلاً عن تطوير التعاون الثنائي في المجالين العسكري والسياسي مع دول المنطقة، للتغلب على هذه المخاطر، وهو ما يعني أن درجة تشابك السياسية الداخلية والخارجية الروسية تجاه آسيا الوسطى تتزايد بشكل كبير.(7)
ومن ناحية أخرى، مثّل تعافي موسكو من الأزمة الاقتصادية وزيادة الفوائض المالية لديها نتيجة الزيادة المستمرة في أسعار النفط حافزاً لها على التعامل مع دول المنطقة كسوق لنشاط قطاع الأعمال الروسي، كما ترغب على صعيد أخر في ضمان عدم قيام تلك الدول بتوسيع تحالفاتها العسكرية السياسية مع الغرب، وهو ما يتطلب منها تكثيف تواجدها في المنطقة خاصة مع التنافس بينها وبين الولايات المتحدة للسيطرة على المنطقة.)8)
بالنسبة لتركيا: كانت أول دولة تعترف باستقلال بلدان آسيا الوسطى، نظراً للروابط التاريخية واللغوية والثقافية المختلفة التي تجمعها بهذه الدول، وسعت أنقرة للتعاون مع هذه البلدان على عدة أصعدة، ثم سرعان ما تطورت علاقاتها الاقتصادية مع جمهوريات آسيا الوسطى، وحققت تقدم كبير في مجالات التجارة والنقل والاتصالات.
وبلغ حجم تجارة تركيا مع دول المنطقة نحو 7 مليارات دولار بحلول عام 2016، وتجاوز إجمالي استثمارات الشركات التركية في المنطقة 13 مليار دولار في ديسمبر 2017، كما أصبحت القيمة الإيجارية للمشاريع التي حققتها شركات المقاولات التركية في المنطقة حوالي 86 مليار دولار، وما يقرب من 4 آلاف شركة تركية تعمل على الأرض.
وتطورت العلاقات أيضاً في مجال الثقافة والتعليم؛ حيث تأسست المنظمة الدولية للثقافة التركية عام 1993، بهدف حماية الثقافة التركية والفن واللغة والتراث التاريخي، إلى جانب تقديم هذه القيم للعالم وتحويلها للأجيال الشابة، كما تقدم منح دراسية واسعة النطاق لطلاب المنطقة، وتوجد العديد من المدارس التركية التابعة لوزارة التعليم الوطني في جمهوريات آسيا الوسطى.
وتزعمت أنقرة قمة رؤساء الدول الناطقة بالتركية التي عُقدت عام 1992 من أجل زيادة التضامن بين البلدان الناطقة بالتركية وخلق فرص تعاون جديدة بينها، وقد اكتسبت تلك العملية هيكلاً مؤسسياً من خلال معاهدة ناخيتشيفان في 3 أكتوبر 2009 والتي نصت على إنشاء مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية، وتم تأسيس أمانة المجلس في إسطنبول، ويعمل المجلس في كل المجالات وعلى كل المستويات بالتعاون الوثيق بين الدول الأعضاء.(9)
وبصفة عامة، فإن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990، أفسح المجال أمام تركيا لزيادة نفوذها في المنطقة، مستغلة خروج جمهوريات آسيا الوسطى من التبعية الروسية، وانشغال موسكو ببناء علاقات جديدة مع واشنطن، وعدم قلق الاتحاد الأوروبي من تواجدها بالمنطقة، حيث نظر إلي تواجدها بأنه سيؤدى لنشر الديمقراطية وتعزيز مبدأ السوق الحرة، ورغم أن بعض بلدان آسيا الوسطى أبدت قلقها من الاستراتيجية التركية، لكن حاجاتها للاستثمار والدعم التركي هو ما جعلها تُرحب بالتعاون مع تركيا.(10)
دوافع التعاون
هناك مجموعة من العوامل عملت بمثابة حافز لكل من روسيا وتركيا لتحقيق مزيد من التعاون، منها استغلال روسيا وبلدان آسيا الوسطى الموقع الجغرافي التركي لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية الخاصة بها، كما تُساعد مشاريع التكامل الإقليمي على تعزيز التكامل بالمنطقة وخفض حدة التوترات فيها، وذلك في ضوء نظرة دول المنطقة الإيجابية لكل من روسيا وتركيا بسبب مواقفهما المحايدة إلى حد ما للتطورات السياسية الداخلية لهذه البلدان، فيما يتعلق بقضايا الانتخابات وحقوق الإنسان والديمقراطية.
وينبني التعاون التركي الروسي مع بلدان المنطقة على أساس الرفض للإسلاميين الراديكاليين، فتهتم الدولتان بالحفاظ على الطبيعة العلمانية للأنظمة السياسية بالمنطقة، والتي تُساعد في القضاء على عدم الاستقرار بأفغانستان المجاورة، ويتماشى ذلك مع التزام روسيا لضمان سلامة كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي وغيرها من الهياكل منها منظمة شنغهاي للتعاون، والتي أعطت لتركيا وضع شريك الحوار في 26 أبريل 2013.(11)
مجالات التعاون المحتملة
توجد عدد من المجالات التي تفتح فرص للتفاعل الروسي التركي يوجزها بعض الباحثين في العناصر التالية، أولاً إمكانية حدوث تعاون بين البلدين في إطار التكامل الأوروبي الآسيوي الناشئ (الاتحاد الجمركي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي) بسبب الجهود ذات الصلة التي تبذلها الوزارات الاقتصادية والوكالات الحكومية في الاتحاد الروسي وكازاخستان، التي تهتم بتعزيز التجارة والعلاقات الاقتصادية مع تركيا.
ثانياً احتمالية تأسيس مشاريع للطاقة بمشاركة روسيا والدول المُصدرة من آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان)، فضلاً عن تركيا كأكبر بلد في أوروبا يمر عبره الطاقة، وثالثاً أن هناك مجال للتعاون بين الوكالات العسكرية والدبلوماسية لروسيا وتركيا في مجال الأمن الإقليمي، وخاصة بأن المشكلة الملحة على المدى القصير تكمن في القدرة على مواجهة التهديدات المحتملة من أفغانستان، بعد أن أكملت الولايات المتحدة والقوة الدولية للمساعدة الأمنية مهمتهما في عام 2014، وتبدو أفضل الطرق لمعالجة هذه المشكلة في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تضم روسيا وآسيا الوسطى إلى جانب تركيا وأفغانستان.
رابعاً تتيح قضايا مكافحة الجريمة والاتجار بالمخدرات والنقل غير المشروع للأشخاص والسلع والأسلحة بعض الفرص للتعاون بين تركيا وروسيا في آسيا الوسطى، ويتم ذلك عن طريق التعاون بين الوكالات الحكومية الروسية والتركية.(12)
وختاماً، يمكن القول بأن ثمة مؤشرات توضح تحسن العلاقات الروسية التركية حديثاً، منها اللقاء الذي جمع الرئيس أردوغان مع نظيره الروسي بوتين في سان بطرسبرج أغسطس 2017، ولعب رئيس كازاخستان نور سلطان نازارباييف دوراً هاماً كوسيط بين الطرفيين لعقد ذلك اللقاء، بما يدل على احتمالات التعاون في المنطقة بينهما، خاصة في ضوء تصاعد التهديدات الإرهابية للمقاتلين العائدين إلى آسيا الوسطى من بؤر الصراعات في سوريا والعراق، ولمحاصرة النفوذ الأمريكي بالمنطقة، بالنظر إلى الرؤية الأمريكية المنزعجة من التواجد الروسي في وسط آسيا، والتي اتضحت مؤخراً في التقرير الذي عرضه رئيس القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل أمام لجنة شئون القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، وحذر فيه من تصاعد النفوذ الروسي بدول المنطقة، والذي يرى أنه يُعرقل الجهود الأمريكية للتواصل مع هذه البلدان.(13)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1 – محمد نجيب السعد، آسيا الوسطى: ساحة صراع وتنافس دولي، موقع جريدة الوطن العُمانية، 12 سبتمبر 2015، على الرابط التالي: http://alwatan.com/details/76453
2 – المرجع السابق.
3 – محمد الأمين مقراوي الوغليسي، الصعود التركي في آسيا الوسطى الواقع ولآمال، موقع مجلة البيان، على الرابط التالي: http://www.albayan.co.uk/mobile/article2.aspx?id=5507
4 – أحمد دياب، أبعاد الصراع التركي الروسي وتداعياته، موقع مجلة السياسة الدولية، 17 يناير 2016، على الرابط التالي: http://www.siyassa.org.eg/News/7623.aspx
5 – Craig Oliphant, Russia’s role and interests in Central Asia, Safe World Organization, October 2013, p 3, pdf.
6 – حنان أبو سكين، بين الصراع والتعاون: التنافس الدولي في آسيا الوسطى، موقع المركز العربي للبحوث والدراسات، 10 يونيو 2014، على الرابط التالي: http://www.acrseg.org/6940
7 – Craig Oliphant, op cit.
8 – حنان أبو سكين، مرجع سابق.
9 – العلاقات التركية مع دول آسيا الوسطى، موقع وزارة الخارجية التركية، على الرابط التالي:
mfa.gov.tr/العلاقات-التركية-مع-دول-آسيا-الوسطى.ar.mfa
10 – باسم الحاج جاسم، تركيا في آسيا الوسطى، موقع العربي الجديد، 9 مايو 2018، على الرابط التالي:
nl.hideproxy.me/opinion/2018/5/8/تركيا-في-آسيا-الوسطى-1
11 – Dina Malysheva, Russia and Turkey in Central Asia: Partnership or Rivalry?, Russian International Affairs Council, 16 march 2015, on the link:
http://russiancouncil.ru/en/analytics-and-comments/analytics/russia-and-turkey-in-central-asia-partnership-or-rivalry/
12 – ibid
13 – البنتاغون: نفوذ روسيا في آسيا الوسطى مشكلة لنا، روسيا اليوم، 27 فبراير 2018، على الرابط التالي: arabic.rt.com/world/929621-البنتاغون-نفوذ-روسيا-في-ىسيا-الوسطى-مشلكة-لنا/
المصدر/ المركز العربي للبحوث والدراسات