كتب: أمين غانم
كاتب يمني
في رائعته (أنا كارينينا) كان ليو توليستوي يظهر صراع الهوية في مجتمع زراعي على مفترق التحول للمجتمع الصناعي، وعلى حد وصف المفكر الإيطالي (القديم ينهار، والجديد لم يولد بعد، وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية)، حقبة صراع وجودي تتعاضد في إذكاء أواره كل القوى الفتية والمتهاوية، تستشري أفكارها في النفوس المنكوئة كأضغاث حرى للعبور لمرحلة غير محددة الملامح.
تبادرت لذهني عبارة زعيم تجديد الفكر اليساري، غرامشي، بعدما أنهيت قراءة رواية (بيت السودان) لمحمد حياوي، فما بين خرائب بغداد وبستان الناصرية ذي النخيل الكثيف الظلال الذي تتوسطه عريشة العنب، تتوالد حكايات كثيفة للعزلة والاغتراب، بعد هديل الفواخت ووجلها، تنقلنا بيت السودان لتأمل زحف العظايات في الزقورة بمدينة الناصرية الجنوبية، لسرد قصة أخرى للضياع،على إيقاع نفس الحرب حين تفتك بتآلف أسرة سمراء لا رابط بين فتياته إلا أواصر مشتركة للقطاء، تمكنوا من الامتلاء مجددا بالأمل شغفا بالحياة بمعية فتى ابيض لقيط، وما قبلهما (ياقوت، عفاف، علاوي، نعيم،عجيبة)، دعة إنسان لا عشيرة له واربته غرائز مجتمع ما يفتأ في وثباته الصاعدة وأنضجته وضاعات ذكورية تنحدر للقاع، أناس يعيشون كفحوى إباحية جبلتها على الوجود متعة الاسترخاء على سلطة غير أبوية، في بيئة دفيئة بوشائج الرغبة للتعافي من الماضي ولو بداخل أمكنة يمقتها العالم كله، أشبه باستلهام الإنسان لطاقته الروحية للمضي بالتحليق فوق شهواته دون الوقوع في جاذبية لذة فتاكة، كإصرار فراشة رفيعة الجمال على التحليق في ظهيرة صيف لاهب دون الافتتان بظلال زهرة ندية.
بيت السودان، حكاية تدور رحاها داخل الناصرية والزقورة في أور الأثرية وبغداد، حكاية التآلف الروحي الذي يوحد اللقيطات السمراوات بفتى أبيض لا أصل له ضمن أسرة واحدة تعيش من ريع حفلات الرقص الليلي، ضمن مثل وأخلاق يندر وجودها، حتى جاءت الحرب وأطاحت بتلك المنظومة المنسقة، محيلة أفرادها أشتاتا، تمزق نسيج البيت الواحد تدرج من اختفاء جلسات السمر في بستانه الخلفي، وانطفاء بريق لياليه الملون، لانكتام صوت موسيقاه، حتى تذبل روحه الفتيه، ياقوت، في توظيف أسطوري للخلود الذي يعقب التضحية على غرار الكاهنة والشاعرة الأكدية إنخيدوانا، مزاوجة فنية بين الفناء والخلود، الروح الجسد، الجنة والنار أشبه بمداواة الفن للنفوس الذابلة بداخل إطارها المادي، دون الاتكاء على ماورائيات المثل كحالة بعث ديني.
لتسقط فراشات الحب الخالص بداخل اللهب الشهواني، في تمظهر جنسي لانفلات الغريزة الحبيسة من عقال روح متآكلة.. هكذا يتفوق سحر المكان على الشبق الفطري لبرهة من الزمن، ضمن تجليات الانسلال من الألم تغوص الشخصيات في تيهها عن اللحظة، استعاضة على شاكلة الانكفاء الرمزي من مواجهة فظائع التداعي الوشيك، لتأت شخصيات بيت السودان كأوجاع منسية اختلست مصادفة من ضياع تام، بهويات بديلة مزدوجة التداخل بالمكان، ففي حضرة الأجساد الراقصة تصاغ النفوس وتهذب كنتوءات مهملة، تعيد اكتشافها أنامل ياقوت الماهرة، صائغة النفوس، والعالمة بنزواتها الخابية، في معادل فلسفي لإناطة المرأة بمثاليات الوجود ولو بداخل بيت متخم بالأسباب المفضية للخطيئة، نكاية بتفسخ جماعي يداهم جذور المجتمع الكبير خارج ذلك البيت، تناقضات سافرة لتحور الذات وتحللها، موت حواضن الهوية بولادات منفرة من الأثر الشهواني لاختلال الغرام بالأنثى، ضرب من إستدعاءات مخيلة خائرة لصور أسطورية مماثلة تذكي تجرد الإنسان لاسيما الرجل من عصبويات النفوذ والسيطرة.
ثمة إتكاءات خفية لأسئلة عصية على الإنسان، تمور في روايتي حياوي (خان الشاه بندر، بيت السودان)، تبدو المرأة فيه كامتداد للحضارة إن لم نقل روحها الخلاقة، لكنها في السرد ما فتأت تتهدد على ارتدادات الخيال، كمحاولة تخط للأفق المسدود، ليظل شغف الكاتب بالسفر على ذلك الخيط الخفي الذي يوصل جذور الحضارة بإرادة السماء مجددا، ضمن محاولات لانهائية لسبر مآلات الوجود، من ولادة لا يفنى فيها الإنسان إلا ككيان ضعيف، وكل الخطيئة تظل في انصياعه لغيبيات الخلاص دون التحلي بالإرادة كذات مجبولة بالخلود، تخولها العصور كتراكمات خارقة للزمن، أشبه بمنحة الحضارة للإنسان قوة ضافية للبقاء خارج الحدود الطبيعية للكائنات، ويستمر الكاتب في تقديم تلك الشخصية المركبة (ضمد) الحارس الغريب الأطوار في المقبرة الأثرية (أور)، كامتداد لشخصية (مجر) التاجر العتيق في رواية خان الشاه بندر، ليمنحه ذات الملكات السحرية للعيش بمحاذاة مجتمع يتداعى للتو، إبقاء ضمني لكل ما تضيفه الأزمنة من عظات في مخيلة الخلود الأبدي للإنسان، لتغدو شخصية (ضمد، مجر)، مخيلة ظلية مواكبة لأحداث السرد في إبداع حياوي، بأفكار ضافية مؤازرة لأبطاله، عليمة بمكنونات الأحداث والأزمنة، وتتمازج مع الأحداث بحضور شبحي غير مرثر، ومن توار آخاذ يشرع في إلقاء كلماته وفق رؤية منزهه من لبوسات الآني والمؤقت يفتح مدارك السارد كلما استعر الموقف، واستعصى الفهم، أو مرافقته بعيدا عن البؤر الملتهبة.
حكاية أخذت من غزو الكويت ومن انسحاب الجيش العراقي على وقعات الضربات الجوية، وانتفاضة الجنوب عام ٩١، حتى بدايات الغزو الامريكي للعراق في ٢٠٠٣ ، متنا عريضا لوزن الأفكار الهوجاء، بأحداث تالية مناقضة لإيديولوجيتها، يطغى جمال السرد على تقصي الوقائع اليومية للحرب، وظلت الحكاية وفية للفكرة الأسمى لرصد عطب الذات وتحللها عن كثب كمثل فتية تغلي من الداخل، لكن بعدها المكاني يظل متواريا خلف ازدواجيات متفسخة لشخصياته لاسيما تلك التي تتناوب في الوشاية عن نفسها تارة بالحب الخالص أو بالشبق الجنسي، الشذوذ كرحم لولادة الكفاح ضد القمع والاحتلال، تردي الذات واندلاع فجرها كرمزا ساميا للخلاص، أشبه بصهر جمالي لتناقضات منفرة لتشكيل سمو الروح مجددا، ويغدو ذلك الحيز المكاني بمثابة الجدار الآيل بين دعة الروح/ المجتمع/ الوطن وتفسخها تململا من طفوح أوجاع راسبة، كصدع شره يسري في الأمكنة ناخرا أعماقا موغلة.
هكذا يذوي عالم بيت السودان ويتداعي آخاذا معه أبعاد التلاشي للمجتمع العراقي نفسه على إيقاع حروب متلاحقة، كطاقة فريدة مزدوجة الولادة والموت،عطب مثل وقيم، وولادة أخرى،غير متوقعة، على نفس الأنقاض المهترئة، تجلى بداخل ضياع فضفاض يعقب انحدار مهول للأبطال.
هل كان محمد حياوي يرصد زوال ما، من مراحله الأولى، حتى يصل لنهاياته البائسة، في مهمة لا تقوى على فتح فوهة صغيرة بجدار واقع سميك؟ أم كان يقايض المأساة بقدرات الفن على المضي حينما يخفق الجميع، عبر سرد سحري يعيد هوية الإنسان نصابها الحضاري الخلاق، مبددا اللحظات الجريحة الموغلة في اليأس، بإغراقها بسيل من الجمال الحكائي، فلاشيء يعوق الإمعان في الجمال غير عدم القدرة على الإفلات من تربصات عقل مريض؟.
– هنا يبدو المشروع السردي لمحمد حياوي (الجمال مدخلا لخلق المثل والقيم، مرة أخرى)، كمقارنة تقنية للهوية عبر شكلين متباينين للمكان: لقد دأب الكاتب على رسم إيقوناته، كغايات تتفتق بجمال حقيقي لسبر حقبة التحول للمجهول عبر رصد إفرازات مكانية لما بعد سقوط الدولة في العام ٢٠٠٣ م (خان الشاه بندر)، تجريف لعلل مركبة تمتد لما قبل ذلك بعقود، وفي (بيت السودان) كطفح طفيلي للكبت بداخل مجتمع (غير مضطرب) (قبل ٩٠ م) وحتى المراحل الأولى لغزوه من قبل الجيش الأمريكي.
ثمة تشابه كبير في شكل وموضوع الروايتين لحد كبير، وتبقى دلالات المكان بالكيفية التي هيأت لتوظيف الخطيئة بحركة المجتمع أو تشظيه وتداعي مقوماته، هي الفارق الجوهري بينهما مهما اجتمعتا في المحصلة لسرد تتشابه عناصره في اختزال تمزق بنية المجتمع العراقي ابتداء من حقبة التسعينات، وفق الكيفية التي أفضت لتشكل عالمي الشاه بندر وبيت السودان، كمخرجات سوية أو مشوهة للمجتمع ذاته.
فعالم الخان تشكل من تهتك المجتمع العراقي بعد ٢٠٠٣ م ووجد في خرائب بغداد وأزقتها ضآلته لإلتفاف فضلات آدمية انسلت من براثن ضارية اجتاحت المدن والأمكنة، في سياق تآكل الهوية وتداعي المثل، حتى غدت الدعارة الواش الأوحد لبث أوجاع بلد بحاله، أما بيت السودان فكان يشكل عالما سويا بداخل مكان جميل، بيت يقع في محاذاة بستان كثيف بظلال النخيل وعرائش العنب، يقوم على فكرة الحب الخالص، وعلى تفان الإنسان في الانصياع لإرادة أكبر ليحصن نفسه، يجرم الدعارة، وظل لعقود خلت، متنفسا قيميا للمتعبين من الكسبة والمعدمين، وعلى وقع الدفوف كانت ياقوت تغمر لياليهم بجسدها البض المشبع بالإغراء، برقص عفيف، حتى تفتر الغرائز بضرب من زهد الأجساد للرغبة على أثر ما تبثه ذائقة ياقوت وفتياتها من ألوان آسرة للهيام بأجسادهن الراقصة، ليغدو بيت السودان إطارا وظيفيا لتسوية أخلاقية لكل ما تحدثه فجاجة الجنس والسلطة من اختلالات خفية في مجتمع متماسك، في ظلال القبضة الحديدية للدولة، إلا أن السرد في الروايتين يلتقي برصد التفسخ الحقيقي من العام ٩١، هو أول القص، ونقطة ارتكاز الحكايتين الذي تؤول معه الأمكنة لاختفاء غرائبي، يعيد الخيال مجددا لاحتواء واقعية حكاية ممكنة الحدوث، لكنها لا تترك أثرا ماديا للمأساة بقدر ما تتيح لها فرص أخرى للتحديق في صورها الفاتنة.