خاص: إعداد- سماح عادل
“أمحمد بن قطاف” شيخ المسرحيين الجزائريين.
بدأ “أمحمد بن قطاف” بتجربة التمثيل ثم أصبح مخرجا وكاتبا، وشارك في أعمال مسرحية متميزة جريئة في المسرح الوطني بعد 1966. إلى جانب مجموعة من المسرحيين أمثال “مصطفى كاتب وعبد الحليم رايس وولد عبد الرحمان كاكي وعلولة وزياني الشريف عياد” وغيرهم..
المميزات التي تلتصق بسيرته الإبداعية تبدأ بأن نصوصه التي تتسم بالحركية لتجمع فيما بين الأصالة والمعاصرة. لا يكتفي بتوصيف اللحظة والأفعال الدرامية، لكن يتعداها إلى هندسة فضائه الخاص، وتوصيف الأحداث والوقائع.
بالإضافة إلي أن كتاباته ترتكز على شخصية محورية تعاني حمل الأحداث على حساب الشخصيات الثانوية التي لم تكن تستعمل إلا بوصفها “إكسسوارات”.
كما كان يتبنى عناصر المسرح الملحمي وأهمها التغريب بكسره للجدار الرابع. ودخوله في علاقة “ودية وعدائية” مع الجمهور بواسطة كسر الإيهام من خلال التعليق على كلام شخصياته. وقد اعتمد في مسرحية “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” على شخصية “عمي العابد” القوال أو الراوي مع أنه كان يحتفظ في كل أعماله بعنصر الحكاية باعتبارها روح الدراما.
وأيضا لم يوظف الراوي إلا ليجسّد التغريب مرة بفصله للمشاهد عما يراه مُمثلا أمامه على خشبة المسرح. ومرة بإعادة رواية الأحداث مما يضفي عليه طابع الاغتراب الزمني، ومرة أخرى بإشراك المتلقي عن طريق محاورته بصفة مباشرة في خطاب تواصلي تبليغي.
الراوي..
منح “ابن قطاف” الراوي صفة “الجوقة” في مسرحية “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” ليتخلّص من تاريخية الموضوع إلى تكريس تقنية الإخبار، لأن الحاكي والممثل هو الذي يروي القصة، وحين يتحدّث هذا الراوي الذي يشكّل قناة التواصل، فإنه يستعمل لغة شعبية مفهومة، تنزع أحيانا صوب اللامعنى نظرا لحمولة الاغتراب التي تكتنفها، فتحتاج إلى بعض التفسيرات والإحالات وكأنها موجهة إلى متلقي غير عادي”.
كتب “أمحمد بن قطاف” بلغة ثالثة بطريقة تراثية محكمة كلها شعرية مشحونة بالإيحاءات والرموز التي تفيد في تطوير المعاني والأفكار. وهي نابعة من عمق انتمائه إلى حي شعبي “حسين داي” بعمق العاصمة، ذلك الحي العريق المحاط بالأسواق والساحات العمومية على غرار ما ظهر في عمله “عقد الجوهر”. كتب باللغة الفرنسية الممزوجة بالعامية الجزائرية، فكانت بسيطة تحمل بطياتها صورا كثيرة مستوحاة من الواقع الاجتماعي الجزائري مثل مسرحيته “الصباح الهادئ”.
الغناء..
اعتماده على الغناء أضفى الجمالية وتوثّب الإيقاع الدرامي في أعماله وكانت محل إعجاب المتلقين الجزائريين، فكان يستعمل في معظم مسرحياته مقطعا غنائيا، بسبب ولعه بالغناء وامتلاكه لصوت غنائي وإذاعي جميل.
في البداية كان يحب الغناء: البدوي الشعبي الشرقي ويحب (الحاج محمد العنقى، الحاج مريزق، حسيسن، سيد درويش، محمد عبد الوهاب، الحاج منور..). شجّعه الملحن “مصطفى سحنون” فنان الفرقة الفنية لجبهة التحرير على تقديم نفسه للدخول في مسابقة التجارب الصوتية، حين كانت التلفزة الجزائرية تعمل على تكوين أوّل كورال، وجد نفسه داخل الأستوديو ، أعجبت اللجنة بصوته، وتمّ قبوله كممثل إذاعي، وقُبل كممثل لمدة ستة أشهر، وهكذا أصبح “بن قطاف” ممثلا، فدخل هذه المهنة ولم يخرج منها أبدا..
وفي نهاية سنة 1965، مثّل مع الفنان “محمد حلمي” في مسرحية “بلا عنوان” رفقة ممثلي الإذاعة الجزائرية، ورفقة كل من: الفنانة ياسمينة ومبارك صالح.. وكان من بين الحاضرين “مصطفى كاتب”، الذي كان يرغب في تطعيم فرقة المسرح الوطني الجزائري بعد تأميمه، بشباب يُتقنون اللغة العربية الفصحى، فكان له الحظ، وقام بأول دور له في مسرحية “عنبسة” ل”رضا حوحو” والمقتبسة عن الروائي الفرنسي “فيكتور هيجو”.
هذه المسرحية كانت انطلاقته الحقيقية، وبعدها مثّل في مسرحية “الخالدون” ل”عبد الحليم رايس”، وبدأ يشارك في كل الانتاجات المسرحية، ويوزع في أغلب الأدوار الرئيسية.
الكتب..
كان يحب القراءة كثيرا باللغتين: الفرنسية والعربية، من يدخل مكتب “بن قطاف” في المسرح الوطني الجزائري يرى قيمة الكتاب عنده.
الترجمة..
أول عمل ترجمه للمسرح الجزائري هو “ايفانوفتيش” بعنوان “ابليس لعور كاين منو” متأثرا بـ”محمد ونيش” في الأداء وطريقة الإخراج كما نوّه بأعمال علال المحب ومصطفى كاتب وكاتب ياسين وحاج إسماعيل وغيرهم التي ألهمته في مساره.
أول مسرحية كتبها هي “حسنة وحسان” وقدمها للممثل المتفرد “سيد أحمد أقومي” كي ينتجها في المسرح الجهوي عنابة بعد تطبيق سياسية اللامركزية. حيث أخرجها أقومي وأخذ أدوراها الرئيسة كل من جمال دكار وصونيا. وعبد الحميد رابيا.
وبعدها كتب “stop” أخرجها “البريختي” الحاج عمر وأدى أدوارها كل من “عز الدين مجوبي، صونيا، سليمان، ومصطفى عياد”.
وبعدها كتب مسرحية “جحا والناس”، ومن ثمّة انطلق في عالم الكتابة، واستمر في إبداعاته حين وجد أن هناك جمهورا متذوقا لأعماله، وكان دائما يسعى لإيجاد وسيلة تجعل كل الناس يفهمونه، ليس فقط في الجزائر بل في العالم العربي.
يرى الباحث “محمد بوكراس” أن قوة “بن قطاف” في “العبارات الشعبية البسيطة بلغة بسيطة ولكنها مشحونة دلاليا. “كلمات متحرّكة نابضة بالصور”، تكمن عبقريته أيضا في اختيار عناوين أعماله حيث لا مجال للعفوية أو الصدفة. بدءا من مسرحية “قف”، ثم “كيشوت”، “العيطة” التي تعني الصرخة والانفجار التي تنبّأ فيها بأحداث 05 أكتوبر 1988، مسرحية “عقد الجوهر” التي جاءت احتفالا بمناسبة مرور 30 سنة على اندلاع الثورة 1984.
آخر مرة على الخشبة..
وقف “بن قطاف” آخر مرة على الخشبة في مسرحية “التمرين”. وبعد رحيل الممثلين العمالقة الذين تركوا فراغا رهيبا في المشهد المسرحي الجزائري. عمل “بن قطاف” على استثمار الطاقات الشابة التي تخرّجت من المعهد العالي للفنون المسرحية. مثل “عباس محمد إسلام، نضال وحيدر بن حسين وكمال بوعكاز، كان إيمانه قويا بقدرة الشباب على بعث ربيع المسرح الجزائري.
رمز كبير..
في مقالة بعنوان (سبع سنوات على رحيل المسرحي الجزائري الكبير أمحمد بن قطاف) كتب “د. أحسن تليلاني”: “هي مصافحة ثقافية وجمالية لمسرحي جزائري قدير هو الفنان المرحوم (أمحمد بن قطاف) ممثلا وكاتبا ومخرجا ومديرا للمسرح الوطني الجزائري، نذكر من خلالها شهادتنا في حقه تكريما لتجربته المسرحية ومساره الفني والإداري على رأس المسرح الوطني الجزائري، وذلك بمناسبة ذكرى وفاته في 05 يونيو 2014.
كان ذلك منذ سنوات، أذكر ذلك جيدا، كان الوقت في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، عندما تعرفت لأول مرة على الفنان المسرحي القدير (سي محمد بن قطاف)، كان هو في قمة عطائه المسرحي، وكنت أنا مجرد طالب يطالع المسرح إبداعا ونقدا، ويمارسه ممثلا في الفرقة المسرحية لجامعة منتوري قسنطينة بإشراف (د. الرشيد بو الشعير)، كان اسم (امحمد بن قطاف) بالنسبة لي ولكل المسرحيين من أبناء جيلي يمثل رمزا كبيرا في الفكر والوجدان”.
ويؤكد: “إن أكثر ما يشدك في شخصية هذا الفنان القدير بساطته الصادقة، وحنوه عليك، إلى درجة شعورك بأنك تعرف هذا الرجل منذ سنوات خلت، بل إنك لتشعر أنه من أهلك وذويك، يتحدث إليك بلسان عربي جزائري شعبي بسيط لا تأتأة فيه ولا كشكشة، لا يتقعر في العربية الفصحى، ولا يرطن بالفرنسية على عادة بعض الرهط عندنا، المؤكد أنه يحسن اللغات، لكنه يحسن ما هو أحسن من ذلك، وهي قدرته على استعمال المقال المناسب في المقام المناسب، ولربما تكون هذه الميزة في شخصية الرجل من بركات فضائل تعلمه في معهد ابن باديس بقسنطينة .
لقد أنجزت مسرحية (العيطة) في إطار تعاونية مسرح القلعة، وهي التعاونية التي أقبل عليها (أمحمد بن قطاف) سنة 1989 رفقة زملائه (زياني الشريف عياد) و (صونيا) وغيرهما، وإن هذه التجربة بالنسبة لنا كمسرحيين هواة وكإعلاميين وكدارسين مهتمين بحركة المسرح الجزائري هي تجربة مدهشة حقا، إذ كيف يمكن لهذا الفنان المتألق أن يغامر بمستقبله المهني فيغادر مسرح الدولة ليؤسس فرقة خاصة، لقد غذت التجربة مضرب المثل في التحرر من ربقة القطاع العام، وبينما فضل الكثير من المسرحيين الاستمرار في النقاش حول مسرح الدولة والمسرح الخاص، وحول قانون الممثل، وقضية الإنتاج المسرحي، وغيرها من القضايا التي مازلنا إلى اليوم نلوكها في مناسبة وفي غير ما مناسبة، كان (امحمد بن قطاف) قد حسم خياراته، وشمر على ساعديه معولا على موهبته الفذة في خوض غمار تجربة المسرح المستقل، هكذا يكون الفنان الموهوب الواثق من نفسه ومن قدراته وإلا فلا”.
ويختتم: “ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن (أمحمد بن قطاف) هو من أهم أعلام المسرح الجزائري المعاصر، فعلى مدى 75 سنة من حياته حيث ولد عام 1939 وتوفي في 05 يونيو 2014، على مدى هذا العمر ومنذ ولوجه عالم المسرح في مقتبل العمر نجده قد شارك كممثل فيما يقارب المائة (100) مسرحية، وكتب ما ينيف عن (25) خمس وعشرين مسرحية، ناهيك عما أخرجه من مسرحيات أخرى، وما قدمه من جهود في مختلف لجان التحكيم التي شارك فيها، ومختلف التظاهرات المسرحية التي أشرف عليها، وعلى الرغم من هذه المسيرة الكبرى الموقعة بآيات الاجتهاد والنضال، فإن الرجل قد رفض القعود وأصر على العطاء والإبداع حاملا بين جوانحه قلبا نابضا بقيم الجود والكرم حتى وفاته.
هذا غيض من فيض (امحمد بن قطاف) الفنان، غير أن الحديث عن دور هذا الرجل بوصفه مديرا للمسرح الوطني الجزائري منذ سنة 2003، و ما قدمه لحركة المسرح الجزائري انطلاقا من هذا الموقع لهو دور محوري يصب أساسا فيما يمكن أن نسميه التسيير الثقافي، وهو المجال الذي نجح (امحمد بن قطاف) في كسب رهاناته إلى أبعد الحدود، فمنذ أن استلم مفتاح المسرح الوطني حتى شرع في رسم سياسة قوامها تسليم هذا المفتاح لكل مبدع يرغب في ممارسة نشاطه المسرحي سواء أكان هذا المبدع من أهل الدار أم كان قادما من مختلف المسارح الجهوية، أو حتى من حركة مسرح الهواة”.