خاص : كتب – محمد البسفي :
إن كان يرى الباحث المصري في الأنثروبولوجيا الاجتماعية؛ “عصام شعبان”، عبر أحدث مقالاته التحليلة، أنه “حين يتعامل الاقتصاديون مع آثار السياسات الاقتصادية بوصفها عاملاً مركزياً في تشكيل أمزجة الناس بجانب الثقافة، فإن ذلك أكثر إنسانية وعلمية أيضاً، وهو طرح واتجاه مغاير عن ذلك الاتجاه الذي يرى في النجاح الاقتصادي مؤشرات بحتة منفصلة عن أحوال الطبقات الاجتماعية”، في معرض تحليله لإنتشار البؤس واختفاء مظاهر الفرح والسعادة الشعبية من المجتمع المصري ومدى ارتباط هذا الانسحاب بالمستويات والمؤشرات الاقتصادية العامة للدولة في إطاره الاقتصادي الاجتماعي العام.. إن كان هكذا حال يؤشر على “مزاج عام” لمجتمع كامل، فما بالنا لو انسحب ذلك البؤس والمزاج “الكابي” على الحالة النفسية والمزاجية لنخبته الثقافية ذاتها !
ومن الخطأ بالطبع أن تنفصل مأساة بؤس النخبة الثقافية عن المسببات والدوافع الاقتصادية والسياسية لظاهرة انسحاب الفرح الشعبي من المجتمع ككل.. من منطلق أن المبدع “مرآة” مجتمعه، ولكنها اضعف مباشرة…
بين الاستغاثة والغضب المكتوم..
لو مثلت مواقع التواصل الاجتماعي، حقاً، أكثر فرص منظومة التقدم التكنولوجي أهمية وخطورة اليوم للمبدعين والأدباء، الشباب والمبتدئين منهم خاصة، في نشر انتاجهم واعمالهم ومساعدتهم في تكوين دوائر التواصل مع شرائح متلقيهم.. فقد ظهرت مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة الـ”فيس بوك”، أصوات أخرى أكثر حزناً، مهمومة بنبرات متباينة.
صرخة.. غضب.. إستغاثة، مشاعر مختلطة، متباعدة المقاصد ولكنها قريبة في الاحساس بالاحباط والقنوط وربما تذهب إلى اليأس، تنطق بها الحسابات الشخصية لكثير من الأدباء والمبدعين اليوم على الـ”فيس بوك”.. بعضهم يصرخ غيظاً وغضباً تحت ضغط ثقل قتل إبداعه، بينما يرتحل البعض الآخر في لحظة “صفاء” شجنية في “نوستالجيا” استدعاء أخلاقيات وقيم من ماضٍ قريب نسبياً.
كثير من صفحات المجاميع “الجروبات”؛ والحسابات الشخصية لكتاب مخضرمين وشباب على موقع التواصل الـ”فيس بوك”، تنشر استغاثات ونداءات ملحة منبأة عن أديب أو مبدع كبير – السن أو التأثير الأدبي – يعاني الأهمال والتقاعس الطبي قبل المرض المزمن؛ ولا يجد سواء المال أو المسؤول ليساعداه في رحلة علاجه.. أنباء وبيانات كثيرة تنشر من هذه النوعية بشكل كاد يصبح شبه يومي، ولا يتم متابعتها بخبر استجابة إلا في حالات قليلة، غالباً تكون متعلقة بكتاب وأدباء مشهورين سابقاً أو من لهم علاقات وطيدة بدوائر المسؤولية الثقافية بداخل وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب.
على جانب آخر، ينفجر فجأة الروائي والسيناريست المصري الكبير “محمد حلمي هلال”، فوق حسابه الشخصي على موقع الـ”فيس بوك” صارخاً: “كلمة ربما تكون الأخيرة، نحن نعيش في مجتمع قذر، جاحد، مجتمع عفن، جاهل بلطجي يحتقر المبدعين لحساب (القوادين)، ويحتقر النساء لحساب الراقصات والداعرات.. ستشاهدون طوال شهر (تشرين أول) أكتوبر فيلماً بعنوان “حكايات الغريب”، كتبته من أجل مصر، كان أجري فيه 700 جنيه ناقص 30% ضرائب، لن يجدوا في أدراجهم غير ابداعاتنا كي يعرضوها ويتاجروا فيها، دون شكر أو حمد أو تقدير، لإنهم جهلاء وبلهاء وآفاقين، فاليوم نجلس جميعاً بلا عمل، بينما ينهب اللصوص و(القوادين) والفاسدين والمطبلاتية بلا حساب، لم أكن أتخيل ولا في أسوأ الكوابيس سواداً، أنه سيأتي عليَ يوم أكره فيه كوني من هذا البلد الجاحد، بلد اللصوص والغوغاء والبلطجية والشواذ و….. وأشباه المتعلمين .!!!”.
ليستطرد “هلال” مقراً: “لم تكن حياتي معتمدة على الحظ، أو العلاقات والشلل والطبل والزمر، بقدر اعتمادها على الجهد الشاق والموهبة، ورغم كل العناء الحالي الذي وصل بي إلى حد العجز عن إجراء عملية جراحية لازالة المياة البيضاء من عين واحدة، عملية جراحية لا يصل ثمنها إلى ثمن حذاء يلبسه واحد من اللواءات، أقول لنفسي ربما أنا على حق، وربما كان هذا أفضل، فأنا أصل إلى ما أريد ببطء شديد، لكن بثبات شديد أيضًا، فالحمد لله الذي لم يجعلني في زمرة الأفاقين والقوادين والفاسدين والمرشدين والطبالين واللصوص”.
بكل هذا الغضب والمرارة يصرخ مبدع روائي وسينمائي، طالما أثرى المشهد الثقافي المصري على مدار عقدي الثمانينيات والتسعينيات بروايات أدبية وسيناريوهات سينمائية وتليفزيونية متميزة، تحت ضغط التجهيل والتهميش، ليس هذا فحسب بل والإهمال الطبي أيضاً، ضمن مناخ ثقافي استهلاكي تتحكم فيه قوانين السوق التجاري؛ بفعل الشركات متعددة الجنسيات التي أحتكرته لخلق الذوق المجتمعي المعولم لكي يخدم سياسات دولية أكثر شمولية واستبدادية، أو كما بسطها المبدع الروائي الراحل “محمد ناجي”، حينما أراد وصف تحول مشهد الإبداع السينمائي المصري إلى سوق إستهلاكية رخيصة؛ على لسان إحدى شخصيات روايته (الأفندي)، قائلاً: “مشهد من هنا ومشهد من هناك، نكتة من الشرق ونكتة من الغرب. هكذا تتم صناعة أغلب أفلام اليوم، لذا تجدها مشاهد متلاصقة دون مبرر درامي، مجرد بقع سينمائية… ربما كنا نخترع اتجاهاً جديداً هو التبقيعية السينمائية، أو ربما كانت هذه الأفلام تشبه واقعنا؛ لقطات مفككة بلا مغزى ولا سياق ولا منطق”..
نفس السلاسة التي يؤكد “ناجي” بها على رخص وزيف ملابسات المشهد الأدبي والفكري الآني عموماً، مضيفاً: “كل من يستطيع أن يدفع تكاليف الطبع يصدر كتاباً، ويتحول إلى مؤلف مشهور، دور النشر لا تدقق، والنقاد نائمون على المقاهي… امسك قلماً واكتب ما تشاء، وهات خمسمائة جنيه. أو لا تكتب وهات ألفاً، وسأدبر لك أمر من يكتب باسمك. بألف أو بألفين تصبح مشهوراً؛ مفكراً أو روائياً أو شاعراً…. ادفع وافعل كل ما تشاء”.
في حضرة “خيري شلبي”..
إجترار الماضي واستدعاء تفاصيله وسلوكياته الحياتية العذبة بحنين لشخوصه أو قيمه الحميمية، يعتبر مستوى آخر من الغضب.. أكثر من فهمه كهروب رافض للواقع، خاصة حينما تتمخض قيم “الإستهلاك” عن أخلاقيات الابتذال والدعة لكل رخيص ولا قيمي، يتعالى فيه الخواء ويسعر في سوقه الإدعاء والجهل.
على طريقته الخاصة أراد الروائي والكاتب الصحافي المصري “حمدي عبد الرحيم” إحياء ذكرى الأديب الراحل “خيري شلبي”، فيقص على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، قصة أول تعارف ولقاء جمعه بالروائي الكبير؛ قائلاً:
“كان عماد الدين حسين يعرف محبتي لكتابات (صلاح عيسى)، فقال لي ذات ليلة بعيدة: “طنش جامعتك بكرة واطلع على نقابة الصحفيين، زميلنا حمدي رزق هيعمل حوار مع عمك صلاح، قول لحمدي يعرفك عليه”.
“نفذت ما قاله عماد وتوجهت إلى مقر النقابة، كان مقرًا لطيفًا له طله وأنيقًا في غير تبجح، أمامه ما يمكن تسميتها تجاوزًا (حديقة) ليس بها سوى ثلاث شجرات وأرضيتها مبقعة بنجيل معظمه محترق من العطش.
“من الواضح أنني شأن كل محب قد ذهبت مبكرًا جداً، رغم كوني طالبًا بالجامعة إلا أنني تعاملت مع النقابة بوصفها من أملاك الجدود، قعدت في الجنينة وطلبت قهوة زيادة، من عمي اللي نسيت اسمه، لكن فاكر تخنه وابتسامته الدائمة.
“بعد مرور ساعة من الانتظار، جاء (سامي السلاموني) وجلس منفردًا على الترابيزة المجاورة، لم يكن في الجنينة أكثر من ثلاث ترابيزات.
قلبي كان يدق من الفرحة، ضربتين على الرأس يوجعوا، قدامي (سامي السلاموني) وبعد شوية هيجي (صلاح عيسى)، دا إيه الهنا دا ؟
“كنت أراقب السلاموني من طرف خفي، رأيته يرفع ذيل بنطلونه الجينز وينزل فردة شرابه اليمين ويخرج علبة سجاير كليوباترا سوبر، لقى علبة السجاير فاضيه فكعبشها وحطها قدامه على الترابيزة، بص يمين وشمال فملقيش غيري جنبه فأبتسم لي:
ـ حضرتك عايزني ؟
ـ هو فيه غير حضرتك في أم المخروبة دي
ـ حضرتك تؤمر بحاجة ؟
ـ بتدخن ؟
ـ أيوه .
ـ طيب هات سيجارة
يا خرابي على الهنا والسعد هموت من الفرحة، زي طلقة وصلت لترابيزته وحطيت قدامه باقي علبة سجايري.
خد سيجارة وشاورلي اقعد فقعدت.
ـ اسمك ايه ؟
ـ حمدي.
ـ مش بطال.. صحفي يا حمدي ؟.
ـ لأه يا فندم أنا لسه في الجامعة .
ـ أمال بتعمل إيه هنا .
ـ مستني الأستاذ صلاح عيسى
ـ تعرفه ؟
ـ عايز أتعرف عليه
ـ ليه ؟
ـ أصلي بحب كتاباته وفيه حاجات مش فاهمها في كتابه عن الثورة العرابية هطلب منه انه يفهمهاني..
بعد فاصل ضحك أقرب إلى خشخشة الراديو الخربان قال سامي
ـ دا أنت راجل تحفة .. أنت فاكر الكتاب بيفتكروا اللي كتبوه .. عموماً حاول يمكن أبو الصلح تكون دماغه لسه مخربتش .. أنت تعرفني يا حمدي ؟
ـ طبعاً .. حضرتك الأستاذ سامي السلاموني .
ـ وتعرف عني إيه ؟
ـ أعرف أنك ناقد سينما كبير بحب كل مقالاته .. أنا بشتري الإذاعة والتليفزيون مخصوص علشان حضرتك وعلشان الأستاذ (سعد مكاوي) والأستاذ (خيري شلبي) .
ـ أنت بتعمل إيه تاني غير انك بتقرأ
ـ ما أنا قلت لحضرتك أنا طالب في الجامعة
ـ سيبك من حدوتة الجامعة دي وركز في القراية .. لأنك في الحالتين هتفشل.
قال الجملة وهات يا ضحك، وخد سيجارة تانية من العلبة.. كنت هموت وأدخن سيجارة بس كنت مكسوف أدخن قدامه.. شوية ولقيت راجل أبيض مشرب بحمرة متين البنيان بشوش الوجه شعره هائش.. إنه (خيري شلبي).. لأه أنا كدا قلبي هيقف بجد.. معقولة الناس اللي بيغمى عليا وأنا بقرا كتبهم يبقوا قدامي عادي كدا.. سلم العم خيري على سامي وشتمه من باب الاصطباحة.. وضحك سامي وشاور عليا وقال: “الولد دا صديقي واسمه حمدي وشغال قارئ”.
ضحك العم خيري ضحكة مجلجلة صافية وقال: “أوعى يا واد تكون بتقرا لسامي بس ؟”
ـ لأه يا فندم وقريت كل روايات حضرتك .
حط أيده على كتفي وهو بيقول: “ماشي الحال يالا بينا”
قلت في سري: “يالا بينا على فين ؟.. دا أنا لسه ماحسبتش على القهوة.. وبعدين هروح فين مع العالم دي”.
حرنت كأجمد بغل استرالي ورجليا اتمسمرت في الأرض .
بصللي سامي باستغراب وقاللي: “يالا يا واد تعالى معانا هنغديك ونسمعك أحلى مزيكا في الكون” .
هنا تتجلي أحط خصائص أولاد الطبقة الوسطى، أنا بكره أدب القرود بتاع الطبقة الوسطى.. بحب براح البرجوازية وتلقائية العشوائيات.. أنا مكسوف أني أروح اتغدى أو حتى أقعد مع ناس اكبر مني ميعرفوش عني غير اسمي الأول مع أني بعشقهم وبسهر اقرأ كتبهم ومقالاتهم .
أنا لسه واقف بين خيري شلبي وسامي السلاموني.. بصلي عمى خيري وهو بيرفع أيده عن كتفي وقال: “عادي برضه.. بكرة الأيام تعالجه ويبقى زي الفل.. سلام يا واد يا حمادة”.
غالبا رديت السلام بدون صوت لجفاف حلقي من كتر كسوفي ورعونتي، وشفتهم وهمه خارجين من باب النقابة وبيضحكوا.
(صلاح عيسى) ما جاش يومها.. وبعد يمكن سنتين أو تلاتة مات فجأة (سامي السلاموني) دون أن أتواصل معه.. وبعدها بسنوات قابلت العم (خيري) كثيراً وذكرته بهذا الموقف فضحك وقاللي مش فاكر طبعاً.. بس يمكن تكون اتعالجت دلوقت.. ثم اهداني يوماً روايته (صالح هيصة) مزينة بكلمة منه: “إلى عبرحيم كوميديان الصحافة المصرية”.
استكثرت الإهداء على نفسي.. ثم أكرمني الله بكتابة رواية، فأرسلت له نسخة مع صديقنا المشترك الكاتب الصحفي خيري حسن.. وليلتها مات خيري شلبي قبل أن تصله النسخة”.