خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الرّيف) :
في يوم الإثنين 22 آيار/مايو 1995م؛ فُجعنا باغتيال المفكّر والفيلسوف الجزائري؛ “بختي بن عودة”؛ (1961م ـ 1995م)، على يد الإرهاب الظّلامي الذي حارب كلّ فكر تنويريّ حداثيّ جديد، كان “بختي” صحافيًّا يكتب المقالات باقتدار شديد وبمهارة جيّدة يُعالج فيها أهمّ الموضوعات التي تعجّ بها السّاحة السّياسية والأدبية، كان صحافيًّا جريئًا إلى أقصى حدّ يقول كلمة الحقّ ولا يتملّق ولا يُداهن أحدًا، جعل من الصّحافة الحرّة رسالته في هذه الحياة بذل النّفس والنّفيس في سبيل ذلك، في الثّمانينيات كان يشرف على “النّادي الأدبيّ” رفقة الرّاحل؛ “عمّار بلحسن”، والرّاحل “بلقاسم بن عبدالله”، وكان هذا “النّادي الأدبيّ” فضاءً للنّقاش الحرّ، وفي هذه الأثناء تم اكتشاف سرقات “رشيد بوجدرة”؛ لمقالات “محمّد بنيس”، وتمّ معالجة هذه القضيّة تحت ملف: “بوجدرة غايت” و”وثائق السّطو والإدانة”؛ وهذه القضيّة أثارت الرّأي العامّ وأسالت الكثير من الحبر ولم تُحسم القضيّة إلاّ بعد تدخل “محمّد بنيس” شخصيًّا وأثبت السّرقة الأدبية بالوثائق والأدلّة، في هذا “النّادي الأدبي” لمعت شخصيات أدبية وفكرية وساهمت بقلمها في هذا الصّرح الثّقافي ومن بين هذه الأسماء اللاّمعة؛ نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “بلقاسم بن عبدالله، بختي بن عودة، عبدالله الهامل، حكيم ميلود، عمّار بلحسن، عامر مخلوف، عمّار يزلي، محمّد عالم، أمين الزّاوي، ربيعة جلطي، عبدالقادر فيدوح، عبدالله بن حلّي، بن مزيان بن شرقي، عزالدّين المخزومي، عبدالحميد شكّيل، محمّد عبّاسة، واسيني الأعرج، زينب الأعوج، خديجة زعتر، محمّد مفلاح، علي ملاّحي، الأخضر بن عبدالله، ناصر سطنبول، أحمد يوسف وغيرهم، كان هذا “النّادي الأدبي” تُنشر فيه مقالات فكرية هامّة تُعالج قضايا الفكر الرّاهنة كالموقف من التّراث والموقف من الحداثة والتّوفيق بين الأصالة والمعاصرة والإنفتاح على النّظريات الفكرية الجديدة: كالتّأويلية والتّفكيكيّة والسّيميائيات والأسلوبيّة والتّداوليّة واللّسانيات ونظريات التّلقيّ، حاولوا تبسيط هذه النّظريات الغربيّة وتقديمها إلى القاريء الجزائريّ على وجه الخصوص في حلّة قشيبة لعلّه يستطيع من خلالها أن يقرأ تراثه العربيّ الإسلاميّ قراءة حداثيّة تنويريّة تتفق مع متطلبات العصر.
كان “بختي” يكتب في مجلة (الكرمل)؛ التي تُصدر في “بيروت” مقالات حول الحداثة والتفكيك وله مقالات من هذا النّوع مبثوثة في مجلاّت أخرى كمجلّة (التّبيين)؛ التّابعة لـ”جمعيّة الجاحظيّة”، التّي كان يرأسها الرّوائي المرحوم؛ “الطّاهر وطّار”، وكان “بختي” هو رئيس التّحرير لهذه المجلّة المرموقة؛ والتّي كان يرأس تحريرها من قبل المرحوم الرّوائي؛ “يوسف سبتي”، جمعت هذه المقالات من طرف أعضاء “جمعيّة الإختلاف الثّقافيّة”؛ التّي يرأسها الرّوائي؛ “بشير مفتي”، في كتاب عنوانه: (رنين الحداثة) الصّادر عن منشورات الإختلاف، نُلاحظ أن تسمية هذه الجمعيّة الثّقافيّة مستوحاة من فكر “بختي” ذي النّزعة الدّريديّة، لقد حاول “بختي” أن يكون مختلفًا في فكره وفي رؤيته النّقديّة للمتون الشّعريّة والرّوائيّة والقصصيّة،حاول في رؤيته النّقديّة أن يُفكّك النّصّ الأدبيّ شكلاً ومضمونًا من خلال الحفر في أعماق النصّ والغوص في ثناياه العديدة وهذا من أجل الوصول إلى المعنى الذي لا نصل إليه أبدًا إذا ما استعملنا التّفكيك كإجراء وكمساءلة للنّصّ الأدبيّ، ويمكن اعتبار “بختي” أوّل ناقد استطاع أن يُقدّم نظريّة التفكيك لـ”جاك دريدا” ( )؛ (Jacques Derrida1930م ـ 2004م)، إلى القاريء الجزائريّ أوّلاً وإلى القاريء العربيّ ثانيًّا بكلّ سهولة ويُسر، كان يُهاتف يوميًّا “دريدا” لكي يناقشه حول إشكالات فكريّة صادفته في هذه النّظريّة الجديدة؛ التّي جاءت لكي تُفكّك الحداثة وتُعيدها إلى أصولها الأولى وما بعد الحداثة هي الحداثة الجديدة التّي سوف تأتي بعد التّفكيك وتداعياته الأخيرة، وذكرت الرّوائيّة والشّاعرة الدكتورة؛ “ربيعة جلطي”، في إحدى شهاداتها حول “بختي” بأنّ “دريدا” كان يصحب معه رسائل “بختي” إليه وترافقه في أيّ مكان يذهب إليه، كان يضعها في محفظته الخاصّة المصنوعة من الجلد السّميك، كأنّه يُريد أن تظلّ روح “بختي” تُحلّق فوق رأسه وتُحاوره وتُلهمه، كان “دريدا” بينه وبين نفسه يعتقد بأن “بختي” هو مريده الخاصّ الذي سيسير على هدي شيخه وتلميذه الوفيّ والذّكيّ الذي استطاع أن يستوعب دروس أستاذه استيعابًا جيّدًا، لقد ربط “بختي” اتصالاً روحيًّا مع “دريدا” صاحب النّظريّة التّفكيكيّة وحاوره روحًا وجسدًا.
كان “بختي” مكلّفًا بالنّشاطات الثّقافيّة التّي كانت تُقام في “قصر الثّقافة”؛ بـ”وهران”، تحت إدارة الدكتور الرّوائي؛ “أمين الزّاوي”، الذي قرّب “بختي” منه وشجّعه على مغامرة البحث في الفكر الحرّ وفي النّظريّات الجديدة، وكان يُرافقه في حصّته التّلفزيونيّة الشّهيرة: (أقواس في عالم الكتب)، التّي كانت تُنتجها محطّة (وهران) الجهوية، وشهدنا ظهور “بختي” كصحافي تلفزيوني في حصّة (لقاء الصّحافة)؛ من تقديم “مراد شبّين”، في بداية التّسعينيات يُحاور أهمّ السّاسة في ذلك الوقت، كان في “عنابة” عندما تلقّى نبأ مقتل صديقه؛ “يوسف سبتي”، رئيس تحرير مجلّة (التّبيين) وبكاه بكاءً مرًّا ورثاه وأبّنه تأبينًا مؤثّرًا، وكان آخر من التقى بالمرحوم؛ “عبدالقادر علّولة”، بقصر الثّقافة قبل اغتياله في تلك اللّيلة الرّمضانيّة المشؤومة، كان “علّولة” سيُلقي محاضرة حول مسرح “عبدالكريم برشيد” الإحتفالي الذي نقل المسرح من حلقة المدّاح إلى الحضرة الصّوفيّة، ولكن للأسف الشّديد تمّ اغتياله قبل إلقاء هذه المحاضرة الهامّة؛ في سنة 1994م، تمّ إقامة أوّل ملتقى مغاربي حول فكر “جاك دريدا” بقصر الثّقافة بـ”وهران” وشنّت الأقلام المعرّبة الإسلامويّة حملة شرسة ضدّه بدعوى أنّه يدعو إلى عودة الأقدام السّوداء إلى “الجزائر” بحكم أنّ “جاك دريدا” هو من مواليد “الجزائر” في حقبة الإستعمار الفرنسيّ، وتمّ اتهام “بختي” بالعمالة والخيانة والإلحاد، وهذه الإتهامات والمكذوبة هي التّي عجّلت باغتياله، للأسف الشّديد كلّ من يدعو إلى الحداثة والتّنوير والعصرنة يُتهم بالعمالة والخيانة والإلحاد وهذا حتّى يُبرّروا قتله بأيّ طريقة كانت إمّا بالقتل الماديّ وإمّا بالقتل المعنويّ، وهذا ما حدث لـ”بختي”، “بختي” كان مشروع فيلسوف أجهض قبل أوانه وتمّ تغييب فكره في جميع المقرّرات الدّراسيّة، حتّى الملتقيات الفكريّة التّي كانت تُقام من أجله ألغيت بفعل فاعل وهكذا تمّ اغتياله مرّتين، حتّى قسم التّرجمة بجامعة “السّانيا وهران” الذي كان “بختي” أحد مؤسّسيه وأحد أساتذه الفاعلين تنكّر له وألغى ملتقى: “التّرجمة والإختلاف”؛ الذي أسّسه “بختي” وبلور ركائزه وصار اللّسان النّاطق لفكره الدّريديّ، وفي يوم 15 آيار/مايو سنة 1995م، نظّم قسم التّرجمة بجامعة “السّانيا وهران” ملتقى وطنيًّا عنوانه: “التّرجمة والإختلاف”؛ تحت إشراف “بختي بن عودة”، الذي قدّم مداخلة عنوانها: “القراءة بين التّراث والحداثة”، ولقي هذا الملتقى نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا ومنقطع النّظير وتمّ اغتيال “بختي” بعد أسبوع من إنعقاد هذا الملتقى؛ في يوم الإثنين 22 آيار/مايو سنة 1995م، اغتيل وهو يُمارس لعبة كرة القدم بعد أن مارس لعبة الفكر على يد شخص ظلاميّ لم يقرأ له يومًا مقالاً واحدًا، في يوم جنازته لبست “وهران” رداء الحزن والحداد وبكاه “قصر الثّقافة” بـ”وهران” وبكاه قسم التّرجمة بجامعة “السّانيا وهران”؛ ووري جثمانه الطّاهر بمقبرة “عين البيضاء”؛ بـ”وهران”، وبالتّالي طويت صفحة حياة أهمّ مفكّر عرفته “الجزائر” في هذا القرن قرن الحداثة والتّنوير، أعدّ “بختي” رسالة ماجستير حول فكر “عبدالكبير الخطيبي”، عنوانها: (ظاهرة الكتابة في النّقد الجديد: عبدالكبير الخطيبي نموذجًا)، تحت إشراف الأستاذ الدكتور “فيدوح عبدالقادر”، ونوقشت الرّسالة في معهد اللّغة العربيّة وآدابها بجامعة “السّانيا وهران”؛ سنة 1994م، وتمّ طبع هذه الرّسالة تحت إشراف الدكتور “عبدالقادر فيدوح”، الذي كتب مقدّمة هامّة حول هذه الرّسالة، وحاول “بختي” إعداد رسالة للدكتوراه عنوانها: (الإختلاف بين ميشال فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا)، ولكنّ القدر لم يُمهله ورحل دون أن يُعدّها أو يُكملها للأسف الشّديد، عندما كان “بختي” في الخدمة الوطنيّة بمدينة “حاسي مسعود” (ورقلة)؛ سنة 1985م، تبادل رسائل أدبيّة مع الشّاعر “عبدالحميد شكّيل”، الذي نشر بعض رسائل “بختي” إليه على صفحته الخاصّة على الفايسبوك وهو مشكور على ذلك وحبّذا لو أنّهم أقاموا متحفًا خاصًّا بـ”بختي بن عودة”؛ في “وهران”، فيه مقتنياته ورسائله وبحوثه ومؤلّفاته يكون شبيهًا بـ”متحف جبران خليل جبران”؛ الذي أقيم في “دير مار سركيس” في بلدة “بشري”؛ في “لبنان”، هل سيتحقّق هذا الحلم ؟.. ربّما في قادم الأيّام.
وفي الأخير؛ ما عسانا إلاّ أن نترحم على هذا الفيلسوف الألمعيّ والمفكّر الحصيف والأديب الأريب الذي فتح أعيننا على أنوار الحداثة وجعلها تغشى عقولنا وتُساهم في تنوير فكرنا، لقد رحل “بختي” جسدًا ولكنّ روحه مازالت ترفرف حولنا وتحثّنا على الرّكون إلى جدار الحداثة، روحه تنادينا من بعيد وتطلب منّا أن نعتكف في محاريب الحداثة ونستعمل التّفكيك كإجراء ونحن نقرأ تراثنا العربيّ الإسلاميّ قراءة حداثيّة تنويريّة تُساهم في بثّ روح العصر في تفكيرنا، فهل يجود علينا الزّمان بمفكّر وفيلسوف مثل “بختي بن عودة” ؟.. ربّما… في قادم الأيّام.