17 نوفمبر، 2024 9:28 ص
Search
Close this search box.

بين شرق أوروبا وغربها دارت عدسة الباصرة

بين شرق أوروبا وغربها دارت عدسة الباصرة

عرض/ د. نضير الخزرجي
الحياة تجارب .. مقولة لها قوامها، نسمعها كثيراً ونقرؤها، ونُسمعها لآخرين، نلقيها عليهم شفاهاً أو كتابة، فمن مر بتجارب حلوة او مرة أسمعنيها وإذا مررت بمثلها أسمعتها له، وكل منّا يتعظ ويعتبر، لأن التجربة ليست موقفاً عابراً تمر مرّ السحاب، وإنما هي خبرة حياة ومنبع قرار.
ويعد السفر من موارد التجربة التي يُبتلى بها الإنسان في رحله وترحاله، تزيده خبرة وحنكة إذا ما وقع في موقف لم يكن ينتظره أو لم يحسب له حسابه، أو لم يكن يتصوره، أو جاء على خلاف ما كان يتوقعه، وهو ما حصل لي في رحلتي الجوية من لندن إلى تونس عبر مطار كولن بون الدولي (Cologne Bonn Airport) في ألمانيا الذي يُعد رابع أكبر مطار فيها، وذلك لحضور مهرجان (نور تونس للثقافة والإبداع) الذي انعقد في مدينة الحمامات بتونس للفترة (15- 18 اكتوبر تشرين الأول 2022م)، حيث استغرقت الرحلة عبر شركة أجنحة أوروبا للطيران (Eurowings) من مبتداها الى منتهاها مع فترة الإنتظار في مطار كولن ثمان ساعات وربع الساعة وقبلها ثلاث ساعات قبيل الإقلاع من مطار هيثرو (Heathrow Airport) غرب لندن، فكانت المسافة الزمنية من خروجي من المنزل قبل الظهر وحتى وصولي مطار قرطاج بتونس الساعة الحادية عشر مساءً نحو 13 ساعة.
ما حصل في هذه الرحلة (14- 21 تشرين الأول اكتوبر 2022م) من تجربة، أنني تناولت صباحاً وجبة إفطار خفيفة وقبيل الإقلاع وجبة خفيفة أيضاً على أمل تناول وجبة الغذاء مع السوائل في الطائرة وأما وجبة العشاء فيكون تناولها في مطار كولن وهي محطة الإنتظار (ترانزيت) حيث مضيت فيها اربع ساعات ونصف انتظاراً، ومنها إقلاع الطائرة نحو مطار قرطاج الساعة التاسعة والنصف مساءً.
لكنني فوجئت أن الطعام في الطائرة غير مجاني وكذلك السوائل، وما زاد الطين بلة أني أحمل في جيبي نقداً من عملتي الجنيه الاسترليني والدولار الأميركي، والمضيف لا يقبل إلا عملة اليورو، فقلت في نفسي أصبر حتى انزل مطار كولن وهناك الأمور أسهل، فعندما طلبت من أحد المطاعم وجبة غذاء مع ماء رفض استلام عملة الجنيه أو الدولار وطلبها باليورو، فسألته عن مكتب للتحويل، فأشار علي بأحدها وعندما ذهبت اليه وجدته مغلقاً، عدت إلى صاحبة الوجبات السريعة وأخبرتها بالأمر فاعتذرت عن تقديم الطعام والشراب، وذهبت إلى مطعم ثانٍ فاعتذر ثم ذهبت إلى محل لبيع البسكويت والسوائل ابتضع منه بعض البسكويت والماء فاعتذر هو الآخر عن البيع إلا بعملة اليورو، فقلت له أن مكتب الصيرفة مغلق ولا يفتح إلا في صباح الغد، فأجاب بأن الأمر لا يعنيه! فقلت له: اصنع لي معروفاً، خذ من الجنيهات أو الدولارات بما يعادل اليورو وغداً أنت أبدله من مكتب الصيرفة، فاعتذر.
فبقيت هكذا بلا طعام ولا ماء، ولا استطيع شرب ماء المغاسل فهو غير صالح للشرب، وبقيت على سغبي وعطشي، بخاصة وقد علمت أن الطائرة الثانية التي ستقلني إلى تونس هي الأخرى لا تقبل من العملات إلا اليورو، وهنا تذكرت حقاً الفقير الذي لا يجد لقمة العيش، وتذكرت فقراء لندن الذين يتفحصون القمامة بحثاً عن لقمة قابلة للأكل، لأنني صرت مثلهم بالطبع لا أبحث عن لقمة طعام فالصبر ميسور منه وبيني وبين تونس ساعات، وكنت أعلم أن في حقيبتي التي شحنت في الطائرة قليلاً من الطعام والماء، لكنني ابحث عن ماء يسد عطشي، وصرت أمشي في صالات الإنتظار قتلاً للوقت وبحثاً عن حنفية ماء شرب، وبين أنا كذلك لمحت من بعيد قنينة بلاستيك مرمية تحت كرسي فيها بقية ماء، فجلست عندها وبعيداً عن أعين الناس التقطتها على عجل وفتحتها ومسحت فوهتها ثم بسملت وكرعتها وحمدت الله وشكرته، وطمرت جسدي بين مسندي المقعد أعيد صور الشباب الذي يفترشون الأرض عند بوابات محطات القطار في لندن ومدن بريطانيا العظمى لا يجدون طعاماً ولا ماءً ولا مسكناً إلا ما يرميه لهم الناس من عملات صغيرة أو قنية ماء أو عصير أو بقية طعام.

باصرة الطرق والمعالم
دغدغت التجربة مشاعري وأنا أنتهي من قراءة الجزء الثاني من كتاب “الرحلة الأوروبية” للمحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، حيث بدأ رحلته البرية عبر القارة الأوروبية بدءاً من فرنسا زار في الفترة (13 آذار مارس إلى 22 نيسان أبريل 2019م) 34 دولة وانتهى منها بألمانيا، حيث صدر الكتاب حديثا (2022م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 358 صفحة من القطع الوزيري قدم له المهندس محمد علي آل رضا الأعرجي الذي كان رابع أربعة في الرحلة الأوروبية إلى جانب الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري ونجله الشيخ هاشم رضا الغديري، وتصدّر الكتاب بقصيدة من 51 بيتاً بعنوان: “رحلة الآفاق الكرباسية” للشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شّبين، جاء في مطلعها من بحر الكامل:
إنْ تَرُمْ رُوحٌ في الوجودِ نضالَها … تمشِ الحياةَ سهولَها وجبالَها
ويعدد في أبياتها الدول التي مرّ منها الركب الكرباسي في الدول الأوروبية الأربع والثلاثين لينتهي بالبيت الأخير:
في رحلةِ النفسِ اكتشافُ ظواهرٍ … وبواطنٍ يُخفي السباتُ خَبالَها
“رحلة الكرباسي في الأدنى من أوروبا والأقاصي” هو عنوان القراءة الموضوعية التي أجريتها للجزء الأول من “الرحلة الأوروبية” ونشرت حينها في الصحافة العربية، حيث غطى الجزء الأول زيارة المؤلف الكرباسي ورفقاء السفر الدول التالية بالتتابع: فرنسا، البرتغال، إسبانيا، أندورا، موناكو، إيطاليا، سان مارينو، الفاتيكان، مالطا، اليونان، ألبانيا، كوسوفو، مقدونيا، الجبل الأسود (مونتنغرو)، والبوسنة.
وفي الجزء الثاني من “الرحلة الأوروبية” يتابع المؤلف رحلته من البوسنة إلى: كرواتيا، سلوفينيا، النمسا، سلوفاكيا، المجر (هنغاريا)، صربيا، بلغاريا، رومانيا، أوكرانيا، بولندا، ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا، فنلندا، السويد، النروج، الدانمارك، وأخيراً ألمانيا حيث قفل منها المؤلف راجعاً إلى لندن ظهر العشرين من من نيسان أبريل 2019م بالطريق الجوي مع رفيق دربه الشيخ حسن رضا الغديري، قاطعاً بقية الرحلة لأمر طارئ حصل له في لندن، على أمل أن يكمل الرحلة لست دول أوروبية باقية في وقت قريب، حتى تكتمل له الرحلة الأوروبية التي تمثل الجزء العملي الميداني من مشروعه التحقيقي الكتابي عن الإسلام في بقاع الأرض وفيه يتحرى عما يتعلق بالنهضة الحسينية من مشاريع يحررها في باب “معجم المشاريع الحسينية” من دائرة المعارف الحسينية التي صدر منها حتى نهاية العام 2022م (121) مجلداً من نحو ألف مجلد.
