تحالف “شلة” التوريث والدعاة الجدد ضد “أسامة أنور عكاشة” !

تحالف “شلة” التوريث والدعاة الجدد ضد “أسامة أنور عكاشة” !

خاص : بقلم – وائل لطفي :

في عام 1982؛ كنت صبيًا في الثامنة من عمري وكان مسلسل (الشهد والدموع) يعرض جزءه الأول في فصل الشتاء.. كانت والدتي على عادة أمهات ذلك الزمان تلتزم نوعًا من الشدة فيما يتعلق بالدراسة، وكان من مظاهر تلك الشدة أنها لا تسمح لي بمشاهدة مسلسل السابعة والربع الشهير.. كنت أحاول محاولات متعددة على طريقة “التسلل”؛ فما إن يبدأ المسلسل حتى أخرج من غرفتي إلى الصالة متظاهرًا بالسؤال عن أمر ما وأحاول البقاء أمام الشاشة منتظرًا رد فعل أمي.. في كل المرات كانت أمي تكتشف لعبتي وتقول لي: “ادخل ذاكر”؛ أظن أن السبب كان له علاقة بخوفها من أن تحتوي المسلسلات على ما لا أفهمه كطفل.. كان هناك مسلسل واحد تغاضت أمي عن تسللي للصالة لمتابعته.. لم تعقب على خروجي لصالة المنزل بجملتها الشهيرة: “ادخل ذاكر”، نجح الأمر في اليوم الأول والثاني والثالث؛ حتى أصبحت مشاهدة (الشهد والدموع) حقًا مكتسبًا وأمرًا متعارفًا عليه.. لا أدري الدافع الحقيقي لتسامح أمي مع مشاهدتي لـ (الشهد والدموع)؛ ثم لـ (ليالي الحلمية) في العام الذي يليه.. هل أحبت المسلسل وأطمأنت له ؟.. هل رأت أن مشاهدته تُفيد في تربيتي ؟.. هل الأمر محض صدفة ؟.. في الحقيقة لا أعرف.. لكن ما أعرفه أنني أحببت “أسامة أنور عكاشة” منذ الطفولة.. وكبرت على مسلسلاته وتوحدت مع أبطاله وأعتنقت كثيرًا من أفكاره.. حين صرت صحافيًا شابًا قصدت بابه لأحاوره؛ وكان من المنطقي أن يكون “أسامة” أبرز كُتّاب مجلة (روزاليوسف) في عصرها الذهبي؛ (1992 – 1998)، وهي فترة تحولت فيها المجلة لمنصة للثقافة المصرية الوطنية تُعادي التطرف والفساد ولا ترتاح كثيرًا لأفكار مجانية يُطلقها البعض حول التطبيع.. كانت سيناريوهات “أسامة أنور عكاشة”؛ ومعه “وحيد حامد”، هي المُعادل الفني لهذه الخلطة الفكرية التي آمنت بها والتحقت بـ (روزاليوسف) لأشارك في التعبير عنها.. بينما حملها قلم “أسامة أنور عكاشة” للملايين عبر خيال مبدع ودراما محبوكة وشخصيات من لحم ودم.. كان “أسامة أنور عكاشة” مثل كل الكبار متواضعًا وبسيطًا.. ما إن تطلب مقابلته حتى يقول لك تعال.. بلا عُقد ولا حسابات ولا “كلاكيع”، كان في ذلك الوقت من التسعينيات يسكن في “حدائق الأهرام”.. وكان ذلك وقتها حيًا بعيدًا للغاية.. تصل إليه مواصلات نادرة ومع ذلك كانت الرحلة بالنسبة لي ممتعة.. كان يُخصص لنفسه حجرة مكتب في منزله ويضع مكتبه بحيث يواجه الحديقة المقابلة لشقته السكنية.. يرتدي جلبابًا قطنيًا كان شائعًا وقتها ونعرفه باسم: “العباءة المغربية” ويرتديه كل المصريين بمختلف طبقاتهم.. يجلس على مكتب صغير وأمامه علبة سجائر أجنبية، ولكن الغريب أن المكتب أيضًا كان عليه “بايب” أو غليون مع أدوات تنظيفه والدخان الخاص به.. وإلى جانب المكتب كانت هناك “شيشة” !.. وكان الغريب أنه تناوب على تدخين الثلاثة أنواع، ونحن نتحاور عرفت منه أنه يجمع بين تدخين الأنواع الثلاثة في أوقات معينة حتى يستطيع التركيز في الكتابة.. وقد كانت هذه ضريبة حبه لعمله ورغبته في الوصول لأفضل نتيجة ممكنة؛ وكانت النتيجة أنه رحل في سن مبكرة نسبيًا.. أو أن العمر لم يمتد به كما امتد بعدد من المصريين الاستثنائيين مثل: “نجيب محفوظ” والأستاذ “هيكل”.. رحل “أسامة” مبكرًا وكأنه تعب من المعارك والمواقف التي دفع ثمنها كاملًا قبل رحيله.

عدو الفساد والتطرف..

هناك عشرات الأسباب التي تجعلنا نتوقف لتكريم “أسامة أنور عكاشة”.. أسباب فنية وأخلاقية ووطنية وعاطفية ووجدانية أيضًا.. لكن الحقيقة أن “وطنية”؛ “أسامة أنور عكاشة”، على رأس هذه الأسباب.. فهو نموذج لمثقف وطني.. يعي جيدًا أعداء هذا البلد ويقف موقفًا قويًا من “التطرف” و”الفساد” طرفي تحالف طيور الظلام.. وقد تحالف التطرف والفساد ضده فيما تلا عام 2004، وهمّش رجال “أمانة السياسات” في الإعلام أعماله وأسقطوه عن عرشه ورفضوا إنتاج مسلسلاته وقدموه قربانًا لمجموعة من رجال الأعمال كانوا يتهمون الإعلام والدراما بتشويه صورتهم وتقديمهم كفاسدين ومستغلين في حين أنهم ليسوا كذلك.. وبطبيعة الحال فقد كانت أعمال “أسامة أنور عكاشة” في القلب من هذا الاتهام.. وما إن جاءت حكومة “أحمد نظيف”؛ في 2004، حتى أنزوت أعماله وتخلف كبار النجوم عن لعب أدوار البطولة فيها وانطلقت بعض الأقلام تتهمه لأنه فقد بريقه ولم يعد كما كان في سابق عهده.. ولم يكن من الوارد طبعًا أن تُنتج له قنوات رجال الأعمال أو أن تعرض مسلسلاته.. فزاد هذا من الحصار المفروض عليه وإحساسه بالتهميش وبأنه يُعاقب على موقفه من التوريث وانتقاده التداخل بين رجال الأعمال ودوائر الحكم، ووصل الأمر إلى قمته حين رفض التليفزيون المصري إنتاج الجزء الثالث من (المصراوية)؛ بحجة أن الجزءين السابقين لم يُحققا النجاح المطلوب.. ولا أعرف هل أدرك “أسامة أنور عكاشة” ما يتعرض له أم لا.. لكن ما أرصده كباحث أن السياسة الإعلامية في “مصر” شهدت تغيرًا كبيرًا منذ بداية الألفية وإجراءات التكيف الهيكلي وظهور مجموعة رجال الأعمال الجدد وأن هذا شهد تغييرًا في صياغة وعي المصريين، حيث كانت الدراما هي التي تتولى صياغة هذا الوعي طوال الثمانينيات والتسعينيات من خلال كبار الكتاب مثل: “أسامة أنور عكاشة” و”محفوظ عبدالرحمن” و”وحيد حامد” و”يسري الجندي” و”كرم النجار”.. و”محمد جلال عبدالقوي”؛ (كان يُعبر عن تيار فكري محافظ)، ولا شك أن وزير الإعلام “صفوت الشريف”؛ رغم أي تحفظات عليه كان مدركًا دور كبار الكُتاب والفنانين في صياغة وعي المصريين، وأنه تم تعطيل هذا الدور بعد مغادرته منصبه كوزير للإعلام ضمن حزمة التغييرات الجديدة استعدادًا للتوريث.. وكان الملاحظ أن هذا التراجع في دور “أسامة أنور عكاشة”؛ كصائغ لوعي ملايين المصريين عبر الدراما، تزامن مع صعود من عرفوا باسم: “الدعاة الجُدّد” عبر القنوات السعودية وقنوات رجال الأعمال فى “مصر”؛ ليرث الداعية دور الكاتب ويحل الدعاة الجُدّد بخطابهم المُحابي لرجال الأعمال والمفصل خصيصًا لمدح الثروة والأثرياء وإرضاء “جماعة الإخوان” وخدمتها؛ محل كاتب مثل “أسامة أنور عكاشة”، كان ينحاز للحارة في مواجهة السرايا مثلما فعل في (الشهد والدموع) و(ليالى الحلمية)؛ وينحاز للرقي في مواجهة القُبح مثلما فعل في (الراية البيضا) و(ضمير أبله حكمت) و(أرابيسك).. ولا شك أن “أسامة” بهذا المعنى كان “شهيدًا” بشكلٍ ما.. ولا شك أيضًا أن “مصر” دفعت غاليًا ثمن جريمة تغييبه وزملائه ومنعهم من التأثير في الأجيال الجديدة من المصريين التي باعتها حكومة التوريث لشلة التوريث من جهة ولدعاة الإخوان ورجالهم من جهة أخرى، ليشكلوا وعيها وطريقة تفكيرها ويقنعوها بكل ما هو سطحي وتافه وشكلي واستهلاكي وغير مصري ورخيص.. لقد كانت هذه جريمة تاريخية كاملة الأركان عوقب كل من تصدى لكشفها ومقاومتها وكان “أسامة أنور عكاشة” على رأس هؤلاء.. ولم يكن غريبًا أن يصطاده أحد الدعاة الجدد على شاشة غير مصرية من رأي فني أبداه في شخصية الصحابي؛ “عمرو بن العاص”، حيث قال إنه لا يجد في شخصيته ما يستحق التجسيد دراميًا وإنه يعترض على دوره السياسي.. اتخذ الدعاة الجُدّد من مرتزقة الإعلام غير المصري ذلك التصريح تكئة لتكفير “أسامة” واستفزازه وجره إلى معركة تافهة. وكان هو بطبيعته مقاتلًا وعنيدًا.. وتقدم أحد المتطرفين بدعوى حسبة ضده في المحكمة وفرضت الشرطة حراسة شخصية عليه في آخر عامين من حياته.. والمعنى أنه كان مثل “نجيب محفوظ” و”يوسف إدريس”؛ وكل مثقفي “مصر” العظام، مصريًا شريفًا ضد الفساد والتطرف يغار على بلده ويحلم بأن يكون كما يستحق ويرفض أي نفوذ ثقافي لغير المصريين على “مصر”.. كان مصريًا شريفًا، ولاؤه لـ”مصر” لا يشتريه درهم ولا دينار ولعل هذا كان سر عذابه.

المصري..

