خاص: قراءة- سماح عادل
نواصل البحث واكتشاف كيف تعامل الإنسان القديم مع الجنون. حيث رصد الكتاب “تاريخ الجنون.. من العصور القديمة وحتى يومنا هذا” تأليف “كلود كيتيل”، ترجمة “سارة رجائي يوسف”، “كريستينا سمير فكري” كيف تناول العبرانيون الجنون، وكيف ظهر في العهد الجديد.
الإله والجنون..
يكمل الكتاب عن أساطير الإغريق والجنون: “مع آلهة الأسطورة الإغريقية، على الرغم مما كانوا يبدونه من قسوة مع البشر، فقد كان من الممكن في بعض الأحيان تقديم تنازلات للوصول إلى اتفاق معهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الآلهة، التي تكون بشرية للغاية، في أحيان كثيرة، لا تتعامل بقسوة إلا بدافع العاطفة أو التسلية، فإن ذلك يخلق مساحة مشتركة من التفاهم والعلاقات المتبادلة. ولا يوجد مثل هذا مع الإله الأوحد لأول دين كتابي. مع عقيدة التوحيد بوجه عام، ليس هناك مجال للمزاح. إن إله العبرانيين والعهد القديم، والذي يُدعى يهوه، محب للانتقام وعنيف في أغلب الأحيان. ألم يطلب من إبراهيم التضحية بإسحاق، ابنه البكر؟
وسيجيب البعض قائلًا: إن يهوه لم يكن يريد إلا اختبار عبده إبراهيم بدليل وجود كبش الفداء الذي حل محل ولده في اللحظة الأخيرة. إذا سلمنا بذلك، فهذا لا يبرر أن الأب قد وافق، باسم الرب، على قتل ابنه حيث كان إبراهيم قد قيد بالفعل ابنه على مذبح المحرقة. وبالفعل، مد يده ليمسك بالسكين. وهكذا ظهر إله جديد.
عندما عرفتِ التعاليم اليهودية المجنون على أنه الإنسان الذي يفقد عطية مُنحت له، كان يقصد بذلك المريض عقليٍّا وأيضًا الخاطئ الذي لم يستطع الحفاظ على إيمانه وفضيلته باعتبارهما عطيتين من لله. بالإضافة إلى ذلك، أليس المريض عقليٍّا مسئولًا، في نهاية المطاف، عن السماح لنفسه بالانزلاق في هوة الجنون وذلك بنسيان لله ومن ثم الاستهانة به؟”.
الجنون والإثم..
ويواصل الكتاب عن العلاقة بين الإثم والجنون: “هذا الجمع بين المجنون والآثم لم يكفَّ على أي حال عن التأثير في التقليد اليهودي- المسيحي. وفي هذا الصدد، يمكن أن يأخذ الجنون طابعًا جماعيٍّا. هكذا، كان موسى يحذر شعبه قائلًا إنهم إذا حادوا عن طريق الإيمان، فسيضربهم الرب بالجنون. وهكذا كان اليهود يدعون السامريين مجنون، آثم، شرير، كلها مترادفات لشيء واحد.
ويبلغ التشاؤم ذروته حين يكون جنون الإنسان أمرا مثيرا للحزن أكثر من موته، كان من الصعب معرفة مصير المجانين ينتظرهم بالطبع مصير لا يُحسدون عليه، في إطار مناخ ديني متعصب إلى أبعد حد عن الحضارات المؤمنة بعدة آلهة، وفي سياق بيئة دينية ترفض، بل وتُحرِّم اللجوء إلى السحر”.
الرجل الذئب..
وعن ظهور أسطورة الرجل الذئب يكمل الكتاب: “وهكذا، كان للعديد من هؤلاء المجانين المنبوذين من مجتمعهم والمختبئين في الغابات حيث يعيشون حياة بدائية وهمجية دور في مولد أسطورة الاستذآب وهي الذي عُرِف فيما بعد بالمذءوب. ويعد «الرجل الذئب» كلمة مشتقة من الأصل اللغوي لها.
نبوخذ نصر، ملك بابل، خير مثال على ما نقول فلتوقيع العقاب على هذا الملك، الذي قام بغزو مملكة يهوذا ودمر معبد أورشليم في مطلع القرن السادس قبل الميلاد، على غروره، ضربه يهوه بالجنون حيث اعتقد نبوخذ نصر أنه تحول ليس إلى ذئب ولكن إلى ثور، على غرار صور الثيران الكثيرة التي تزين جدران قصره. وقد انطلق ليعيش على نحو بدائي في حدائقه الشاسعة، معرضا نفسه لسوء الأحوال الجوية، ولم يعد يأكل إلا الحشائش وأطال شعره وأظفاره. ولكن ملك بابل لم يتعرض للعقاب إلا لفترة مؤقتة كما ذكر الكتاب المقدس دون إعطاء مزيد من التوضيح). ثم صار سبعة أزمنة والتضرع في تذلل إلى لله الذي قبِل طِلبته ومنَّ عليه باستعادة رشده بإمكانه أخيرًا بالشفاء.”
روح الجنون..
ويتابع الكتاب عن مخالفة الدين والجنون: “في القرن الثالث بعد الميلاد، إن الإنسان لا يخالف أحكام الدين إلا إذا دخلت إليه روح الجنون. وقد ذكر الكتاب المقدس بعض حالات الجنون، بمفهوم المرض العقلي، أشهر هذه الحالات هو شاول، أول ملوك شعب بني إسرائيل، وقد حدث ذلك قبل الميلاد بألف عام حسبما ذُكِر في سفر صموئيل الأول، من الإصحاح التاسع إلى الإصحاح الحادي والثلاثين. بعد أن شاخ شاول وأصبح معتل المزاج، لم يكن هناك إلا قيثارة داود، الذي كان لا يزال راعيًا للغنم، هي التي بإمكانها تهدئته.
لقد صوَّر كلٌّ من رمبرانت ولوكاس دي ليدن في لوحاتهم، شاول مكتئبًا ومصابًا بالعين. كما كان الملك الشيخ مصابًا أيضًا بجنون العظمة، أو البارانويا، وبالغيرة من نجاح داود زوج ابنته التي كان شاول نفسه قد زَوَّجَه إياها بإرادته هربًا من انتقام شاول الذي يُعد نموذجًا لثنائية المُضطهَد- المُضطهِد، وكان يتعين على داود الالتجاء إلى بلاط ملك مدينة جت. وهناك، خوفًا على حياته، تَصَنَّع هو نفسه الجنون كان يضع علامات على مصراعي الباب ويترك لعابه يسيل حتى يبدو بمظهر المسالم، غير العدائي، انتحر شاول بعدما عاش وحيدًا، ومهزوما في جبل جِلْبُوعَ؛ مما يثبت أن روح الرب كان قد فارقه. وخَلَفَه داود وبلغت مملكة إسرائيل في عهده أوج قوتها”.
العهد الجديد..
وعن تناول العهد الجديد للجنون يكمل الكتاب: “يعتبر العهد الجديد أقل تناولًا لموضوع الجنون كما أنه أقل تشاؤمًا بهذا الصدد من العهد القديم، فلم يعد يصور الجنون على أنه سلاح في يد إله يميل إلى الانتقام والقِصاص، بل نجد هناك إحياءً للتقليد القديم المتعلق بالأرواح والشياطين، والذي يعد مترسخا في إيمان الحضارات المتعددة الآلهة. فها هو يسوع يشفي الصريع.
في كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ، أتى إلى يسوع رجل كان منذ زمان طويلٍ لَا يلبس ثوبًا، ولا يقيم في بيت، بل يعيش في القبور في المغارات التي كانت منتشرة في هذه المنطقة. وكان يُربَط بسلاسل لمنعه من التحرك ولكنه كان دائمًا يكسر قيوده. وعندما سأله يسوع عن اسمه، أجاب الرجل.
وفيما يتعلق بالجنون المجازي، فله مكانة محدودة، ولكن مميزة، في العهد الجديد. بداية أليس هو جنون يسوع نفسه؟ فالشعب اليهودي الذي جاء المسيح ليعظه، ألم يقرن الكرازة بالجنون، بل واعتبرها جنونًا يعاقب عليه الدين التقليدي؟ وهكذا نجد الآية مقلوبة، فالمسيح مخلص البشرية، يُعد عمله الخلاصي على الصليب جنونًا بينما هو الحكمة في أجلى صورها، على العكس من ذلك، تعد حكمة العالم، وفطنته الكاذبة، هي الجنون بعينه.
ها نحن الآن في القرن الأول الميلادي وقد بلغنا بالفعل مرحلة متقدمة على طريق التصوف المسيحي. فلنعد إلى جنون العبرانيين كما كان يبدو لنا قبل عدة قرون من ميلاد المسيح وذلك حتى نوضح إلى أي مدًى كان مثل ذلك التَّصَوُّر الباعث على التشاؤم بخصوص الجنون يحبط سلفًا أي محاولة للتفكير النظري بشأنه. إننا أكثر قربًا من الناحية الجغرافية، ولكن على طرفي نقيض من الناحية الفكرية، من وضع البحث الفلسفي والطبي الذي كرس مفكرو اليونان الكلاسيكية، ومن بعدهم مفكرو روما القديمة، أنفسهم له، ابتداءً من ظهور المفهوم الأساسي لمرض الروح أو النفس”.