اعتمد المحقق الكرباسي في رحلته الأوروبية نسقاً واحداً في التعريف بكل بلد يزوره، فهو يستخدم التوقيت الزمني واليومي معلناً عن اليوم الذي تحرك فيه نحو مقصده بالساعة والدقيقة حتى وصوله أول حدود بلد المقصد أو المبيت في أول مدينة حدودية إن كان الوقت متأخرا ليبدأ في اليوم الباكر رحلته البرية إلى عاصمة ذلك البلد، مع شرح ميداني لما يراه على جانبي الطريق حيث يضعنا في الصورة فيكون عيننا التي نرى ما يراه، ويخبرنا عما جرى من حوارات مع أصحاب المراكز الإسلامية التي زارها والمساجد التي صلى فيها والحسينيات التي حضرها أو سمع بها وكتب عنها، والشخصيات الإسلامية الفاعلة في البلدان الأوروبية من جنسيات مختلفة التي التقاها، وأهم معالم البلد ومفاصله المهمة، وحيث ينتهي من هذا البلد منتقلا الى البلد الآخر ينظم قصيدة عن البلد الأول يفرغ في صدورها وأعجازها ما رأته عيناه وتحسسته مشاعره، وبعد القصيدة صورة له أمام أو خلف أهم معالم عاصمة تلك الدولة، ومن بعدها خارطة الطريق التي قطعتها السيارة من عاصمة المقصد البلد الأولى الى عاصمة المقصد الثاني، وبعدها نبذة مختصرة عن البلد المزار تتضمن (اسم البلد، العاصمة، اللغة، المساحة، النفوس، المعتقد، نظام الحكم، العملة، والحدود)، مع صورتين لعلم البلد وشعاره، وبعده الخارطة الإدارية للبلد، وينتهي من الحديث عن البلد بمنظر عام للعاصمة، ليبدأ في الصفحة التالية الحديث عن بلد جديد، وهكذا دواليك.

الأوائل من كل قطر
هناك الكثير من الحوادث تقع هنا وهناك، لا نسمعها ولا نقرأها، ربما يُراد لنا أن لا نطلع عليها، والمسافر الذي يتنقل في البلدان بعين المحقق الواثب والنظر الثاقب له أن يلتقط صوراً لا يراها المسافر السائح أو لا يقف عندها، وربما يكون الحدث هو الأول من نوعه يحصل في هذا البلد أو ذاك، وهذا ما اكتشفته عدسة الكرباسي وهو يتنقل في بلدان أوروبا بشقيها الغربي والشرقي.
ومن تلك الصور ما التقطها في زيارته لكرواتيا عن شخصية المواطن الكرواتي الأصل الذي اتخذ لنفسه اسم شعيب إدريس بعد أن أسلم حباً في الإسلام والنبي محمد (ص) وأهل بيته الكرام (ع)، فهذا الرجل الذي أسلم مع أهل بيته، كان لزوجة ابنه (كنته) الفضل لأول مرة في تاريخ كرواتيا المعاصر أن تكسر قانون إصدار الوثائق الرسمية بالنسبة للمرأة بحتمية وضع صورة الجواز مكشوفة الرأس، لكن كنّة شعيب إدريس أصرت على التقاط الصورة بحجابها، وحاججت دائرة الجوازات ببند من القانون الكرواتي يسمح للراهبات التقاط صورة رسمية بحجابهن، وبعد رد وبدل أذعنت دائرة الجوازات لطلب السيدة المسلمة مما فتح المجال امام المسلمات الأخريات.
ومن صور الأوائل في كرواتيا ما نقلته عدسة الكرباسي عن المهندس والتاجر العراقي علي جبر الگرعاني المقيم في العاصمة الكرواتية زغرب الذي أخبر الشيخ الكرباسي: (أنا أول من فتح محلاً لبيع ما هو حلال بشكل عام، حيث أقوم حسب الإمكان بالتوافق مع الجزائر التركي لتوزيع اللحم على المسلمين).
وفي زيارته إلى صربيا التقطت باصرة الكرباسي قصة أول قس صربي الأصل في العهد الجديد يعلن إسلامه، هو القس غوران آرسيتش (Goran Arsic) المولود سنة 1967م في مدينة فرانيه (Vranje) الذي أعلن إسلامه في النجف الأشرف بالعراق سنة 2018م على يد مرجع التقليد الراحل السيد محمد سعيد الحكيم المتوفى سنة 2021م، حيث كان للناشط العراقي المهندس السيد علي عبد الأمير الحسني البلداوي المقيم في سراييفو عاصمة البوسنة دور مشهود في ذلك، وعن سبب إسلامه قال القس الصربي السابق: (في الواقع كان إيماني عن عقيدة، لقد بحثت وحققت عن الإسلام والتشيع، ودرست المسألة بعمق فكريا وروحياً فتسرب بلا حدود حب أهل البيت في روعي وقلبي، وما أنا عليه اليوم هو من اختياري وانتخابي، اخترته عن عقلانية ومعرفة، إنني على إيمان ويقين كاملين بأنَّ كل من يتعرف على واقعة كربلاء وما جرى على الإمام الحسين (ع) سيعشقه بلا حدود).
ومن مولدوفا تلتقط باصرة الكرباسي قصة المهندس العراقي أبو جعفر ساطع الحسناوي المقيم في العاصمة چيشيناو (Chisinau) حيث قام لأول مرة في مولدوفا بطبع كراس عن نهضة الإمام الحسين (ع) باللغة المولدوفية ووضع كل نسخة في مظروف مع مبلغ من المال ووزعه على عشرات العوائل والأسر المولدوفية الفقيرة تبركاً وتيمناً بسبط رسول الله (ص) وحبيبه وسيد شباب أهل الجنة.
ومن أوكرانيا تلتقط باصرة الكرباسي قصة أول مسيرة جماهيرية للمسلمين في شوارع مدينة أوديسا (Odesa) أقيمت في عاشوراء محرم 1440هـ (2018م) تيمناً بذكرى شهادة الإمام الحسين (ع)، كما شهدت المدينة ولأول مرة في تاريخها توزيع الورود في مركز المدينة على المارة تيمناً بذكرى ولادة السيدة فاطمة الزهراء (ع).
ومن لاتفيا تلتقط باصرة الكرباسي أول ترجمة للقرآن الكريم للغة اللاتفية تمت سنة 2009م بعد خمسة عشر عاماً من الجهود المضنية بذلها المترجم الأديب والشاعر والاكاديمي اللاتيفي الأصل أولديس بيرزينش (Uldis Birzins) المولود في العاصمة ريغا سنة 1944م.
ومن فنلندا تلتقط باصرة الكرباسي قصة مركز أهل البيت الذي يعد أول مركز إسلامي تم تأسيسه في العاصمة هلسنكي سنة 1993م على يد مهاجرين عراقيين حيث يتولى مسؤوليته في الوقت الحاضر إبن قضاء سوق الشيخ في مدينة الناصرية العراقية السيد حميد شريف الموسوي ونجله الناشط وائل حميد الموسوي، كما يلتقط من فنلندا قصة العراقي حسين بن أسعد أبو گلل الذي أصبح أول لاجئ نائبا في المجلس النيابي الفنلندي.
ومن ألمانيا تلتقط باصرة الكرباسي أول لقاء رسمي في برلين في 30/4/2018م جمع بين الرئيس الألماني فران والتر شتاينمير (Frank-Walter Steinmeier) ووفد من الجمعيات الإسلامية الذي مثله الشيخ محمود خليل زاده والناشط العراقي وسام سعيد الصفار.
إن ما جاء به الكرباسي في الرحلة الأوروبية رغم تكاثف وقت الرحلة بين بلد وآخر فيه أي بمعدل 28 ساعة ونصف الساعة لكل بلد من مجموع 34 بلدا قطع معظمها بالسيارة في 41 يوماً، فيها الكثير من المشاهدات واللقاءات والحوارات والتصورات تمثل بحق خزيناً معلوماتياً عن القارة الأوروبية بما يخص على وجه الخصوص واقع الجاليات العربية والمسلمة وعموم مسلمي بلدان أوروبا.
الرأي الآخر للدراسات- لندن

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة