كتبت: لطيفة محمد حسيب القاضي
رأيتها وهي تصعد درج روحي حينما لم تكن الأشجار قد أخذت كفايتها من العصافير الجميلة؛ لم تكن الأزهار قد نفضت عنها الحرمان، غير أن الضحكة التي تركتها جعلتني أشتري الورد الجوري الأحمر. هذا ما كتبه فارس قبل الخروج من البيت إلى حديقة قابعة بجانب بيته الصغير المتواضع.
جلس فارس على مقعد الحديقة في ظهيرة يوم خريفي بارد من أيام أيلول، يتأمل المارة، ليقتل الوحدة العابرة بين ضفاف حياته. رغم اكتظاظ أشعة الشمس على وجهه، حزن شديد ينتابه وهو يبلغ من العمر الثمانين، صاحب الشعر الأبيض الثلجي، ونظارته المقعرة على عينيه. استغرق في النوم على الجفون المتهدلة الغافية التي تحمله لسلسلة متصلة الحلقات من ركام الذكريات. على رأسه قبعة بيضاء كأنها غيمة بيضاء فوق رأسه. اجتاحته المشاعر والأفكار لتروي عطش جسده وروحه من شهوة العطش لجسد امرأة كي يرويها كما يروي المطر الصحراء.
عاش فارس حياته على الصمت، وكان على قناعة تامة بأن الصمت أبلغ من الكلمات، فعاش حياته يحتضن السماء والأرض والغيوم المحملة بالذكريات، صامتًا شاردًا، ولكنه يكتب كل ما يشعر به على ورق. كان يتأمل الأوراق الصفراء التي كانت تسقط من أغصان الأشجار دون أن تحاول أمهاتها التمسك بها، ثم تتهاوى على الأرض تحتها بمشهد أثار داخله الحزن والأسى.
تذكر فارس حينما كانت تلك الأوراق خضراء يانعة في فصل الربيع، وكيف كانت تزين الأغصان أمامه على أنغام قيثارة الحياة الزاهية. كانت فتية تضخ بالحياة وهي في صباها، ولكن الآن باتت مستسلمة لرياح الخريف الباردة، مزعنة أمامها دون مفر. بينما كان فارس ساهيًا في تساقطها على الأرض واحدة تلو الأخرى، وشاردًا في أقدام المارين التي كانت تدوسها دون أن تبالي بها، اقتربت منه فتاة صغيرة تبلغ من العمر الحادية عشرة. ملابسها رثة، كانت ترتدي فستانًا بسيطًا من القماش الأبيض، ورقيقًا لا يتناسب مع البرد.
كان شعرها الكثيف الأسود يتدلى على كتفيها الصغيرتين، وحذاء أسود صغير لامع على قدميها الصغيرتين. نظر إليها بحزن وأسى، واستدعى انتباهه الهالات السوداء التي بدت ظاهرة تحت عينيها، وشحوب وجهها، فغمره الحزن أكثر. كانت تلك الفتاة تحمل بيدها سلة مملوءة بالورود الجوري الحمراء. نظرت له بعينين براقتين وابتسامة خجولة على وجنتيها.
فقالت له: “اشتري مني وردة وأهديها لزوجتك، بالتأكيد ستفرح بها كثيرا.” امتعض وكله حزن قائلاً: “زوجتي توفت منذ سنوات طويلة حتى كدت أن أنسى شكلها.” حاولت الفتاة أن تقنعه بأن يشتري وردة، فقالت له: “اشتري وردة لابنتك، أهديها لها ستكون سعيدة بها.” امتلأت عيناه بالدموع حتى ملأت وجهه، وأجهش بالبكاء. “ابنتي في القاهرة ولم أراها منذ خمس سنوات.” “ماذا بك يا عم؟ ابنتك ستعود عما قريب إليك، لا تحزن.”
تحاول بائعة الورد بأن تؤثر على الرجل لكي يشتري وردة منها. “طيب اشتري وردة لنفسك، لابد وأن عطرها سيغمرك بالفرحة والبهجة والسرور.” صمت قليلاً ثم تنهد قائلاً: “لا أريد الورد يا صغيرتي.” مشت الفتاة وكلها حزن، حيث أنها لم تستطع أن تبيع أي وردة. رجع الرجل لينادي الفتاة: “يا صغيرة، يا صغيرة تعالي.” عاودت الفتاة مرة أخرى. “ماذا تريد يا عم؟” “أريد وردة جوري، سأشتريها لزوجتي.” تعجبت الفتاة من الرجل وقالت: “أنت قلت منذ دقائق بأن زوجتك توفيت منذ فترة طويلة، حتى إنك نسيت ملامحها.” “نعم يا صغيرة، حقاً. أنها توفت منذ فترة طويلة بالفعل.
أعطيني وردة أخرى لابنتي.” صمتت الفتاة قليلاً في حيرة من أمرها وقالت في نفسها: “ماذا به هذا الرجل العجوز؟” “تفضل يا عم، هذه وردة أخرى لابنتك. ولكن أنت قلت أن ابنتك مسافرة إلى القاهرة ولم تراها منذ خمس سنوات، ومنذ قليل الدموع غمرتك.” “هي سافرت ولم أراها منذ فترة طويلة.” دفع الرجل للفتاة ثمن الوردتين. انصرفت الفتاة. وضع الرجل الوردتين بجواره، وعاود التأمل في الأشجار. هبت رياح باردة قوية وطارت الوردتان، وراحت الأوراق الصفراء تتساقط على الأرض، وغرق في نفسه مرة أخرى.