كان “أسامة” مصريًا بدرجة تهز الوجدان؛ وكان مفكرًا كبيرًا في ثوب سيناريست، ولم يكن يُنافس عمق أفكاره سوى حلاوة الحوار الذي يُجريه على لسان أبطاله وحبكة الصراع في مسلسلاته، وكان من علامات غيرته على “مصر” كتاباته الواضحة والجريئة ضد ما أسماه: “وهبنة” مصر.. أو نشر الأفكار الوهابية فيها.. كان يقول هذا قبل أن تبدأ المملكة التحول نحو التنوير بسنوات طويلة؛ وفي وقت كانت السياسة الرسمية للمملكة هي نشر الوهابية بالفعل، وقد كانت هذه شجاعة كبيرة منه دفع ثمنها غاليًا بكل كبرياء كما يليق بنابغة مصري من أبناء “مصر” وعارفي قيمتها.. وأذكر أن غيرته على “مصر” دفعته للدخول في معركة حامية مع المخرج السوري؛ “نجدة أنزور”، على صفحات (روزاليوسف)؛ في 1994، بعد أن هاجم “أنزور”؛ الدراما المصرية، واتهمها بعدم التطور والجمود وكان من علامات مصريته الناصعة انشغاله بسؤال الهوية.. من نحن ؟.. وعلى أي نمط بناء سنبني بلدنا.. هل نحن فراعنة ؟.. هل ننتمي للبحر المتوسط وجنوب أوروبا ؟.. هل نحن عرب يجب أن نذوب في الوطن العربي والثقافة الإسلامية العربية ؟.. حمل “أسامة” هذه الأسئلة على ظهره في مرحلة النضج الفكري وعبر عنها بشكل واضح في (أرابيسك)؛ وبطله هو المواطن المصري بعيوبه قبل مميزاته.. “حسن النعماني”.. الصنايعي الماهر والكسول أيضًا.. الذي قاتل في حرب أكتوبر (تشرين أول) وعبر ثم استكان إلى اللا فعل.. “حسن” الذي يُنافسه قريبه الرخيص؛ “رمضان الخضري”، ويُحقق أرباحًا أكثر منه مئات المرات، والذي يخطف ابنه منه سوقي آخر؛ هو “رمضان الدكش”، الذي يرتدي جلبابًا أبيض ويعيش في دولة عربية، وكأنه يرمز لشيء ما.. ثم يطارده (الموساد) حين يُشرع في بناء قاعة على الطراز العربي في فيلا عالم مصري عائد من الغرب.. هؤلاء هم أعداء “حسن النعماني”؛ الذي اختطف “سليم الأول”؛ جده، وحبسه في “الآستانة”.. “الخضري” الفاسد و”الدكش” المتطرف و(الموساد) المتربص.. أما الفيلا كلها فتنهار لأن الجمع بين “الغربي” و”الشرقي” لن ينجح.. “حسن النعماني” هو المواطن المصري؛ وهو أيضًا “أسامة أنور عكاشة” نفسه.. سؤال الهوية يُعبر عن نفسه أيضًا في (زيزينيا)، حيث بطله “بشر عامر عبدالظاهر”؛ من أب يرتدي الجلباب وأم إيطالية.. وهو نفسه: “بوتشي”؛ حين يذهب لأخواله في “زيزينيا”، والمعلم “بشر” حين يذهب لمنزل والده في “كرموز”.. وهو يحب “إيدي” أو “عايدة” المتفرنجة، لكنه يتزوج “سمحة” بنت البلد.. مصري آخر مضطرب ومرتبك بين هويات مختلفة.. لكنه شريف وأخلاقي وواضح.. مصري آخر مرتبك ولكنه حقيقي وصادق؛ هو “علي البدري”.. المرتبك بين مبادئه وقانون السوق.. بين رومانسيته التي كانت سببًا في عذابه وبين القسوة التي تُخالف طبيعته.. بين الأحلام الكبيرة للوطن، وبين الأهداف الصغيرة للشخص.. بين “اشتراكية عبدالناصر” وبين مشاركة أقارب المسؤولين في زمن “مبارك”، (يُحسب للرقابة أنها سمحت بذلك الخط وقتها)، بين دفء “الحلمية” في الستينيات وبين برودة شقة “الزمالك” في التسعينيات.. حيرة “مصر” المستمرة حتى الآن؛ وهي تسير في طريق المستقبل، وهناك من ينوح ليُرجعها للماضي.. هناك الكثير والكثير جدًا ليُقال حول “أسامة أنور عكاشة”؛ المثقف صاحب البصيرة.. والكاتب النزيه والمفكر العملاق ابن المشروع الوطني المصري الذي حاربه طيور الظلام وعملاء الخارج ووزراء التوريث ودعاة الإخوان.. لكنه هو الذي بقي في النهاية.. سلامًا عليك في ذكراك أيها المصري النزيه.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة