وكالات- كتابات:
موضوع مهمّ وراهن هذا الذي يتناوله المؤرخ ومنتج الأفلام الوثائقية السويدي؛ “هانز فوروهاغن-Hans Furuhagen”؛ العلاقة بين (الكتاب المقدس وعلماء الآثار) “2010”، وهو كتاب تُرجم حديثًا من اللغة السويدية إلى العربية على يد القاص والشاعر العراقي؛ “سمير طاهر”، تحت عنوان أكثر توسّعًا: (فلسطين والشرق الأوسط بين الكتاب المقدس وعلم الآثار) عن “الكتب خان”؛ في القاهرة.
المؤلّف؛ المعروف في “السويد” ككاتب نصوص علمية وتاريخية شعبية يتم إنتاجها تلفزيونيًا، يُحدّد منذ البداية محور كتابه؛ التضاد بين المعرفة والإيمان، ويعني به الإيمان بالأساطير، ويبدأ بالكشف عن الطابع الأسطوري لحكايات التوراة، أو “العهد القديم” في التسّمية الدارجة، واحدة بعد أخرى، وخاصة تلك التي تتحدث عن بدايات الخلق وتُشّكل السّلالات البشرية في “سفِر التكوين”، وما بعده من أسفار معتمدة بوصفها (التوراة) تمييزًا لها عن كتب العهد الأخرى، أو ما يدعوه الصهاينة “تاريخ شعب إسرائيل”.
ما بين المعرفة والإيمان..
يقوم تحليله وتدليّله على أسطورية هذه الحكايات؛ وعدم إمكانية اعتمادها كتاريخ، على جانبين، الأول يُمثّله اعتبار الأسطورة مجرد رواية تفسّيرية في الأزمان القديمة لما يعجز العقل البدائي عن تفسّيره وتعليّله، والثاني تُمثّله الواقعة الصلبة التي بدأت تؤكدها دراسات الباحثين في حقل علم الآثار السوري/ الفلسطيني؛ الذي انتزع علم الآثار وتاريخ فلسطين، والوطن العربي بعامة، من قبضة اللاهوت اليهودي والإنجيلي الأميركي، ألا وهي: “أن هذه الشخصيات (المذكورة في حكايات العهد القديم)، لم تُذكر في أي نص من النصوص الهيروغليفية الكثيرة أو الوثائق المسّمارية من العصر البرونزي، المكتشفة في مصر ووادي الرافدين، والأمر نفسه مع “ملوك” ليس لهم، فيما عدا العهد القديم، أي وجود موثّق في أي نص من نصوص الشرق الأوسط القديم”.
ويُضيف المؤلف: “إذا كانت مملكة داود وسليمان كبيرة إلى هذا الحد، وقويّة وغنيّة كما توصف في العهد القديم، فلا بد أن تكون قد خلفت وراءها آثارًا أركيولوجية واضحة، كأن تكون بقايا قصور أو معابد ونقوش رسّمية كتلك التي عُثر عليها في مصر والأناضول ووادي الرافدين، ولكن الآثاريين لم يعثروا على نقش إسرائيلي واحد عن نصر عسكري، أو عن بناء هيكل مما تصوّره الرواية الإنجليكية”.
ويُلقي الضوء على جولة المؤرخ اليوناني هيرودوت في أنحاء “الشرق الأوسط”؛ وعودته إلى أثينا في عام 440 ق. م، ليقرأ على سكان أثينا قصصه التاريخية، فيقول إن هذا اليوناني “علم أثناء رحلاته في وادي الرافدين ومصر بتواريخ أقدم من تاريخ اليونان، وحكى بالتفصيل عن جميع الأشياء اللافتة في وادي النيل، لكنه لا يقول شيئًا عن تاريخ فلسطين، ولا يذكر شيئًا عن التوراة العبرية وحكاياتها. التقى كهانًا مصريين مثقّفين، وأعطى أسماء صف طويل من الفراعنة عبر تاريخ مصر، ولكن كتّاب التوراة لم يأتوا على ذكر شيء من هذا… ولم يعطوا أي معلومات عن مصر على رُغم أنها كانت بلادًا قوية ورائدة، وكانت إلى جانب ذلك جارة لفلسطين”.
تحويل “الأسطورة” إلى “تاريخ” !
ويأتي بعد ذلك دور التلفيق والتزوير ونشر الأساطير على أنها “تاريخ” و”أحداث واقعية” بأقلام باحثين وعلماء آثار كانت التوراة مصدرهم الوحيد عن تاريخ العالم، بما في ذلك تاريخ الوطن العربي، وفلسطين ضمنه، لأن أوروبا حتى أوائل القرن الثامن عشر، كما يقول التتبّع التاريخي، ويقول المؤلف أيضًا: “لم يكن لديها سوى القليل من المعارف عن ماضي الشرق الأوسط، لم يكن فيها أحد يقدر على قراءة الهيروغليفية المصرية، وكانت الكتابة المسّمارية لوادي الرافدين مجهولة. ولأن التوراة، ومعها الأناجيل، كانت المصدر الكتابي الوحيد المتاح، فقد كان طبيعيًا أن يربط حجاج الأراضي المقدسة بين تلك الأطلال القديمة وقصص التوراة. حسّبوا مثلاً الأهرامات صوامع القمح التي خزن فيها يوسف الحبوب… وحسّبوا أنقاضًا عالية في الموصل بقايا برج بابل…”.
وانتقل تأثير هذه المعرفة النصيّة، والبناء عليها، من الهواة والرحالة والباحثين عن السّلوى، إلى علماء الآثار الغربيين، فحاولوا منذ بداية تدفّقهم على فلسطين، بدوافع سياسيّة الطابع في أغلب الأحيان، أو منذ إنشاء ما بدأوا يدعونه “علم الآثار التوراتي” ربما منذ قرن ونصف، استخدام المعطيات الآركيولوجية للبرهنة على صحة التوراة كتاريخ، وشاع اعتقاد أسّس له اللاهوتي الأميركي وليم فوكس أولبرايت بأن هذا “العلم يتطوّر ويأتي بثمار طيبة”. وعلى هذا يعلّق مؤلف الكتاب فوروهاجن بالقول: “لقد حدث تطوّر بالفعل، ولكن ليس بالطريقة التي فكّر بها أولبرايت”.
أكذوبة “علم الآثار التوراتي”..
وأي مطّلع على تطور علم الآثار السوري/ الفلسطيني، يفهم أن موضع التلميح هنا هو ما طرأ من قلب لعلم آثار فلسطين على يد باحثين وعلماء، وإيقاف له على قدميه، بدءًا من الربع الأخير من القرن العشرين، بعد أن ظل يسّير على رأسه بتأثير ما اختلقه “علم الآثار التوراتي”.
فظهر كتاب البريطاني كيث وايتلام المعنون: (اختلاق إسرائيل قديمة وإخراس التاريخ الفلسطيني) “1996”، وكتاب الأميركي توماس تومسون (التوراة في التاريخ: كيف يختلق كتّابٌ ماضيًا) “1999”. وقبل ذلك صدرت الطبعة الثالثة من كتاب البريطانية كاثلين كينون المعنون (على الآثار في الأرض المقدسة) “1972”. وفي العربية جاء كتاب كمال الصليبي المعنون (التوراة جاءت من جزيرة العرب) “1978”، ليُظهر أن جغرافية التوراة بتضاريسّها الأرضية ومواقعها لا تنطبق على جغرافية فلسطين، وأن إلصاق هذه الجغرافية بالأرض الفلسطينية جاء نتيجة قراءات مغلوطة للنص العبري، كما صُدر أيضًا عام 2009 كتاب عفيف بهنسي المعنون (تاريخ فلسطين القديم من خلال علم الآثار).
وبوجود مصادر كثيرة، كتبًا كانت أو أبحاثًا ومقالات في الدوريات والصحف، تبدو إضافة هذا الكتاب السويدي متواضعة كما يقول صاحبه في تقديمه له، من حيث المعلومات التي جاء بها، ونقد منهج كتبة التوراة، وتعليل – وهذا هو الأهم – ظهور التفسير الأسطوري في مسّار الفكر الإنساني. ولكن أي إضافة في هذا الاتجاه، اتجاه تحرير علم الآثار من القبضة اللاهوتية التوراتية الخانقة، تظل مهمّة، وتسّتحق التعريف بها.