خاص: إعداد- سماح عادل
“جونيتشيرو تانازاكي” روائي ياباني شهير، وقد يكون أشهر روائي ياباني بعد “ناتسومي سوسيكي”. ترصد أعماله الحياة العائلية اليابانية في سياق التغيّرات السريعة في المجتمع الياباني في القرن العشرين، كما تمثل البحث عن هوية ثقافية يابانية في العالم الحديث. حصل على وسام الثقافة عام 1949.
ولد في طوكيو عام 1886، ونشر روايته الأولى عام 1910، وعمره 24 سنة كانت قصة طويلة عنوانها «وشم» متأُثرة بتيار الأدب المكشوف والمتأنق جمالياً، الذي كان سائداً في بريطانيا كما في فرنسا عند نهاية القرن الفائت. واصل “تانيزاكي” هذا النوع من الكتابة حتى عام 1923 حين جاء زلزال طوكيو المأسوي ليقلب حياته وأفكاره رأساً على عقب. فهو اضطر للتوجه إلى كيوتو ليعيش هناك بعد أن دمر الزلزال منزله في طوكيو. ولما كانت كيوتو مدينة التقاليد والأصالة مقابل حداثة طوكيو، كان من الطبيعي لتانيزاكي الذي ستدور أحداث رواياته منذ ذلك الحين فصاعداً في كيوتو، أن يتجه لمزج المعاصرة بالأصالة، وأن يكتشف أن الأدب المكشوف الذي كان يعتقده ابتكاراً أوروبياً، إنما يجد معادله في الأدب الياباني العريق.
مديح الظل..
في مقالة بعنوان («مديح الظل» لتانيزاكي: محاولة لتفسير ولع الشرق بالتقابل) كتب “إبراهيم العريس”: ” في واحدة من الروايات الجميلة وذات الدلالات الفكرية والاجتماعية العميقة التي كتبها الروائي الياباني “جونيشيرو تانيزاكي”، عام 1931 بعنوان «حكاية السيد موزاشي السرية»، تطالعنا حكاية هوس متواكب مع نوع من الاستجابة لتوق محدد: فبطل الرواية يشاهد خلال حصار ومعركة عسكرية تدور أحداثهما في القرن السادس عشر، حين كانت الحروب مستشرية بين كبار الإقطاعيين، يشاهد وكان بعد في سني طفولته، سيدات حسناوات، يمضين ساعات يومهن في تزيين رؤوس جنود الأعداء المقطوعة وتصنيفها. ويتوقف الطفل في شكل خاص عند رأس في منتهى الجمال يطلق عليه اسم «رأس امرأة» بمعنى أنه رأس قطع منه الأنف خلال المعركة. هذا الطفل سيظل طوال حياته مأخوذاً بمشهد الرؤوس المقطوعة والمبرّجة، مشهد سيحاول في الوقت ذاته أن يستعيده على الدوام، وأن ينساه على الدوام.
ونحن إذ نقرأ اليوم روايات تانيزاكي الأساسية، في ضوء ذلك المشهد سيمكننا أن نفهم كل ضروب الضلال والانحراف التي تلوح فيها، وسندرك أن هذين الضلال والانحراف اللذين ارتبطا على الدوام وإلى حد كبير، باسم تانيزاكي وبأدبه، لم يكونا مجّانيين، بل كانا أشبه بمجاز حاول الكاتب من خلاله أن يرسم صورة ذاتية جداً للمجتمع الياباني وضروب الفساد التي كانت تتحكم فيه خلال النصف الأول من القرن العشرين، أي خلال الحقبة الزمنية التي عايشها وصنعته. فبالنسبة إلى تانيزاكي لم يكن التهذيب السائد في العلاقات الاجتماعية اليابانية سوى قناع خادع يخفي وراءه، وفي الأعماق، شتى الشرور والمركبات النفسية التي تتحكم في ذلك المجتمع المغلق. والحقيقة أن هناك تقابلاً عكسياً بين القناع الذي غلّف على الدوام أدب تانيزاكي، والقناع الذي غلّف الحياة الحقيقية للمجتمع الياباني. فالنقاد ونخبة القراء الذين قرأوا أدب تانيزاكي في اليابان، أو في بلدان عدة ترجمت الأعمال الرئيسية لأدب تانيزاكي فيها منذ نهاية النصف الأول من القرن الفائت، احتاجوا إلى الانتظار سنوات طويلة قبل أن يدركوا أن ضروب الانحراف التي تطبع روايات هذا الكاتب ليست سوى قناع خادع أيضاً. وأن في خلفية ذلك الأدب الإباحي والجنسي المكشوف، تكمن نزعة أخلاقية، ورغبة في التمرد ضد نفاق المجتمع وأكاذيبه”.
وعن أفكاره وكتبه الفكرية يضيف: “والحقيقة أن أولئك القراء ما كان من شأنهم أن ينتظروا كل تلك السنوات التي انتظروها كي يدركوا حقاً تلك الأفكار والمفاهيم والرؤى الشديدة العمق التي تقف خلف أعمال تانيزاكي الأدبية. فهو إذا كان قد سجل ما يمكن اعتباره مرحلته الإبداعية الكبرى، في الأقل مروراً بالرواية التي أشرنا إليها أوّل هذا الكلام، وكان بعد في الثالثة والأربعين من عمره، فإنه ما لبث، بعد ذلك بعامين فقط، أن نشر كتاباً له، لم يكن روائياً هذه المرة، بل كتاباً فكرياً وجد أن من الضروري له أن يكتبه، في الأقل كي يفسّر عالمه الإبداعي الذي كان يعرف جيداً أنه في حاجة إلى تفسير كي لا يساء فهمه. لكن المشكلة هي أن القراء، المحليين ثم المنتشرين في أنحاء العالم يقرأونه عبر الترجمات التي راحت تتكاثر، قرأوا أدبه كما يحلو لهم، لكنهم لم يلتفتوا كثيراً إلى كتاباته الفكرية. وكان عنوان النص الذي نتحدث عنه هنا «مديح الظل» الذي هو عبارة عن نصّ قصير لم يزد عدد صفحاته في ترجمته الإنكليزية عن سبعين صفحة ونيّف.
كان الكتاب بالأحرى نوعاً من التفسير الفلسفي العميق للفوارق الذهنية بين الشرق والغرب أساساً. وموضوعه ينطبق ليس فقط على الأدب بل على السمات الحياتية في شكل عام. وكان تانيزاكي قد نشر سلسلة «التعليقات» التي يتألف منها «مديح الظل»، قبل جمعها في كتاب. وعدد التعليقات ستة عشر كان همّها الأساس – وتحديداً في ذلك الزمن الذي كانت فيه اليابان قد بدأت تخرج من منغلقاتها لتنفتح فكرياً وثقافياً، ولكن سياسياً أيضاً، على العالم – استعراض التقاليد الجمالية اليابانية التي تقوم في رأي الكاتب على مفهوم الظل. ومن الواضح هنا أن المقارنة التي يقيمها تانيزاكي بين العتمة المظلّلة والنور الساطع، إنما هي مقارنة بين نظرتين وعالمين: نظرة اليابان وعالمها من ناحية، ونظرة الغرب وعالمه من الناحية الأخرى. فالغرب في رأي الكاتب يمضي وقته كله وهو يبحث عن أعلى درجات النور لأنه بالنسبة إليه مرادف للوضوح والتقدّم، فيما الشرق عموماً واليابان يجعلان من الظل والضوء الخفيف جزءاً من تقاليد الحياة بالتالي جزءاً من عالم الإبداع ذاته ضمن إطار ما يسمّيه اليابانيون تقليد «السابي»، من دون اهتمام بما إذا كان يعني تقدماً أو تخلفاً”.
اليابان الفريد..
وفي مقالة أخرى بعنوان («الظل» الذي امتدحه تانيزاكي) كتب “خالد ربيع السيد”: “يقودنا كتاب «مديح الظل» -العصي عن التصنيف من حيث جنس الكتابة-، للكاتب الياباني «جونيشيرو تانيزاكي» إلى استكشاف يابان لا نعرفه، ولم نسمع به وهو بالضرورة غير مطابق للصورة الرائجة عنه.. إنه اليابان الفريد بقيمه وتقاليده والموغل في خصوصيته. يابان لم يتملكه هاجس التكنولوجيا ولم ينخرط في حداثة الغرب كما نتوقع. تانيزاكي يتشبث بكل ما هو قديم وغائر في رحم الحياة اليابانية الأصيلة، ويستعيد فسيفساءها الصغيرة والكبيرة، من عمارة البيت الياباني وتنظيم فضائه الداخلي الى أواني الطعام والمزهريات والشمعدانات وأجهزة الإضاءة والتدفئة إلى اللباس والموسيقى وطريقة تبرج النساء والشعر والمعاني الخبيئة في حب التعايش في بيئة تتماهى معه.
يتساءل تانيزاكي: أي شكل سيتخذه المجتمع الياباني لو لم يتبن أدوات الغرب..؟ ماذا يحدث لو حدث ذلك لسار اليابان في اتجاه مغاير نحو عالم مختلف يناسب طبع الياباني ويثري خصوصيته في كل مجالات الحياة”.
ويضيف: “مملكة الظل، التي اكتشفها اليابانيون القدامى.. أسرار الظل وقوانينه، إنها فلسفة أكثر ما هي رغبة تائهة، وخلافا للغربيين المهووسين بالضوء، برع اليابانيون في استخدام الظل، واستطاعوا أن يجعلوا منه عنصرا جماليا أساسيا يتفرع عن مفهوم مهم للحياة القائم على العدم والفراغ.
يقرر تانيزاكي أن أجداده كانوا يعتبرون المرأة كائنا ملازما للظل ليس لاعتبارها كما مهملا، ولكن لما في الظل من جمال ساحر.. كانوا ينظرون إليها على غرار الأشياء المطلية بالذهب أو الأشياء الصدفية. ويجتهدون قدر استطاعتهم في إغراقها تماما في الظل.. وهذا يفسر استعمال الفساتين ذات الأكمام الطويلة والذيول الطويلة والتي كانت تحجب بظلها الأيدي والأقدام. وبحيث يكتسي الجزء الواضح الوحيد من الجسد أي الرأس والعنق. أن جسد المرأة اليابانية بالمقارنة بجسد المرأة في الغرب أكثر بشاعة، ولكنهم بهذه الطريقة ينسون ما هو غير مرئي بالنسبة لهم، ويعتبرون أن ما لا يرى إطلاقا غير موجود، كما أن الذي يريد أن يرى بأي ثمن هذا القبح لا ينجح إلا في تدمير كل جمال.
إنه يعتبر أن بياض الإنسان الأبيض بياض شفاف وبديهي ومبتذل، بينما بياض تلك المرأة اليابانية هو بياض منفصل نوعا ما عن الكائن البشرى.
في النهاية يتساءل تانيزاكي.. لماذا يتجلى هذا الميل إلى البحث عن الجمال في الظلام بمثل هذه القوة لدى الشرقيين فقط؟.. لقد كان الغرب هو أيضا يجهل حتى الفترة الأخيرة الكهرباء والغاز والنفط، بيد أنه لم يشعر أبدا برغبة في التلذذ بالظل.
ويعترف في نهاية الكتاب بأنه لابد أن يكف عن الاحتجاج، فهو أول من يعترف بأن منافع الحضارة المعاصرة لا تحصى، وأن الخطب لن تغير في الأمر شيئا، هو يعرف أن اليابان انطلق بشكل غير قابل للارتداد في طريق الثقافة الغربية، بحيث أنه لم يبق له سوى أن يتقدم بشجاعة متخليا عن الذين هم عاجزون عن اللحاق مثل الشيوخ، لكنه يحذر من ضرورة التصميم على أن يتحملوا إلى الأبد حيث أن لون بشرتهم لن يتغير أبدا وبالتالي سيجدون نتائج سيئة سيعانون منها لوحدهم”.
مفكرة رجل عجوز مجنون..
وفي مقالة بعنوان («مفكرة رجل عجوز مجنون».. متعة منمنمات السرد الياباني) كتب “علاء الدين محمود”: “ترى ما الذي يفعله الروائي الياباني الشهير «جونيشيرو تانيزاكي»، في عالم السرد؟ هو يلعب لعبة المتعة من خلال التفاصيل الصغيرة، والغوص داخل النفس الإنسانية، هو يتجول مع الأفراد في محنتهم ويتلمس أوجاعهم ويناقش أفكارهم التي لم يصرحوا بها، هو عالم مجنون بلا شك، ولكنه ممتع، وقد تكون المتعة في الجنون أحياناً، وهذا بالضبط ما يفعله في روايته «المفتاح ومفكرة رجل عجوز مجنون» التي صدرت مؤخراً عن دار كنعان في دمشق، بترجمة خالد الجبيلي.في هذا العمل يبقى تانيزاكي مع هوايته المفضلة «التفاصيل الصغيرة»، ويظهر ذلك في الرواية من خلال عالم المذكرات واليوميات”.
ويؤكد: “قصة الرواية ذات ارتباط بالعصر الراهن الذي نعيشه حيث التشظي الإنساني، فالمؤلف يتابع ذلك الرجل العجوز في كل حركاته وسكناته، ولأنه مسنّ ويائس ووحيد، حتى بوجود زوجته، فهو يعمل على تدوين كل المشاعر التي يتعرض لها في مذكراته، ويغوص المؤلف عميقاً في نفس ذلك الرجل العجوز وكيفية تفكيره اليومية وهو يقترب من حافة الموت، ويزداد جنوناً”.