10 أبريل، 2024 8:38 م
Search
Close this search box.

تجاور السرد والأداء المسرحي في رواية (امرأة تخشى الحب) ل”مصطفى لغتيري”

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

كتب: محمد غزلي

اقترن تطور الرواية بانفتاحها على أساليب تعبيرية مختلفة كنوع من الترحال الإبداعي، هذا الترحال ستكشف عنه رواية (امرأة تخشى الحب) للروائي مصطفى لغتيري، ليس ترحالا من مكان إلى مكان كما عشناه في سيرته الروائية (شهوة الأمكنة)، إننا نتحدث هنا عن تيمة الترحال من فن إلى فن أو من جنس أدبي إلى فن من الفنون الجمالية، وما يحدث أثناء ذلك من التداخل والامتياح أو التأثير والتأثُّر، ونعني هنا تحديدا الترحال من السرد إلى المسرح، إذ لم يعد غريبا أن تتداخل الأجناس الأدبية تلقائيا، أو تحت تأثير اتجاهات الكتابة خارج الحدود والقواعد. وكما هو معلوم فإن نسبة التباعد والتقارب والامتياح بين الفنون والآداب مسألة باتت من البديهيات، وباعتقادنا أن أي جنس أدبي لا تجمعه أي رابطة ثقافية أو فنية أو لغوية أو دلالية مع بقية الفنون يعتبر جنسا أنانيا مصابا بجنون العظمة والتفوق أو أنه يخشى من هاجس التناص والاقتباس والالتقاء. هكذا نرى أن الكاتب الروائي المبدع مصطفى لغتيري  قد وقع في حبائل الانفتاح على المسرح وأبدع  في هذا الترحال الممتع رواية (امرأة تخشى الحب) الشيء الذي نعتبره تنويعا جماليا يكرس لدينا الفكرة القائلة أن ما تمة أي استقلال تام بين الأدب وبين الفنون الأخرى.

رواية (امرأة تخشى الحب)، تتحدث عن المرأة المطلقة، المرأة المِثلية، المرأة الفنانة المسرحية، المرأة الكاتبة المثقفة، في قالب حكائي يتلاءم فيه السرد مع التمثيل المُمَسرح.

بطلة الرواية امرأة تدعى ماريا وهي الساردة، تخشى الحب لأنها مرت بتجربة زواج فاشلة رسخت لديها فكرة الرفض الابدي للزواج مستقبلا، لا تريد أن تتزوج وتُطَلَّق مرة ثانية، فصفة مُطَلَّقَة لا تُحتمل في مجمتع متخلف الكل سيعتبرها امرأة سيئة، الرواية تشير إلى أن المرأة المطلقة مرة واثنتين وثلاثا امرأة شريرة، عكس الرجل الذي لا يعتبر  شريرا إذا صدر منه فعل التطليق ولو لألف مرة، كما في رواية (اختلاس) للروائي السعودي هاني نقشبندي، وتجعلنا نعتقد أن الزواج العصري مُشكلة بوصفه عنصرا كارثيا حينما تكتفي المرأة بذاتها وعدم حاجتها إلى الرجل كشريك حياة قد يحد من حريتها، فماريا تريد أن تكون امرأة لا أن تكون خادمة في بيت زوجها، زوج غير مؤهل، كسول يعتمد على مدخرات زوجته ويطمع في أموال عائلة زوجته، وهي بالتالي تثير ظاهرة الزواج من امرأة ميسورة، ابنة عائلة ميسورة تتحمل معه تكاليف الحياة، والواقع أنه يريدها أن تتحمل عنه تكاليف الحياة. وجهة نظر لها راهنيتها وتختلف عن نظرتنا للزواج التقليدي.

الرواية عمل تتحرك شخصياته ضمن إطار عرض مسرحي اختاره الكاتب كمكون سردي تُنسج حوله جميع الأحداث والعلاقات بين الشخوص، بدءا من تلقي البطلة مكالمة هاتفية من صديقتها رُقَية لحضور عرض مسرحي ومن ثم تتشكل داخل الرواية مسرحية بشخوصها وأحداثها ورموزها، وانتهاء بلقاء مارية (الساردة) بالمخرج المسرحي شفيق بعد نهاية العرض المسرحي، الذي نعتبره لقاء سرد ومسرح انبعثت من خلال حواراته أسئلة مارية للمخرج شفيق والتي هي في الحقيقة أسئلة الجمهور المتلقي حول ماهية المسرح التجريبي وحدوده ووظيفته وعبثيته، من هنا تعطينا الرواية إمكانية وحق الجمهور في التساؤل وأن يسائل العمل أو أن ينقده، كما أنها تعطينا إجابات تكشف لنا تلك الماهية، أعني ماهية المسرح التجريبي.

العرض المسرحي (عقدة النص) الذي ستحضره بطلة الرواية/ الساردة ماريا يمكن أن نعتبره وضعية الاتصال والتواصل والارتباط بين الشخوص كما أشرنا سابقا، ومن جهة أخرى يعتبر علامة على ميولات وأهواء الكاتب المسرحية، فأن تكتب الرواية بلمسة فنية مؤشر على ذائقة مسرحية  لها علاقة منسجمة مع الفنون الأخرى وبشكل خاص مع الفن المسرحي، فقليلة هي الأعمال الأدبية التي استطاعت أن تنفتح على فنون أخرى كالموسيقى والنحت والرسم والسينما والمسرح الخ.

ربما لأن الكتابة على هذا النحو تتطلب تكوينا أكاديميا موسوعيا، أو ربما  لأن هذه الفنون تحكمها الفئوية والنظرة النخبوية لذلك نجد طغيان الفضاء المخملي على رواية (امرأة تخشى الحب) بما يؤشر على نوعية الفئة المستهدفة بتلك الفنون ألا وهي الطبقة الاريسطوقراطية الفارعة، إذ نلاحظ أن الإطار العام للفضاء المكاني يتأثث من ثريات فخمة وصالونات مفروشة وشموع حمراء وأفرشة تنتمي لديكورات السجاد الاحمر وأَسِرًّة تؤثث تلك البيوتات.. الخ كما في هذا المشهد، حيث أحضرت الأستاذة رقية الكاتبة المسرحية ” قنينة خمر.. وأشعلت لفافة وبدأت تدخن.. وكانت في الأجواء موسيقى عالمية جميلة تبدأ هادئة ثم ترتفع تدريجيا” ص99 في محاولة إغواء صديقتها ماريا والإيقاع بها في حمأة الشهوة السَّحاقية (الشذوذ الجنسي).

هذه الفئة المستهدفة، نعتقد أنها فئة مُرَفَّهة تجاوزت مناطق الخطر الاجتماعي ولم يعد يغريها البسيط والتقليدي والمألوف في الفن والتشكيل والمسرح والقيم الإنسانية، بل نعتقد، إذا استطعنا أن نقرأ ما خلف السطور، أنها الوسط المناسب لتناسل الظواهر الجنسية الشاذة، المثلية الأنثوية كنموذج نصي، وما جاورها من ظواهر كالاستغناء عن الرجال بالمُطلق. بل يمكن أن نصنفها خطابيا ضمن الكتابات الروائية الساخطة على الرجال والحاضرة بشكل بارز في الساحة الأدبية الروائية في الوقت الراهن إذ لها ما يبررها على اعتبار الوسط الباذخ المنفلت من كل القيود المكبلة للحرية الفردية والجماعية الذي تعبر عنه أو تنطلق منه.

من هنا انفتحت الرواية على نوع غير تقليدي من المسرح ألا وهو المسرح التجريبي باعتباره فنا نخبويا فئويا، موجها لنخبة النخبة، وليس إلى الجمهور الفُرجوي، معتمدا على جمهور نوعي ربما موسوعي الثقافة هو الآخر، ذلك أن وظيفة المسرح التجريبي هي “إرباك الجمهور. المسرح التقليدي يعطي للجمهور كل شيء، وهذا يصيب المتلقي بالبلادة الذهنية والحسية والعاطفية. في حين يفتح المسرح التجريبي بأسلوبه المختلف للجمهور مجالا للمساهمة في بناء المسرحية” ص70. بل إنه يعتمد على ضبابية الفكرة كما تقول إحدى ا الشخصيات: “ربما لو كان للمسرحية موضوع   واضح وفكرة عامة ومرتبة لاستقطبت المزيد من الجماهير”71. وكما تم تقديمه في إحدى الحوارات على أنه “يراهن على البلبلة.. على اللامعقول، وغياب الحدث بمعناه التقليدي.. شخصياته ممزقة وبدون ملامح محددة. إنه لا يطرح موضوعا معينا، بل حالات مسرحية قد لا يكون هناك رابط منطقي بينها. لكنها تفجر في نفسية المتلقي وذهنه ووجدان كثيرا من الأحاسيس والأفكار المتناقضة”. “إنه تجربة فنية غير نمطية، مسرح غير مفهوم، مشاهد مربكة، تحدث البلبلة لدى المتفرج. فوضى منظمة”. ص35.

هكذا ننغمس في النص المسرحي برغم ما يبدو من انفصاله المضموني عن سرد أحداث الرواية، والحقيقة أن وشائج الارتباط بين السرد والمسرحية في الرواية تعطي الانطباع بالتكامل والتشابه حيث تبدو المسافات متقاربة جدا بين ما يقصد طرحه الكاتب (ومخرج المسرحية) للمتلقي المتفرج أو القارئ، فكل شيء يتحرك بقانون مضبوط، إذ تصعد بنا الرواية/ السرد إلى قمة التشويق باصطناع أحداث مدهشة مثل ما حدث أثناء العرض المسرحي، رجل ينزل من الخشبة ويشرع في الصراخ وسرعان ما يتوجه للجمهور ويمسك بشعر رأس امرأة ويسحبها معه إلى الخشبة متهما إياها بأنها تخفي عنه شيئا مهما أداء كنوع من الفن المسرحي الذي يشرك الجمهور في صناعة الفرجة.

– إنها الرواية التي أومن بها شخصيا، الرواية التي تعالج حالات وظواهر معيشة تنتمي لواقعنا وتبتعد عن أي ثرثرة سريالية أو خيالية، ولو أن النص  يعتمد على مخيلة المتلقي لإتمام الصورة ونقلها من الصورة الذهنية إلى الواقع أو الحقيقة.

على أن الكاتب يعزز تصوراتنا بالصورة وعكسِها كما في تجربة ماريا ورُقيّة، ماريا امرأة تفضل الوحدة والعزلة على الزواج على أساس تجربة زواج فاشلة، ليتحول الوقوع في الحب بالنسبة لها إلى “كارثة” ص45، وتصبح أكثر احتراسا وحذرا من أن يميل قلبها لأي رجل” ص50. وتتمنى فقط لو تستطيع إعادة عقارب الزمن إلى الخلف، لتمحو صفحة الزواج من حياتها. ص63.

هذه التجربة الفاشلة رسخت لديها فكرة الرفض، بينما (في الصورة العكسية) رقية الكاتبة المسرحية مِثلية الجنس صديقة مارية لها نفس الفكرة، لم تتبناها من تجربة زواج فاشلة وإنما عن رؤية تصورية ذهنية مبنية على فلسفة شخصية  تقول رقية لصديقتها ماريا:” أعرف تجربتك المريرة. أنا حسمت أمري بدون المغامرة في أي تجربة، أو لنقل كانت تجربتي ذهنية فكرية، الثقافة حصنتني من الرجال، وهأنذا سيدة نفسي. لا يتحكم في قراراتي ولا عواطفي أي رجل” ص85.

ولو نظرنا للرواية من زاوية ذكورية بحتة لأمكننا أن نتصور ما ينطوي عليه موقف الإقصاء المتعمد للرجل

وانعكاسه على المسرحية الثانية التي كتبتها الأستاذة رقية وأطلعت صديقتها مارية على مخطوطتها إذ “لاحظتْ أن كل شخصيات المسرحية نساء”95، مسرحية تجسد عنصرية نسوية متطرفة، كما تجسد الإقصاء المتعمد للرجل وبالتالي تضعنا أمام علاقات إنسانية فاقدة للدفء مفككة أشبه بمسرحية تجريبية كل شيء فيها مفكك.  نقرأ: “إنها -أي المسرحية- احتفاء مقصود بالمرأة. أحداث متداخلة وغير مترابطة.. المسرحية عبارة عن لوحات تقدم نماذج من النساء اللواتي يحفل بهن المجتمع. لكنهن يتفقن في اكتفائهن بذواتهن وعدم حاجتهن إلى الرجال” ص97.

خاتمة.

لقد سعى الروائي مصطفى لغتيري أن تكون رواية (امرأة تخشى الحب) مسرحا لنوعين من الأساليب التعبيرية الإبداعية، السرد والمسرح، وهكذا بتنا أمام مشاهد مُرَكَّبة تجمع بين العرض المسرحي والحدث السردي على نحو متكامل،(مُرَكَّبة) تركيبا جَسَّد القطيعة مع المفهومات التقليدية حول المسرح وكذا العلاقات الجنسية وتحولها إلى عبثية التجريب بالنسبة للأول و إلى المثلية الأنثوية بالنسبة للثاني لدى فئة نسائية ذات ميولات مُرتبكة فنيا وشاذة جنسيا دون أن تغفل الرواية في نهاية السرد موقفا آخر لا يمارس المِثلية ولا يمنع من ممارستها في نفس الآن، يمكننا اعتباره موقفا تَرضويا جَسّدته ماريا إذ تقول: “لقد مرَرتُ من اختبار حقيقي، وتأكدتُ بما لا يدع مجالا للشك بأنني بعيدة عن أن تكون لي ميولات جنسية شاذة.. لم أحقد على الأستاذة رقية ولم أكرهها.. لقد تعلمت منذ صغري أن أحترم الاختلاف. لا شيء لدي ضد الشواذ بشتى أنواعهم” ص101.

نهاية لم تفصح عن طبيعة العلاقة الممكنة أو اللاممكنة مع الشذوذ  بل تضعنا أمام إشكالية التطبيع الثقافي مع العبث ربما كخطوة أولى لدفع المتلقي (سواء القارئ أو المتفرج) نحو التقبُّل والتراضي.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب