خاص : بقلم – خالد محمد مندور :
هل تتأثر آراء الإنسان بطبيعتة الشخصية ؟.. وهل تحكم تطور أفكاره ؟..
من المؤكد أني أعرف جيدًا كيف أثرت شخصية “مندور” على آراءه، فهذا الودود العطوف صاحب المزاج الشعري دون أن يكتب الشعر، المبتسم الساخر الذي يعرف جيدًا الواقع الاجتماعي وما يرتبط بة من معتقدات، يعرف أيضًا كيف يُحاول تغييره بالصبر والداءب والمراكمة.
وأعرف أيضًا أنه معجون بأصله ولم ينساه أبدًا أو يتجاهله أو يقفز عليه فتطورت آراءه بإنحياز دائم لفقراء هذا الوطن، ليس فقط على الصعيد الأدبى بل أيضًا سياسيًا.
وإليكم نقاش “محمد مندور” مع “سيد قطب”؛ وكلاهما لم يبلغ الأربعون بعد، والمنشور في كتاب: (في الميزان الجديد)؛ لـ”محمد مندور”.
ولكن قبل أن تقراء النص عليك أن تتأمل الصور كي تحس بما أقوله !!
“الفتات
وأما فتات الحياة «التي يعرف كبار الأدباء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة» فالظاهر أن الأستاذ قطب لم يُدرك ما أردته منها، وها أنا أبسط القول. والأستاذ قطب لا بد قد فهم عن الأستاذ الكبير العقاد أن كل فن اختيارات للتفاصيل الدالة، فالمصور يختار من الألوان والأضواء وتفاصيل المنظر أقدر الجزئيات على الإيحاء، وكلما سما الفنان في فنه ورهف في وسائله عرف كيف يختار تلك الجزئيات الصغيرة. وليس ثمة علاقة بين «فتات الحياة» التي يختارها «وضخامة الإحساس» الذي يُريد أن يُثيره، فالإحساس من الواجب طبعًا أن يكون قويًّا. وموضع الإعجاز هو أن يُثير الفنان هذا الإحساس القوي «بالفتات» التي لن يُدركها الأستاذ قطب، بل إن جميع المثقفين في حقائق الفن والأدب ليعلمون – لخبرتهم الطويلة بكافة الفنون في العالم المتمدين – أن إثارة الإحساسات القوية لا يمكن أن تكون بغير فتات الحياة الأليفة الوثيقة الصلة بالبشر. وأما الطنطنة، وأما تضخيم التوافه، وأما عجيج الألفاظ، وأما التبجح بالقوة الجوفاء؛ فهذه وسائل العجز والإدعاء والجهل.
أضرب للأستاذ قطب مثلًا بسيطًا أختاره من السينما لنبعد عن الأدب العسير الفهم.
في إحدى الأفلام أراد مؤلف القصة أن يحمل المشاهدين على إدراك ضيق بطل الرواية لطول انتظاره أمرًا يهمه فلم ينطقه بخطبة، ولم يعبث بملامحه ولم يحمله على تمزيق ملابسه أو شد شعره، بل ولا على الصياح في أجواز الفضاء، بل عرض على الشاشة بطلنا وأمامه منفضة سجاير خالية، ثم غير المنظر وعرض الرجل في نفس الجلسة، وأمامه المنفضة وقد امتلأت بأعقاب السجاير حتى فاضت. هذه المنفضة المليئة بأعقاب السجاير لا شك من فتات الحياة، بل من هناتها. ولكن، أوَما يرى الأستاذ قطب أنها وسيلة قوية من وسائل الأداء وأنها قد حملتنا على إدراك نفسية البطل إدراكًا لن تبلغه قصيدة طويلة من قصائد الأستاذ قطب ؟
هذه هي فتات الحياة التي يجب أن نعرف قدرها في الفن، ولكننا قوم فطريون، نظن الفن ألوانًا فاقعة وضجيجًا خاويًا. نعم يا أستاذ قطب، أنا أوثر «الأطياف الباهتة»؛ لأنها نسيج كل فن رفيع، وأما الأطياف الزاهية فلا تسر غير البدائيين من الناس، أوَلا ترى إلى زنوج إفريقيا كيف يستهويهم الأحمر القاني والأصفر الكركم ؟”.