16 نوفمبر، 2024 3:52 ص
Search
Close this search box.

تأملات في ديوان “وصايا العاشق” للشاعر نمر سعدي

تأملات في ديوان “وصايا العاشق” للشاعر نمر سعدي

تأملات في ديوان “وصايا العاشق” للشاعر نمر سعدي
بقلم: محمد علي الرباوي / شاعر وناقد من المغرب
1
هذه تأملات في عمل شعري للشاعر نمر سعدي، وليست دراسة نقدية. التأمل “استغراق ذهني، أو حالة يستسلم فيها الإنسانُ لما يَمُرُّ في خاطره من معان وأفكار…”. ذلك بأن طبيعة وصايا العاشق هي التي أملت عليَّ أن أختار التأمل خاصة وأن أشجار العمر تقترب في خطوها من التمانين خريفا؛ لهذا لن يجد القارئ الكريم تتبعا دقيقا للمكونات الجمالية لهذا الديوان، ولن يجد تحليلا لأشعاره الجميلة. وقد رَكَّزَتْ هذه التأملاتُ على العنوان أساسا، ومنه انطلقت إلى القصائد عبر الإيقاع، وعبر تجليات بعض النصوص الغائبة.

2
ابتدأت علاقتي بالشعر العربي الفلسطيني مع الشاعر إبراهيم طوقان، ثم مع جيل محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وعز الدين المناصرة… كان شعر هذا الجيل، في أواخر سنوات الستين، وطيلة سنوات السبعين، شعرا ثوريا تَغْلُب على أكثره اللغةُ المباشرة التي رَحَّبَ بها النقدُ الأيديولوجيُّ أيما ترحيب، وكانت قصيدة درويش، سجل أنا عربي، خير نموذج معبر عن ذوق تلك المرحلة. ثم جاء جيل أحمد دحبور محاولا الارتقاء بهذه اللغة إلى الشعر بدل الصراخ.
هذة الأسماء القوية التي ذكرتُ، حجبت عن القارئ العربي شعراء فلسطينيين آخرين قد يكون شعرهم في مستوى كثير من شعر هؤلاء الأعلام. وهذا حجب عني أيضا التعرف على الأصوات الجديدة التي هجر الكثيرُ منها القصيدةَـ والقصيدة الحرةَ؛ إذ وجدوا، ككثير من الشعراء العرب الجدد، في قصيدة النثر الشكلَ الشعري القادرَ على احتضان همومهم التي تشكلت مع سنوات التسعين، من القرن الماضي.
نمر سعدي واحد من الأصوات الفلسطينية التي تسلمت نارَ الشعر من الأجيال السابقة، وخاصة جيل محمود درويش. تعرفتُ إلى شعره، في بعض المواقع الإلكترونية. واقتربت من جمره المحرق الجميل، من خلال ديوانه “وصايا العاشق”، ومن خلال هذا العمل تولدت هذه التأملات:
أول ما لفت انتباهي في هذا الديون وجودُ ثلاثة أشكال من الشعر العربي قلما تجتمع في دواوين الشعراء المعاصرين. هذه الأشكال هي: القصيدة، والقصيدة الحرة، وقصيدة النثر. وعادة ما تتكئ لغةُ القصيدة، في مجملها، على اللغة التراتية. في حين تنفتح القصيدة الحرةُ، في أحسن نماذجها، على اللغة الحداثية. فيصبح للشاعر من خلال ممارسته هذين الشكلين وجهان مختلفان. ولعل نزار قباني أبرزُ الشعراء العرب الذين مارسوا الكتابة بالشكلين بوجه واحد. والشاعر نمر سعدي، في هذا، سار في ركاب شاعر المرأة. فقد أدرك أن كتابة قصيدة بروح قديمة تُذَكِّر بالفحول السابقين، لا يدفع بالشعرية العربية إلى الحياة. ولهذا وَحَّد بنجاح، لغة أشكاله الشعرية، وأثبت من خلال هذا أن الشكل الأول ما يزال صالحا، وقادرا على التعبير عن رؤانا المعاصرة.
3
تشتمل هذه المجموعة على خمسة قصائد متفاوتة الطول. وتحمل القصيدةُ الرابعة عنوان “وصايا العاشق”. وقد أخذ الشاعر هذا العنوان، وجعلَه عنوانا كبيرا لهذه المجموعة. وسنقف عند هذا العنوان من حيث لغتُه، ومن حيث تركيبُه، ومن حيث وزنه..
– اللغة:
1- يتألف هذا العنوان من كلمتين: (وصايا) و (العاشق). الكلمة الأولى جَمْعٌ لكلمة (وصية). وهي ما يَهَبُهُ الإنسان، وهو حي، إلى إنسان آخر، أو إلى جهة ما، على أن يتم تنفيذ هذه الوصية بعد وفاته. ولكن الشاعر لم يَرْض بالمفرد، فاختار الجمع، مفضلا (وصايا) على (وَصِيّات)؛ لكثرة استعماله، ودورانها. ولكونها أيضا تفوح من ينابعه روائح زكية من القداسة الدينية: (وصايا الرسول، وصايا لقمان لابنه، وصايا الملوك، وصايا الآباء لأبنائهم خاصة…). لكن من هو الواصي في هذه المجموعة؟ ومن هو الوَصِيّ؟. قد نميل بسرعة إلى اعتبار الشاعر هو الواصي، ولكن الْمُوصَى له لا نعرفه. ونحتاج إلى تصفح النصوص؛ لعل اسمه يبرز بين الكلمات. وفعلا تصفحنا هذا العمل الشعري قصيدة قصيدة، وبيتا بيتا، ولم ينكشف لنا هذا الموصى له. أهي الأنثى التى تحضر بقوة في أناشيد الديوان؟ ومن تكون هذه الأنثى؟ من تكون هذه الحبيبة؟ أهي الأرض؟ أهي الوطن؟ لماذا أخفى الشاعر عنا حقيقة المخاطبة في النص؛ أي الموصَى لها؟ وأخفى عنا أيضا مضمون الوصية؟ وبهذا الإخفاء تحقق الشعرُ. حيث يدنيك، عند القراءة، من المرغوب، لكن ما إن تقترب من الإمساك به حتى يبتعد عنك، وتبقى تطارده في مجاهل صحراء تُغري بالبقاء في سمائها الصافية الغامضة.
2- (العاشق): اسم فاعل من فِعْل عَشِق. والعشق إفراطٌ في محبة المحبوب، هذا العشق الجارف الذي ملأ قلب الشاعر / العاشق، هو من أملى عليه أن يترك له وصاياه؛ لأنه يواجه من أجل محبوبه مكابداتٍ قد تنقله في أي لحظة من لحظات حياته إلى دار البقاء، وكأني به عنترة الذي حملَه عشقه إلى تقبيل السيوف، وهو في ساحة الوغى، يحارب عدوه ؛ لأنها لمعتْ كبارق ثَغْرِ حبيبته المتبسم.
– التركيب:
يتألف هذا العنوان من مُسْنَدٍ، ومسند إليه. لكن لم يظهر من العنوان سوى المسند. أما المسند إليه فغائب. وغيابه هو الذي ساهم في كوننا لم نتعرف على مضمون الوصايا. نحن إذن أمام جملة إسمية فقدت أحد ركنيها. إن هذا المسند إليه، رغم غيابه، قابل للحضور بالصيغة التي نريد؛ لهذا، رغم الغياب، ورغم الفقد، فالمعنى متحقَّق، والحياة قائمة.
– الوزن
تصدر العنوانَ تفعيلةٌ تتألف من ثلاثة مقاطع: مقطعان طويلان يتصدرهما مقطع قصير. هذه التفعيلة تحتل جسدها كلمةٌ واحدة، هي (وصايا). هل يعني هذا أن الشاعر أراد أن يكون عنوانه موزونا؟ على أي بحر؟ أهو الطويل؟ أهو المتقارب؟ أو الوافر؟ لو أراد المتقارب، أو الطويل لاستعمل (المحب) بدل (العاشق) الذي يتألف من مقطعين طويلين يتوسطهما مقطع قصير. فالعاشق إذن كلمة تحمل وحدة وزنية تبدو مقلوبة الوحدة الوزنية للوصايا. لكن وحدة الوصايا هي الأصل، ووحدة العاشق هي التابعة. لكن الشاعر أرادها حية لتستقبل وصاياه. إذن بقي أمامنا الوافر. هذا الوافر تفعيلته الثانية فقدت مقطعين طويلين، أو فقدت مقطعين قصيرين، فمقطعا طويلا، ولا تتحقق ملامح الوافر إلا بمعالجة هذا الفقد. كأن نقول مثلا (وصايا العاشق الحرِّ) أو… ولكن الفقد مع ذلك يبقى حاضرا؛ لأن هذه الجملة الوزنية بحاجة إلى قسيم في وزنها ليتشكل البيتُ.
4
يتفق التركيب اللغوي والعروضي على وجود حالة من الفقد، وهذا سينتشر صداه في نصوص الديوان كما سيتضح في الآتي:
يقوم التركيب اللغوي، والعروضي على عنصرين اثنين: المضاف والمضاف إليه/المتقارب والمتدارك. العنصران في التركيب يعطيان المعنى، رغم غياب المسند إليه الذي ظلت هُويته في ذهن الباث، والعنصران العروضيان يتحقق بهما دائرة المتَّفِق. والدائرة رمز للحياة.
نحن إذن بهذه القراءة للعنوان نكتشف أننا أمام زوجين بهما تتحقق الحياة:
مضاف/مضاف إليه
فعولن/ فاعلن
البيت المنتظم/البيت الحر/
الموزون/غير الموزون/
الوضوح/ الغموض/
الإفصاح بالغائب/ إخفاء الغائب ……..
ومن خلال هذه الزوجية تبدو لنا ملامح المعشوقة التي كانت الوصايا لها. وسنقتصر على الزوجية الثانية والزوجية الأخيرة:
-: فعولن فاعلن
نحن أمام عنصرين عروضيين لا يجتمعان في العروض العربي؛ ولهذا اعتبرنا هذا التركيب الوزني مقدمة للوافر، واعتبرنا أن هذا الوافر يشكو من فقد أجزاء منه ليتحقق البيت. هذا الفقد يتجلى واضحا في خَرْمِ كثير من أبياب نصوص هذه المجموعة.
لننظر مثلا في النص التالي :
(السُّنْبُلاتُ الخُضْرُ في صدري
ونهر زنابق حمراء في يدك التي تهتاج في البلور
يا لبراءة العصفور في جسدي
ويا لقواي حين كدمعة تنهار فوق رخامك
المعذب بالندى والطين)
هذا النص على الكامل، وزعه الشاعر على خمسة أسطر. ينتهي السطر الأول بتفعيلة ناقصة، جعلتنا نربط السطر بالكامل الأحذ. وحَذَّ الشيءُ انقطع آخرُه، وحَذَّ اللحمَ قطعها بسرعة. وفي العروض الحذذ هو حذف الوتد من آخر التفعيلة. إذن فنحن في عروض هذا البيت أمام فقد آخر.
السطر الثاني على الوافر، لكن هذا الوافرَ فقد شيئا من أوله، وهو فقد يبيحه العروضُ، إذ أعطاه اسم الخرم. إذن نحن دائما أمام (الفقد) الحاضر في باقي الأسطر.
لماذا إلحاح الشاعر نمر سعدي على هذا الفقد الذي دَلَّ عليه أولا عنوانُ المجموعة تركيبا، وعروضا؟ إن هذا تعبير عميق عن نفسية الشاعر الفلسطينيِّ. كلُّ أسرة من أسر أهل فلسطين فقدت العديد من أبنائها، وفقدت، إلى جانب هذا، جزءا من أرضها التي استوطنها العدو الغاشم. فَدَبَّ الإحساس بالفقد إلى الشعر في تعبير خفي جميل. لكن الشاعر، ككل أبناء فلسطين، يعيش على أمل العودة. ولَمِّ الشمل بالأرض، وبالأهل. فجاء الخرم في هذا المقطع قابلا للجبر. فإذا ربطبنا السطر الأول بالسطر الثاني اختفى الحَذَذُ، وغاب الخرم. وبهذا نلحظ أن أسطر هذا المقطع مترابطة فيما بينها، مشكلة بيتا طويلا على الكامل، فالكامل وَحَّد هذه الأسطر، كما وَحَّدَ الأملُ الكاملُ قلوبَ الفلسطينيين.
الغريب أن القصيدة الحرة الأولى التي أخذنا منها هذا المقطع، موزعة على أربعين مقطعا. لكل مقطع رقم. وقد سَلِمَ المقطعُ الأولُ من الخرم، لكن المقاطع الأخرى لَحِقَ أولَ كل مقطع من المقاطع الباقية. وحين نستعين بالعروض نكتشف أن الخرمَ هنا يُجبر بربط المقاطع في ما بينها؛ لتصبح المقاطع المتفرقة في الظاهر جسدا واحدا. وهذا يؤكد دائما أن في لاوعي الشاعر يسكن حلمُ الوحدة، وحلم العودة إلى الأرض، وإلى الأهل.
5
الإخفاء والإفصاح: هذه الزوجية حاضرة على مستويات عديدة في هذه المجموعة الشعرية، فالأنثى التي يخاطبها الشاعر في نصه الأول، وفي باقي النصوص، لا ندري أهي امرأة؟ أهي أرض؟ ولكن من خلال الزوجية الأولى يتبين لنا أن (فلسطين) هي المخاطبة. لكن الشاعر فَضَّلَ أن يكون ضمير المخاطبة مبهما، وهذا ما يتطلبه الشعر الحق. وقد زرع في النص علامات عديدة تشير إلى كنه المخاطبةـ وهذا سيزكيه ما يأتي:
1 النص الغائب بين الإخفاء والتجلي
لم يقتصر الشاعر على اللغة الصناعية في شعره؛ لأنه مولع بإخفاء الدلالة إخفاء بلاغية، فاستعار اللغة الثقافية، باعتبارها مكملةً للغة الصناعية. هذه اللغة الثقافية أسميناها في هذا المقام النص الغائب. هذا النص ساهمت استعارتُه بنجاحٍ على جعل القصيدة تكتسي عمقا يسمح بتعدد القراءة.
جاء هذا النص الغائب، في هذا الديوان، على مستويين: مستوى التجلي ومستوى الإخفاء.
المستوى الأول:
يُصَرِّح الشاعر، في هذا المستوى، بأوراق الغائب/الحاضر، وقد يربك هذا التصريحُ القارئَ، خاصة إذا لم يكن ذا ثقافة واسعة، فيضطر إلى ترك النص؛ للخروج منه إلى منابعَ تُنير له المستعار. ومن أمثلة هذا: أنكيدو، وشمشون، وأورفيوس، ويهوذى، ورقصة سالومي، وديك الجن، وعشتار، وتروبادور، والنرفانا، وكافكا، والهوملس، وإرمياء، ورامبو، وإريكا، وTed Hughes ونرسيس، وتبريز، وامرؤ القيس (…). هذه الاستعارات التي قد يغيب أكثرُها على القارئ، تخدم المعنى: (أنكيدو شخصية أسطورية في بلاد ما بين النهرين/ شمشون من شخصيات العهد القديم القوة الهائلة /أرفيوس بطل أسطوري من الأبطال الخارقين/ يهوذا هو التلميذ الذي خان يسوع وسلمه لليهود بمقابل/الهوملس= الشريد، المهجر، المتشرد Homeless/ إرمياء أحد أنبياء بني إسرائيل / نرسيس الجميل إسطورة إغريقية / إريكا مدينة ساحلية شمال شيلي / السمندل / لوركا / إلزا / قابيل / إرم /…الخ
أغلب هذه الاستعارات مرتبط بفلسطين، مما يؤكد أن الأنثى، في أغلب النصوص هي حيفا/ هي فلسطين.
المستوى الثاني: مستوى الإخفاء
وأنا أرى أن هذا المستوى هو الأرقى في الشعر عامة، ذلك بأن المستوى الأول كان يغلب على شعر بدر شاكر السياب، والثاني كان يغلب على شعر صلاح عبد الصبور، في هذا المستوى تختبئ الاستعارة وراء اللغة، ولا تُشكل حاجزا أمام المتلقي؛ للاقتراب من المعنى. ذلك بأن القارئ العادي سيكتفي بالظاهر من النص؛ ليقبض على المعنى في درجته الدنيا. أما إذا أدرك ما وراءه فإن النص سيبيح له بأغلب أسراره.
لنقرأ هذه النصوص التالية:
1 فقلتُ لها لا تبكِ عينكِ إنما نحاول حبا أو نموت فنعذرا
2 فهذا الملك الضِّلِّيل
3 يصيبني ضجر من المدن الحديثة والبحار
4 واعطني قلبا لكي أنسى
وأذهبَ في طريق البحرِ
يحضر في هذه النصوص الشاعرُ امرؤُ القيس حضورا مختفيا، عبر علامات تدل عليه. وعلى القارئ أن يمسك بها. وقبل أن نتحدث عن هذه العلامات، لا بد أن نشير إلى أن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة هو، في تقديرنا، أول من استعار قناع الشاعر الضليل داخل الديوان الفلسطيني، وذلك في أحد ديوانيه (الخروج من البحر الميت) و(يا عنب ياخليل)، مركزا على خروج امرئ القيس إلى أرض الروم. فَقَدْ فَقَدَ امرؤ القيس ملكه، بعد اغتيال أبيه. وتنفيدا لوصية هذا الأب، طاف بين القبائل العربية، وديارها. ولما لم يجد النصرة منهم، راح إلى بلاد الروم في سبيل الدعوة إلى قضيته، لكنه توفي وهو في طريق العودة . وهذه الحال التي كان عليها امرؤ القيس هي الحال نفسها التي يعيشها الفلسطيني.
وذكرنا الشاعر عز الدين المناصرة لا يعني بالضرورة تأثرَ الشاعر نمر سعدي به؛ لأن تاريخ امرئ القيس مشاع لكل الشعراء. المهم هو هل أحسن الشاعر استثمار هذا التاريخ.
حين نتتبع سيرة امرئ القيس ورحلته نكتشف أنها، كما سبق أن قلنا، تتطابق ورحلات الفلسطيني بحثا عن السند. ففي النص (1) و(2) حضور امرئ القيس تحت اسم الملك الضِّلِّيل، وجاء حضوره من خلال رائيته الشهيرة:
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَنَا
وَأَيْقَنَ أَنَّا لاحٍقَانِ بِقَيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنَكَ إِنَّمَا
نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوت فَنُعذرا
استعار الشاعر نمر البيت الثاني من الرائية؛ لأن هذا البيت يشعر القارئ بأن الشاعر يتحدث باسم كل فلسطيني مقيم بفلسطين، أو مشرد في بلاد العالم. لكن امرأ القيس هاجر؛ من أجل استرجاع الملك الذي ضاع منه، لكن الشاعر نمر سعد (أو الإنسان الفلسطيني)، في هجرته، يحاول استرجاع الحب الذي فقده.
النصان (3) و (4) لا يفصحان عن وجود الملك الضِّلِّيل؛ لأن الرحلة فيهما ارتبطت بالسندباد. لكن المشترك بين الشخصيتين هو: الرحلة / البحار / الأهوال المصاحبة للرحلة. وبهذا يتشابك القناعان؛ ليشكلا قناعا واحدا تحدث من خلاله الشاعر نمر سعدي.
لننظر في النصوص التالية:
1 كَيْ أَصِفَ اخْتِلاجي مَرَّةً
أَوْ أَقْصُصَ الرُّؤْيَا عَلى أَحَدٍ سِوايَ
فَلا يُصَدِّقُ مَا جَنَتْهُ يَدايَ مِنْ طَلْعِ الْغُبار
2 لا تَقْوَى عَلَيْكِ أَصابِعُ الْجَمْرِ
التي قُدت من الإسفلتِ
3 وَانْسَحَبْتِ كَظَبْيَةِ النُّورِ الصَّغيرةِ مِنْ مَخالِبهمْ تَمائمُ عطركِ لوعتٍ الذئابَ فلا تَزالُ هناك من آثامها تعوي
4 قُدت خمرةٌ حمراءُ من حَجَر لتشرخَ جسمَ مرآةِ الزمان اللولبية
5 وَالرؤيا ستُحرقني إذا كذَّبتُ
6 مُرّي كي أَقُد بمقلتيَّ قميصَ أحلامك
7 قَدَدْنَ من الخَلْف قمصانَه
8 يُلقي قميص الثرى في وجه مغتربِ
9 كان نرسيسُ أصغر إخوتهِ
كان أجملَهم في قرارة قلب أبيهِ
وكانوا يحبونه حين تأوي الفراشاتُ
ليلا إلى ورد عينيهِ (…)
يحضر في هذه النصوص النبيُّ يوسف عليه السلام، حيث نجح الشاعرُ في جعله قناعا له، ولكل فلسطيني يؤمن بأن الغائبَ عن بلده لابد سيعود، كما حدث لهذا النبي. وأن الحزين سيفرح كما فرح النبي يعقوب الذي حمل القميصُ إليه ريحَ ابنه. وأن الكرب سيُرْفَع كما رُفع عن يوسف. وأن بعد العسر يسرأ كما جاء في القرآن الكريم. لكن حضر بهذه النصوص شخصيةٌ من أساطير اليونان وهو نرسيس، فما علاقة نرسيس بيوسف؟
من خلال النص نكتشف أن الشاعر استعار علامات تخص النبي، ثم بنى عليها شخصية نرسيس الذي يتصف بالجمال. وهي صفة تخص أيضا يوسف عليه السلام. وهذا واضح من قول صواحب امرأة العزيز ( ما هذا بشرا). وحَدَّثَنا الشاعر أن نرسيس أجملُ إخوته، كما كان النبي. وهذا يجعلنا نقول إن الشاعر نمر جعل من قناعي يوسف ونرسيس قناعا واحدا، كما فعل مع امرئ القيس والسندباد.
ما علاقة هذا القناع بالشاعر أو بالفلسطيني؟
رأى يوسف عليه السلام في المنام وهو صغير رؤيا. قَصَّ رؤياه على والده الذي فهم رموز مارأى ابنه. هذه الرؤيا تُبَشِّر صاحبَها بالوصول إلى الملك، بعد مكابدات سببها غدرُ الإخوة، حيث التعرض للسجن، و لإغراء المرأة. كل هذا ينطبق على الفلسطيني الذي يحلم بالعودة إلى وطنه، والذي حطت على كلكله مكابداتٌ جراء غدر الأحبة، وغدر الجيران، والأقارب.
وفي النصوص السابقة علامات أخرى كقميص الغواية، وقميص إرجاع البصر ليعقوب عليه السلام
يضاف إلى شخصية يوسف شخصية أخرى مكملة للتاريخ الفلسطيني وهي موسى عليه السلام:
وتَهْوي في جحيمكِ..
عُشبةٌ في الماءِ قلبي
ليسَ تعصمها الهشاشةُ من نجومكِ.

6
1- تبين من خلال هذه التأملات، أن هذه المجموعة الشعرية، تنطوي على بنية عميقة وذات بعد تراجيدي، وهي بنية الفقد التي تجلت أولا في العنوان على مستوى لغته، وتركيبه، وعلى مستوى وزنه. وتجلت البنية نفسها في النصوص الشعرية.
2- ظاهرُ الديوان مضلل. فحضور الأنثى في أشعاره يدفع إلى الاعتقاد بأننا أمام غزل في امرأة ما، لكنَّ تأملنا في العنوان، وفي النصوص، بَيَّن أن بنية أخرى تختفي خلف النصوص الغائبة؛ إنها بنية الوطن/فلسطين. وبهذا يكون الشاعر قد خص فلسطين بهذا العمل الشعري الجميل دون صراخ.

***

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة