24 نوفمبر، 2024 8:52 م
Search
Close this search box.

بعض الخصائص المشتركة للنصوص الشعرية بالغة القصر

بعض الخصائص المشتركة للنصوص الشعرية بالغة القصر

 

كتب: صلاح محمد الحسن القويضي          

السودان

إذا كان النص الشعري الحديث قد انفك من إسار القافية التي ظلت تقيد القصيدة العمودية والوزن الذي كبل قصيدة التفعيلة، فقد ظلت العديد من الاشتراطات الأخرى لازمة في النص الإبداعي حتى يمكن أن ننسبه للشعر. وكنت قد تعرضت لبعض من هذه الشروط في مقال لي بالعدد الرابع من مجلة (الوجود المغاير) التي يصدرها بيت الشعر السوداني في سياق تناولي لخطاطة الشاعر عادل سعد يوسف الموسومة (الأتبراوية كهرمان الحجاج الأنيق). قلت حينها رداً على تساؤل ناقد من أنصار (الشعر العمودي): وماذا يبقى منه إذا ذهب الوزن وغابت القافية:

(يبقى من الشعر سحر المفردة الشعرية ذات الطابع الخاص وغنى الفكرة وتنوع الأخيلة. يبقى من الشعر موسيقى التراكيب المتفردة والجرس الداخلي. تبقى من الشعر الصور المخالفة للمألوف وتعدد وتجدد المجازات التي لا يقدر على صياغتها غير الشاعر ولا تتأتى لغير الشعر. تبقى من الشعر رمزيته ورموزه التي يفك مدلولاتها كل متعاط له على هواه. تبقى من الشعر إحالاته التي تبعث المتلقي لعوالم ورؤى وأفكار مختلفة في الماضي والحاضر والمستقبل. يبقى من الشعر قبل ذلك وبعده مقدرته على ارتياد عوالم أخرى تتجدد في كل نص شعري وتبقى منه القدرة على الإدهاش والتحليق بالقارئ في سماوات لا نهائية لا يحدها إلا مقدرة الشاعر على التقاط فكرته وانتقاء مفردته وتخير تراكيبه وهندسة نصه الشعري على مشيئة ما فيه من موهبة وامتلاك لناصية أداته اللغوية التي هي “حامل” جماليات الشعر). (بتصرف).

النصوص بالغة القصر..

ثم حدث أن وجدت نفسي غارقاً في كم من (النصوص الشعرية بالغة القصر) وباذخة الجمال لعدد من الشاعرات والشعراء الشباب أذكر منهم أسامة سليمان وعزاز حسان وسارة عبد الله الأمين وخالد أبشقة وآخرين. ومنذ زمن ظلت فكرة كتابة دراسة عن (خصائص النصوص الشعرية بالغة القصر) تراودني وتشغلني عنها أولويات أخرى. غير أنني حظيت مؤخراً بفرصة نادرة لترجمة جزء كبير من نصوص مجموعة (فرق توقيت) للشاعرة،الصديقة منذ عقود، عزاز حسان وكل ديوان (قهوة الحرب) للشاعر، الذي أصبح صديقاً، أسامة سليمان وبعض ديوان (الموت في عنق زجاجة)  للشاعرة سارة عبد الله الأمين كما كنت قد حظيت بشرف إعداد رؤية نقدية لديوان (هذيان منتصف العمر) لزميل مهنة التدريس الصديق خالد أبو شقة عند تدشينه قبل 3 سنوات.

وترجمة النصوص الإبداعية توفر للمترجم، بل تفرض عليه، التأمل المتفحص للنص الذي يترجمه ليفهمه ويتمثل أجواءه وخصائصه حتى يتسنى له (أن يحلق به في فضاء لغوي آخر). ثم أتاح لي التواصل الإسفيري والمباشر مع عزاز حسان وسارة عبد الله الأمين وأسامة سليمان فرصة قد لا تتاح للكثير من المترجمين للتحاور مع مبدع النص في اللغة الأصلية ومعرفة حقيقة (ما وراء رؤاه) و(مقاصده) وهو أمر يرفض المبدعين الحديث حوله رفضاً شبه مطلق بينما هو مهم جداً للمترجم.

أحب أن اتناول (خصائص مشتركة للنصوص الشعرية بالغة القصر). مبتدئاً بالفكرة كبؤرة للنص الشعري بالغ القصر وخاصيتي (التكثيف) والسردية العالية مستعينا بنصوص للشاعرتين والشاعرين الذين ذكرتهم، وربما لشعراء آخرين إن توفرت لي النصوص.

الفرضية الأساسية في هذا المبحث هي أن (النص الشعري الحديث متناهي القصر) هو نص (قصير- ذو فكرة واحدة عميقة- مكثف- يتوسل لفكرته بفنون وتقنيات مختلفة- منها السرد- والأسطرة- والمجاز المستجد- والأخيلة المستحدثة- والإحالات- والسكوت عن بعض المراد- والانفتاح على التأويلات المتعددة- والترميز غير المسبوق لعناصر عادية- والمفردة المنتقاة- والهندسة المتفردة للنص)

التكثيف..

هو من ضرورات هذا النمط المستحدث. فلكي يستوفي النص فكرته في عدد محدود من الكلمات (من عشرة لبضع وأربعين كلمة) يتحتم على مجترح مثل هذا النص أن (يكثف) طرحه مستعينا بعدد من التقنيات التي سنتناولها تباعاً. يقول الشاعر الليبي الشاب محي الدين محجوب:

تدرك الإبرة حجم معاناتي

دائما أمرر خيبتي

من ثقبها..

ففي تسع كلمات لا غير (تسكن) كمية من (المفاهيم) التي تتضافر في تأكيد فكرة النص المركزية (المعاناة /الخيبة). في هذه العبارة (الضيقة) تسكن معاني بالغة الاتساع. فقد استطاع محي الدين محجوب أن يحشد في نصه بالغ القصر عدداً من الرؤى والمفاهيم التي تضئ فكرته الأساسية. فهو (يؤنسن) الإبرة فيجعلها (تدرك) وهو يعبر عن (خيبته) الواسعة مقارنة بثقب الإبرة الضيق وهو يحيلنا بذكاء للنص (اليسوعي /المحمدي) (حتى يلج الجمل سم الخياط). هذا (التكثيف) سمة أساسية في كل نصوص من ذكرتهم ومن لم أذكرهم من رواد كتابة (النص الشعري الحديث متناهي القصر).

السردية العالية..

وتلك واحدة من التقنيات التي يستخدمها رواد هذا (النص الشعري الحديث متناهي القصر) بمهارة عالية تكسب نصوصهم مقدرة عالية على شد انتباه المتلقي وإشباع الظمأ الغريزي (للحدث المحكي. فمبدع (النص الشعري الحديث متناهي القصر) يحشد نصه القصير بكم هائل من (الأحداث) و(الوصوف) مقارنة بالعدد المحدود من الكلمات. أنظر لأسامة تاج السر وهو يقول:

يهمسُ العشبُ لي بطرفٍ مُبينٍ

فأرى الصوتَ راعشًا في بناني

كلُّ شيءٍ هنا لروحيَ ظِلٌّ

كم أنا بي من الشخوصِ تُراني؟

أسكبُ الكون في قرارة كُوبي

أنا صاحٍ، فكيف بي سكرتان

ففي (الحكي) كواحد من أدوات السرد نجد الجمل الفعلية (يهمس الورد – أرى الصوت – اسكب الكون) وفي الوصف نجد الجمل الإسمية المعبرة عن (إبانة الطرف ورعشة الصوت وظل الروح وتعدد الشخوص وقرارة الكوب والصحو والسكرتان). الواقع أن (النص الشعري الحديث بالغ القصر) يصلح للاستشهاد به في كل (الخصائص) تقريباً. لذلك وجدت صعوبة بالغة في تخير النصوص التي قد لا تكون أفضل ما كتب مبدعيها لكنها بدت لي كالأفضل في إبراز الخاصية المحدد.

الصور المتفردة والمجاز المستحدث..

تتميز نصوص (الكوكبة) التي اخترتها – بحكم توفر النصوص – كعينة لهذا (التيار) بابتكار صور ومجازات متفردة في (غرابتها) وتجسيدها لفكرة النص المركزية. وهي في غالبها تحالف الصور والمجازات المعهودة والتي استهلكها التكرار. تقول عزاز حسان (أبرز كتاب هذا التيار):

الموجةُ التي يَكْسِرُها ثقَلُ السُّفنُ العَابِرة،

يَجْبرُ خاطِرهَا التيَّار…

فبمجاز مضمر يمكن أن يرى القاري في الموجه ذاته أو النفس البشرية عموماً. ويمكن أن يرى في (السفن العابرة) الفعل السلبي (للآخر) أو (أثر) ذلك الفعل السلبي. بينما يمكنه أن يجد في (التيار) الفعل الإيجابي (للآخر) أو (أثر) ذلك الفعل الايجابي. وربما يرى فيهما تقلبات الحياة الإيجابية والسلبية. المهم أن الصور المتفردة والمجازات المستحدثة (صريحها ومضمرها) تفتح (النص الشعري الحديث بالغ القصر) على عدد لا متناه من التأويلات.

أختم هذا الجزء من مبحثي بدعوة للتأمل في قول عزاز حسان:

الغُيُومُ

إبْــرُ السَّماء

ترْفُو ثَوبَ النَّهـر

بخُيُوطِ المَـطــر….

وقول صاحب المترار (بدوي إبراهيم)

بين الخمارةِ والقرية

يتعرجُ

الدربُ القديم!

ومشاركتي ما أوحت به إليهم .

الأخيلة المستجدة، مفارقة المألوف، والمقدرة على الإدهاش..

ظل الشعر العربي لدهور يعاني من أزمة (التكرار) والاجترار مما حدا بالشاعر للقول:

ما أرانا تقول إلا معاداً (معاراً) من قولنا مكروراً

غير أن رواد قصيدة النثر الحديثة بالغة القصر يقدمون حلولاً إبداعية لهذا الإشكال الذي قعد بالشعر العربي طويلاً من خلال استدعاء صور وأخيلة مبتكرة وغير مسبوقة مستلهمين روح العصر وقضاياه. يقول أسامة تاج السر:

الفتاةُ كلافتةٍ

في الطريق المريعْ

وعلى وجهها:

(مرحبًا) بالجميعْ

والذي يقرأ اللافتات من الخلفِ،

تفجأه بوداعٍ سريعْ..

فهو في استيحاء لروح العصر يشبه الفتاة بـ (لافتة) على طريق (مريع). ثم يرسم (صورة) لوجهها وعليه رسالة (ترحيب بالجميع). ثم يتبع ذلك بلوحة تصويرية تنبض بمخيال مستوحى من (الواقع) للافتة التي (تفجأ) من يقرأها (من الخلف) بـ (وداع) سريع في سرعة إيقاع العصر.

وفي نص ينفتح على فضاء لا محدود من التأويلات.

تقول عزاز حسان:

الغُيُومُ

إبْــرُ السَّماء

ترْفُو ثَوبَ النَّهـر

بخُيُوطِ المَـطــر…

فللغيوم إبر، وللنهر (ثوب) وللمطر (خيوط) (ترفو) ذلك الثوب. وللمتلقي بعد أن يستمتع بجمال (الحامل) اللغوي أن يؤول (المحمول) على هوى خياله. فليست الغيوم هي (الغيوم) ولا النهر هو (النهر) ولا المطر هو (المطر).

المفردة المنتقاة من السياق الكلي..

يتميز مبدعي هذه النصوص بالغة القصر بمقدرة عالية على تأسيس (معجم) خاص بكل منهم بل بكل (مجموعة شعرية). وتبدوا هذه الخاصية كأبرز ما تكون في ديوان (قهوة الحرب) لأسامة علي أحمد سليمان وديوان (هذيان منتصف الليل) لخالد أبو شقة.

يقول أسامة سليمان في نص (دائرة) في مجموعته الشعرية (قهوة الحرب):

دائرة

تدور الحرب

الحرب دائرة

دائرة مغلقة على قبحها…

ويقول في نص آخر بعنوان ارتباك:

تقاسمك المصعد

بينكما سحابة من الهواء الساخن

يرتبك الدم

فتهربان بأعينكما

إلى أرض المصعد الباردة

يسقط طائر تحت قدميكما

أنهكته برودة ضيق المكان

وحرارة الحرب المستعرة

في الخارج…

وهكذا تعج باقي قصائد ديوان (قهوة الحرب) بكلمات من قاموس الحرب تمنح القارئ الإحساس (بمشهد) الحرب و (أجوائها).

أما خالد أبو شقة فهو يحشد في ديوانه الأول (هذيان منتصف العمر) – بل والعديد من نصوصه الأخرى- كرنفالاً من مفردات تحمل مدلولات (الهذيان) و(الحلم) و(الكابوس) و(الهواجس) و(الشك) و(التوجس) و(التعب) (والخذلان) سواءً على مستوى عناوين النصوص وفي داخلها.

لا شيء يستحق كل هذا اﻷلم..

لا شيء يوازى كل هذا الرهق..

لا شيء يرتق التالف من ثوب العمر..

لا شيء

يوارى سوءة الحلم..

لا شيء يعيد تثمير بستان الروح

بعد جفافها..

لا شيء.. لا شيء…!

هندسة النص..

بجانب انتقاء المفردة تلعب (هندسة النص) دوراً أساسيا في تشكيل ملامح (النص الشعري الحديث بالغ القصر). حيث يضفي (نظام تجاور المفردات) وشكل الجملة طابعاً شعرياً إضافياً على النص. بحيث إنك لو غيرت (تموضع) المفردات أو طبيعة الجملة (أسمية أو فعلية) يتحول النص من (شعر) (لمقولة) عادية. وتبدوا خاصية الهندسة الإبداعية للنص أوضح ما تكون في نصوص عزاز حسان. ولا غرابة في ذلك. فمن بين كتاب النصوص الشعرية الحديثة بالغة القصر أرى أن زرقاء الكتابة أكثرهم اتساقاً مع خصائصه. بل يمكنني القول بدون تردد أن نصوصها قد اجترحت وأرست العديد من تلك القواعد. بينما يستند أسامة سليمان في نصوصه الشعرية بالغة القصر على رصيد خبرته المتميزة في كتابة قصيدة التفعيلة ناقلاً العديد من تقاليدها لهذا الحقل الجديد.

تقول عزاز حسان في واحد من نصوصها المنشورة مؤخراً:

كَعُصفورٍ

كُلّما اهْتَزَّتْ أعْوادُ سِرِيرهِ

بِشَكِّ الرِّياحِ أو يَقِينِ المطر

أتَفَقَّدُ الحَنَانَ الذي بينَ الغُصُون…

ويقول أسامة سليمان في نص بعنوان حفل ختامي:

(القاعة ملأي بأبطال المشهد القديم

رجال في كامل اناقتهم

نساء جميلات

سياسيون

بائعو أسلحة

متطفلون

هذا الشاعر

وربما أنتم

الأرض وحدها لم تكن هناك

كانت مشغولة

بترتيب جوفها

لأبنائها العائدين إليه..

أفلا تنقلنا هذه النصوص مباشرة لموضوع (الرؤى المتجددة) التي تشكل بجانب التساؤل والشك والإحالات الكاشفة وتجديد الرمز وابتكاره وأسطره الواقع أو خلق أسطورة (جديدة)؟..

***

(الرؤى المتجددة)..

قلت في ما سبق من هذا المقال (الاستكشافي) إن (القصر البالغ) هو استجابة لروح لعصر وإيقاعه. وبمثل ما تجلت هذه الاستجابة لروح العصر في (الشكل) فقد تبدت بوضوح في المحتوى. فقد تناول رواد هذا التيار أسئلة الوجود الكبرى – وبعضها أزلي دائم – لكنهم طرحوا أيضاً في نصوصهم رؤى واسئلة جديدة. وحتى الأسئلة القديمة جاء تناولهم لها من زوايا مخالفة لما تكرر في القصيد العربي (مقفاه وشعر تفعيلة وقصيدة نثر).

هذه دعوة للنظر في نصوص خالد أبو شقة وأسامة تاج السر وعزاز حسان وسارة عبد الله الأمين وصاحب المترار (بدوي إبراهيم) وفتحي مهذبي ومحجوب محي الدين وغيرهم من رواد هذا (التيار) لننتقل عبر هذه النصوص مباشرة لموضوع الإحالات الكاشفة تشكل بجانب التساؤل والشك واحداً من مصادر غنى هذه النصوص.

الإحالات الكاشفة..

تعتبر (الإحالة) من أهم أدوات (تكثيف) النص الشعري الحديث بالغ القصر، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. وقد تكون هذه الإحالة صريحة أو مضمرة، زمانية أو مكانية لكنها في كل الأحوال (تشحن) النص بأفكار ورؤى (مضافة) كانت النصوص الشعرية سابقا تتوسل إليها (بالتطويل). تتناثر (الإحالات) في خطاطات مبدعي النصوص بالغة القصر لكنها تتجلى في أوضح صورها عند زرقاء الكتابة. تقول عزاز حسان:

يحاولُ الغيابُ

هَدْمَ ذاكِرتِي،

لكن- طيورُ شَوْقي

دومًا حاضِرةْ،

بحِجارةٍ من “حنين”

للحُبِّ قلبٌ يحْمِــيه…

الإحالة هنا لحادثة (الفيل) التي وردت في القرآن أعفت الشاعرة من قول الكثير واستثمرت كل (المخزون) الذهني و(العقدي) للقارئ في (دعم) ما تريد أن تقوله. وقد أسهب الصديق الناقد نادر السماني في الحديث عن الإحالة في هذا النص مما أوردته في مقالي عن نصوص عزاز حسان متناهية القصر.

وفي نص آخر تحيل عزاز قارئها لذاكرة الأمثال العربية حين تقول:

إلى شَجَرة..

مَـا حَــكَّ “جَزَعَكِ” مثل

طَيركْ…

مستدعية بذلك المقولة التي سارت مثلاً (ما حك جلدك مثل ظفرك) مضيفة كل ما فيها من معان ومدلولات ومقدرة على شحن الطاقات لنصها بالغ القصر (7 كلمات).

تقول عزاز حسان في نص آخر بعنوان رؤية:

أعْمَى يُوَزعُ ضَمِيرَهُ على المَصَابِيحِ المُطْفَأة

ويَقْرَ صَمْتَهُ في بَصِيرَتِها..

في هذه الإحالة (قفزة جمالية) إبداعية برمزية (مصباح ديوجين) تخرج (بالأعمى) من (سجن) (السلبية) إلى آفاق (الإيجابية) وتغادر بالمصباح (محطات) (الإضاءة) و(الرؤيا) لسماوات (التنوير)و(الرؤى). الإحالة إلى مصباح ديوجين في نص زرقاء الكتابة هذا ليست إحالة (سكونية) نقلية جامدة وإنما هي إحالة (خلاقة) (حركية) (مجددة) تبعث في (المحال إليه) روحاً بل أرواحاً جديدة. وتكسبه أبعاداً متجددة.  وفيها (تسكت) عزاز حسان متعمدة عن (بعض) (المراد) حتى تتيح (كمنتِج / مبدع) – – فرصة (للمستهلِك/ المتلقي) ليذهب بالنص حيث يشاء. وهذه من خصائص النص الإبداعي الحديث الذي ينفتح – عبر مفردته وهندسته النصية على تأويلات قد تكون أحياناً بعدد (متلقيه).

تجديد الرمز وابتكاره وأسطره الواقع – خلق أسطورة (محلية)..

تتجاوز كثير من النصوص الشعرية الحديثة متناهية القصر (شفرات) الرموز القديمة المعهودة في الشعر العربي فتبتكر رموزاً جديدة أو (ترمز) معطيات من الحياة اليومية فتمنحها عبر (الهندسة النصية) مدلولات تتجاوز مدلولاتها المباشرة وتحملها (بشحنة) من الدلالات الرمزية المكثفة.

فمفردات مثل (الشجرة والعصفور والنافذة والسحابة والغيم والبحر والنهر والليل والغابة والدم والمطر والحبر والفراشة والمسمار والنهر) تكتسب (بتموضعها في الجملة الشعرية الحديثة) أبعاداً تتجاوز مدلولاتها المعهودة. يقول أسامة سليمان في مديح الدينكاويات:

صبيحة القصف

تستعيد الغابة رونقها

تدندن النساء ألحانا حزينة

يحدق الرجال

في أفق ملوث بالرصاص

يتذكر النهر أن رحلته طويلة

يرقص الموتى مع أجدادهم في الأعالي..

ويقول محجوب محي الدين:

(كتب في كراسه “شجرة”

واستظل تحتها.

وحين أحسا “بالعطش”

كتب “ماء”.

لم يمض وقت طويل

حتى أحبته “الشجرة”).

وتقول زرقاء الكتابة:

(أمامَ “البابِ” الخَطأ

مَجْرُوحٌ صَوت “المِفْتاح”..

ومَكسورٌ دائمًا خَاطِر “القِفْل”…)

هي إذاً (نصوص قصيرة، مكثفة، في كل منها فكرة واحدة عميقة، تتوسل لفكرتها بفنون وتقنيات مختلفة – منها السرد والأسطرة والمجاز المستجد والأخيلة المستحدثة والإحالات والإضمار بالسكوت عن بعض المراد – والترميز غير المسبوق لعناصر عادية والمفردة المنتقاة – والهندسة المتفردة في النص. وهي بكل ذاك تنفتح على تأويلات متعددة، ربما بعدد قارئيها).

هو (جنس أدبي) يتخلق ويشترط أدوات نقد (مستحدثة) توافق مستجدات ميلاده. وها أنا أرمي في البركة بحجر صغير آملاً أن تتبعه أحجار أكبر من نقاد آخرين حتى تهتز مياه الإبداع لتبحر فيها سفن الألق والقلق الخلاق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة