25 ديسمبر، 2024 5:30 ص

انتفاضات تائهة .. أم ثورات ملونة ؟ (2) .. ثورة مضادة بألف وجه !

انتفاضات تائهة .. أم ثورات ملونة ؟ (2) .. ثورة مضادة بألف وجه !

خاص : كتب – محمد البسفي :

ما بين المبدأ ونقيضه تعودت البورجوازية العربية – شأنها شأن كافة بورجوازيات دول العالم الثالث المتخلفة – التأرجح على مدار تاريخها؛ دون أن تترك لنفسها أي مساحة ولو ضيقة لدراسة وفحص وتدبُر ما كانت تعتنقه من مباديء وقيم وإيديولوجيات وسبب نقوصها أو تراجعها أو حتى إنهيارها؛ قبل أن تقفز إلى ذروة نقيضها بنفس الرشاقة والحماس وربما الإيمان.. فما إن كسرت الآلة العسكرية لجيوش عربية في حرب حزيران/يونيو 1967 أمام الآلة الصهيوأميركية حتى سارع أغلب أبناء البورجوازية العربية إلى إسقاط لافتات العروبة والقومية من على أعناقهم ليأتي الغزو الأميركي للعراق متعمدًا إهانة الهامة “العروبية”، في معتقلات “أبوغريب” وغيرها من معتقلات ومعسكرات الاحتلال (1)، حتى يقضي على البقية الباقية في صدور من ملؤها سابقًا تنطنة وصياحًا بشعاراتها ومبادئها التي تنزوي تمامًا كأنها لم توجد يومًا من الأساس لتمتليء نفس الصدور بلهاث إثبات عكسها وهدم كل دعواها، وما أصاب البورجوازية القومية لم يخطيء إصابته جانب كبير من البورجوازية الماركسية التي تناثرت مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانتصار الولايات المتحدة في حربها الباردة مستأثرة بعالم القطب الواحد، إلى أشلاء تفرقت دماءها بين عدة قبائل؛ منها من أرتدت سريعًا إلى مواقعها الطبقية الآثيرة متغزلة في رأسمالية السوق الحر، وقبيلة تُغلق على نفسها تلعق جراح متوهمة بمد النقاشات البيزانطية، وأخرى تجاورها نفس الحانات الموصدة مطالبة بحتمية العكوف على إعادة الحسابات وتنسيق التنظيرات.. وما فجرته النكاسات المتتابعة برؤوس البورجوازيات العربية على مستوى الإيديولوجيات أمتد إلى حدود ما كانت تجعجع به طويلًا بأنها قضاياها المصيرية؛ فما إن أعلن الرئيس المصري، “أنور السادات”، عن مبادرته ومضى في شوط “اتفاقيات كامب ديفيد” حتى آخره قبل أن تتبعه أغلب النظم العربية على مدار العقود التالية؛ حتى بدأت النخب الحضرية من تلك البورجوازيات البائسة تلون كلماتها بصبغات “السلام” و”الإخاء” على استحياء قبل أن تأتي “العولمة” بكلكلها وفرضها لنظام عالمي أميركي شامل؛ لتصيح بأعلى صوتها مرددة أناشيد التطبيع والحق في الحياة للإسرائيلي الضعيف؛ بل مناضلة في كشف غباء الاستبداد العربي على الصهيونية السامية !

.. ومازالت تتعلق فوق الرؤوس – وداخلها – المجهدة للبوزجوازية العربية الأسئلة الوجودية الكبيرة مقعرة متضخمة بحثًا عن تنظير ونظرية بشكل نظري يتعالى على جهد التطبيق أو حتى التفكير في إتعاب الساعدين..

الطائفية وجبة أميركية .. مازالت ساخنة !

يُفند العالم الاجتماعي المرموق، الدكتور “علي فرغلي”، قوة العمل في المجتمع المصري إبان ثوة الـ 25 من كانون ثان/يناير 2011، بأن: “الذين يعملون خارج المنشآت من قوة العمل المصري هم 10 مليون عامل، وغير الملتحقين بالقطاع الرسمي 20 مليون عامل، وسكان المناطق العشوائية 16 مليون نسمة، ولا تقل نسبة المشتغلين في المنشآت الصغيرة، أقل من خمسة عمال، عن 60% بينما لا تزيد نسبة المشتغلين في المنشآت الكبيرة عن 11% من إجمالي قوة العمل”. وأراد من رصد تلك الأرقام والإحصاءات: “ما تؤكده من أن الجزء الأكبر من الفائض الاجتماعي يتم إنتاجه في وحدات عمل صغيرة وعائلية وشخصية الطابع وأبوية إلى حد بعيد، يُمفصل بينها أسلوب الإنتاج الرأسمالي عبر تصريف المنتجات والتزويد بمستلزمات الإنتاج والحياة، ومن خلال هذه العلاقة يتم استخلاص فائض العمل دون أن يدخل العمل المنتج في علاقة إنتاجية مباشرة مع رأس المال”.

لافتًا إلى أنه: “بالنظر إلى الموقع المتدني للاقتصاد المصري في التزويد الذاتي لمستلزمات الإنتاج والحياة للمجتمع في ضوء الهيكل الاقتصادي السائد، وفي ضوء أنماط الاستهلاك السائدة فإن علينا توقع تزايد عظيم في حجم الجزء المستنفذ من الفائض الاجتماعي المصري، والذي يستمر ضخه بشكل مستمر من الداخل إلى الخارج عبر مختلف التبادلات التجارية مع المراكز الرأسمالية المتقدمة عبر حلقات ومستويات وأوساط تجارية عديدة”.

ويرى أن: “التبادلات التجارية في حد ذاتها ليست مشكلة، لكنها تصبح قنوات لاستنزاف الفائض، بل وسرقته السافرة إذا ما كانت تتم بين طرفين متفاوتين تفاوتًا بينًا في درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي وحجم التراكم الرأسمالي في بيئة المجتمع، وببساطة: فإذا كنت تتبادل مع طرف آخر سلعة أنتجتها أنت في أسبوع بسلعة أخرى أنتجها هو في يوم كنت مسروقًا أو مستنزفًا في ستة أيام من عمرك. ولنا بعد ذلك أن نتخيل ما يكون الوضع عليه في سنوات وأجيال. فلا نعجب من أتساع الفجوة الحضارية بيننا وبين الآخرين”. موضحًا أنه: “بالإمكان الآن تشخيص الأزمة التي يعايشها المجتمع المصري، والتي قادت إلى تمرد (المسروقين) في أحداث 25 يناير، ومازالت صراعاتها دائرة بينهم وبين من يحاولون استعادة الماضي أو بناء صور شبيهة به”… “فهي في مستوى أول أزمة وطن يعيش موقعًا تابعًا في نظام اقتصادي رأسمالي عالمي، يحاول المركز العالمي المتقدم مباشرة من خلال مراكزه المالية أو من خلال وكلائه المحليين في المنطقة العربية وفي إسرائيل، إبقاءه عند موقعة هذا بالحفاظ على العلاقة الرأسمالية السائدة ومنظومة تمفصلها مع الأنماط الإنتاجية الأخرى، مما يحافظ على استنزاف الفائض الاجتماعي الاقتصادي المصري إلى الخارج. وهذا هو جوهر التناقض الوطني” (2).

وإن كانت تلك النقطة التي حددها “د. فرغلي” واضعًا أصبعه عليها كجذر المسألة والإشكالية الجدلية للمجتمع المصري في ثورته المغدورة؛ فهي كذلك أصل زاوية الرؤية – في رأينا – لانتفاضات الشعوب العربية ودول العالم الثالث والشعوب المستلبة الفوارة حاليًا؛ في محاولة تحليل مشاهدها التي تشابكت وتداخلت تفاصيل إشكالياتها حتى أستعصت على التحليل والمشاهدة بفعل كثرة المؤثرات الخارجية التي تصنعها الثورة المضادة تشابكًا مع عوامل القصور الموضوعية والذاتية داخل الانتفاضات الشعبية ذاتها.. وفي سبيل رؤية رائقة للمشاهد المتداخلة محاولة فك تشابك صور ثورة “المسروقين” على “السارقين”، وجب قراءة صورة السارق بوضوح أكثر..

#                      #                         #

بذور شيطانية

في إحدى شهاداته أشار “علي القيسي”، أشهر المعتقلين العراقيين بسجن “أبوغريب”؛ إبان الغزو الأميركي للعراق 2003، إشارة عابرة ولكنها شديدة الدلالة؛ حينما ذكر أنه أراد يومًا إخراج، الشيخ “عارف الكعبي”، وهو رجل دين شيعي عراقي، من إنعزاله على نفسه داخل المعتقل ويدفعه للإندماج بباقي السجناء رفعًا للروح المعنوية له وللجميع، ورشحه ليكون إمامًا للصلاة بزملائه المعتقلين، وبالفعل أم الشيخ “الكعبي” أكثر من 250 معتقلًا في الصلاة؛ التي ما إن أنتهوا منها حتى فوجيء، “القيسي”، بقيام الأميركيين بسحب “الكعبي” ليخصوه بوجبة تعذيب إضافية شديدة القسوة؛ يسألونه أثناءها: “كيف تؤمهم في الصلاة وأنت شيعي وهم سُنة ؟”.. يتذكر “القيسي” (3)؛ تلك الواقعة مؤكدًا على أن “الفرز الطائفي” بدأ مبكرًا بالعراق من داخل معتقل “أبوغريب”، في الشهر العاشر من العام 2003، حينما لاحظ وزملاؤه أن أول سؤال كان يوجهه إليهم الأميركان هو: “أنت سُني أم شيعي ؟”.

وإن كانت تلك ملاحظة لشاهد عيانٍ على الوجه الحقيقي لديموقراطية “أميركا” داخل أقبية إحدى معتقلاتها الاستعمارية، الذي شهد العالم – وقتها – بأنه “من أسوأ السجون سمعة في تاريخ البشرية”، فالكثير من الأبحاث والإستقصائيات الموثقة على مدار السنوات الماضية قد أكدت على أن الولايات المتحدة قد تعمدت، منذ دفعها للاتحاد السوفياتي – في أتون نهايات حربهما الباردة – للتورط العسكري المباشر في كمين أفغانستان، وإنهيار السوفيات على إثر هذا الفخ السياسي/العسكري، تنفيذ مشروع تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أساس طائفي بحت واللعب مع باقي دول العالم بالكارت الطائفي الناجع، الذي أسعفها بشكل ساحر في حسم حربها الباردة ومكن لها الإنفراد بالزعامة العالمية.. وذلك خدمة لهدفين أساسيين لها – ضمن أهداف ومطالب أخرى – داخل الشرق الأوسط؛ وهما الإستيلاء المباشر على ثروات ومقدرات المنطقة بالكامل والتسيُد عليها بشكل تام؛ بالإضافة إلى إحتواء “إسرائيل” داخل محيطها العربي، وهي الدولة الصغيرة حجمًا التي ولدت وتأسست على ركائز فكرة صهيونية عنصرية عرقية صرفة لا تسمح بالتعددية أو تعترف بالإختلاط.. وكان مختصر المشروع الأميركي، الذي بدأ مبكرًا فور إنتهاء الحرب العالمية الثانية؛ ومازالت إستراتيجياته مطبقة حتى اليوم داخل دول العالم النامي، والدول المواجهة للولايات المتحدة عمومًا، هو تسخين النعرات الطائفية والإنفصالية الجهوية أو القبلية أمام أي أفكار اجتماعية تقدمية؛ وبالتالي تحفيز الهوس الديني داخل مجتمعات الدول العربية خاصة، ودول العالم الثالث عامة حسب الطلب والحاجة، على جميع الأصعدة وبالأخص على المستوى الاجتماعي/الثقافي، بما وافق هوى لدى جماعات الإسلام السياسي داخل المنطقة وعلى رأسها “جماعة الإخوان المسلمين”؛ بالإضافة إلى إصابة مرمى إستراتيجي لدى دول طائفية مثل “إيران”، التي منحت للمشروع الأميركي زخمًا ودفقة دماء – ربما من حيث ما كانت تحتسب أو تٌدبر – بعد قيام “الثورة الإسلامية” بطموحها الإمبريالي عبر مذهبها الشيعي الذي أصبح طرف نقيض وجيب ذخيرة في خارطة الإستراتيجية الطائفية الأميركية أمام المكون السُني المتمثل في “العربية السعودية”؛ و”إسرائيل” الصهيويهودية.

ومع زوال تهديدات الاتحاد السوفياتي وبدء عصر العولمة بوجهه النيوليبرالي، الذي جرف أمامه كافة الأفكار التقدمية اليسارية؛ تمحور المشروع الأميركي بالألوان المناسبة لخدمة الولايات المتحدة ومقوماتها الأساسية من أجهزة ومؤسسات وشركات.. بمحاربة إرهاب المتطرفين والمتعصبين الدينيين بيد إداراتها؛ ودعمهم لوجيسيتيًا وعسكريًا وترويج تجارتهم بيد شركاتها متعددة الجنسيات؛ مع الحرص على عدم القضاء عليهم كلية حسب قواعد اللعبة القاضية بحتمية وجودهم الدائم، وعلى الجانب الآخر يتم ترويج الأفكار والفلسفات التفكيكية والفوضوية التي تمتطي صهوة أحدث آليات الطفرة التكنولوجية والإعلام الاجتماعي من مواقع التواصل الإفتراضية وشبكات معلوماتية محدودة وموجهة المصادر؛ في عصفها للمجتمعات النامية ونشر مذاهب اللادينية والإلحاد من أجل الإلحاد كنزعة تمردية على الموروث لا أكثر ولا أقل بدعاوى رفض الدماء والإرهاب، أمام دعاوى وتنظيرات ما عُرف بنظرية “الإسلاموفوبيا”، التي أصبحت أشبه بنصلًا ذا حدين: الأول يُستعمل كبكائية مظلومية مازال يُحسن “الإسلام السياسي” استغلالها في تمرير مشروعه وأفكاره السياسية/الاجتماعية، والثاني كصرخة لـ”اليمين الأوروبي” المتطرف والعنصري في وجه معتنقي الديانة الإسلامية التي لا يريد أن يراها سوى عقيدة القتل وسفك الدماء.

وهكذا صورة أختلطت بها الألوان وطمست داخلها الحدود والملامح.. أصبحت الأصوات التي ترفض الأديان السماوية، باعتبارها أكبر كذبة “شربتها” البشرية على مدار تاريخها، أعلى صوتًا داعية العودة إلى أصول حضارات الأجداد العريقة، محاولة إحياء الفرعوني والفينيقي والآشوري؛ كرد فعل حضاري في وجه همجيات البداوة والوهابية الجاثمة، وفي المقابل تعلو أصوات أخرى – لا تقل إزعاجًا – داعية للعودة إلى مجد خلافة مغدورة غابرة ودولة دينية بأوامر إلهية، وعلى الجانب الآخر تتغزل أصوات ثالثة في ليبرالية الأيام والعهود الملكية ذات الديموقراطيات والرفاهة المفتقدة.. لتداخل كل هذه الأصوات في سيفونية نشاز صاخبة لا تنشد سوى هدف واحد وهو “العودة” إلى ماضي تأباه حركة العلم وعكس إتجاه طبيعة التاريخ.. وفي القلب من كل هذا الصخب الأوليجاركي يتوه “المسروق” عما يفعله به “السارق”.

#                        #                          #

منذ نشأتها الأولى؛ حرص المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة الأميركية على إبتداع علاقة مميزة بين “الدين” و”المال”، دائمًا تحاول التوفيق بين جدلية الأرباح والإيمان الروحي ببرغماتية منقطعة النظير؛ أستحقت عليها زعامة اليمين الرجعي بجدارة، كما أسالت لعاب الكثيرين من المؤرخين والباحثين على مدار العقود والسنوات الماضية.. يكشف “جاك بيتي” محرر كتاب (العملاق-Colossus) – الذي يكشف جانب كبير عن تاريخية نشأة الولايات المتحدة (4) – عدة خطابات من مراسلات شركة “فيرغينيا” المساهمة المحدودة (5)، إحدى شركات المهاجرين الأول التي تُعتبر النواة الاجتماعية/الاقتصادية لتأسيس الولايات المتحدة الأميركية – كان إحدى تلك الرسائل بتاريخ سنة 1633؛ يظهر في تقارير الحكومة البريطانية خطاب يفرق بين أنواع من المهاجرين، بالتحديد هؤلاء الذين هاجروا إلى “فرغينيا” (الإقليم/الولاية الأميركية)، وهؤلاء – طبقًا للخطاب – مهاجرون هدفهم الربح بأية وسيلة. لكن هناك مهاجرين من نوع آخر ظهروا في “نيوإنغليد” (6)؛ وكلهم عائلات هاجرت هربًا من الإضطهاد الديني معظمهم من أتباع “كالفين”، وقد جاءوا من سويسرا وهولندا وأسكتلندا وغيرها، حيث انتشرت دعوة التطهر الديني والنقاء. وهؤلاء المتدينون أنشاوا شركات تجارية، ولكنها شركات “أخلاقية” يؤمن المساهمون فيها بـ”رضا الله”، ويعتبرون زيادة أرباح استثماراتهم شاهدهم على “رضا الله” عنهم. وقد أسس هؤلاء “الأخلاقيون” منطقًا – شبه عقيدة – ينطمون به أعمالهم، ويديرون شركاتهم في “نيوإنغليد”، وخلاصة منطقهم، طبقًا لخطبة شهيرة لراعي كنيستهم، “توماس شبرد”، أنه: “لابد من ضفاف للماء وإلا علا سيله وأغرق الجميع”. و”الضفاف”، كما يراها “شبرد”، هي أن يعمل البشر جادين على رفع مستوى أنفسهم بما يلقى “رضا الله” – ووسيلتهم إلى ذلك هي العمل بـ”إخلاص مسيحي” على زيادة الثروة، وتوسيع الملكية، وإعلاء بناء البيوت. و”رضا الله” عن المخلصين له يتمثل بالضبط في تحقيق هذه الأهداف، أي في “الطوفان” بكثرة “المال والأرض والعقار” – ولابد أن “يتذكر المؤمنون” أن “زيادة النجاح” مرهونة بـ”زيادة الإيمان”، وبالتالي فإن “الدين ثراء”، و”الثراء دين” والإثنين معًا: “ضفاف الماء حتى لا يسيل ويغرق الجميع” !

وفي “فرغينيا” وفي “نيوإنغلند” تكبر الشركات، وتتراكم الثروات، وتظهر الحاجة إلى توكيلات على الشواطيء تتعامل مع أوروبا في الاستيراد والتصدير، ثم تقوم شركات أخرى على صناعة التخزين؛ لأن الملاحة مواسم، والزراعة مواسم. وظهرت في أميركا بدايات أسر فعلت كل شيء حتى تغتني، وفي حين أن بعض طالبي الغنى طارد الثراء جهارًا نهارًا بالسلاح، فإن بعضهم أستدعاه جهارًا نهارًا بالصلاة !

وإنطلاقًا من السيكولوجية التأسيسية للولايات المتحدة في فجر عصور نشأتها الأولى وحتى يومنا هذا، تشعب مشروعها الطائفي، للتسيُد وزعامة العالم، بمراحل وحقب شتى، وقد طغى على المشهد العالمي فور إنتهاء الحرب العالمية الثانية متوجهًا بكل ثقله ضد الاتحاد السوفياتي ولتثبيت مصالح الولايات المتحدة (الشركة المساهمة الضخمة)..

“إن المنطقة عندكم تعوم على بحرين: بحر من البترول وبحر من الدين”؛ كانت تلك الجملة التي قالها بثقة الجنرال “ألفريد أولمستيد”، المشرف على برامج المساعدات العسكرية الأميركية في وزارة الدفاع، (البنتاغون)، أثناء حواره مع الصحافي المصري، “محمد حسنين هيكل”، بهدف إقناعه – بصفته صديق للكولونيل “عبدالناصر” – بأهمية التكتل الدولي الذي تكونه أميركا في وجه المد الشيوعي لمنطقة الشرق الأوسط عام 1953، وعُرف باسم “حلف بغداد”، نفس السنة التي وكلت إلى “وكالة المخابرات المركزية” مهمة إدارة الحرب الباردة فور دخول “دوايت إيزنهاور” البيت الأبيض واختياره لرجلين هما أبناء قسًا داعيًا إلى ملكوت السماء؛ لأعلى المناصب في إدارته وهما: “جون فوستر دالاس” لوزارة الخارجية، وشقيقه “آلان دالاس” لإدارة وكالة المخابرات المركزية، التي تولت إدارة “معركة القرن” – كما أسماها “إيزنهاور” – متسلحة بشعارات الإسلام؛ وهي العقيدة الأكثر انتشارًا في المنطقة – لتكون وسيلتها وذخيرة سلاحها. ولها كل الصلاحيات في مسايرة قوى التجديد وحماية قوى التقليد، ولها في ذلك مساندة العنف إذا دعت الضرورة (مع ملاحظة أن عنف أجهزة المخابرات لا يكون في العادة حربًا مسلحة وإنما يكون انقلابًا من الداخل).

وقد أوضح “أولمستيد”، لـ”هيكل”، إستراتيجية “حلف بغداد” (7) حينها، قائلًا: “هذا الحلف لن يكون حلفًا عسكريًا فقط، ولن يكون مجرد تجمع دفاعي، وإنما سيكون تنظيمًا له قوة جذب فكري غالب من الناحية الإستراتيجية العالمية؛ تذكر – تذكروا جميعًا – أن هذا الحلف سوف يكون بمثابة “مغناطيس جبار” يشد إليه كتلًا من المسلمين داخل الاتحاد السوفياتي وداخل الصين. لاحظ أن الجمهوريات الجنوبية في الاتحاد السوفياتي مسلمة: كازاخستان – طاغيكستان – تركستان – تركُمانستان – إذربيغان، القوقاز بأسره تقريبًا – كلهم يعتنقون الإسلام. وإذا كان تعداد الاتحاد السوفياتي 150 مليونًا، (في ذلك الوقت)، فمعنى ذلك أن داخل الدولة السوفياتية ما لا يقل عن ستين مليون مسلم. والصين نفس الشيء – لأننا نعرف أن الإسلام قوي في غرب الصين، تقديرنا أن هناك ثمانين مليون مسلم على الأقل في غرب الصين”.

متابعًا: “تأكدوا أن إسرائيل ليست عدوًا “طبيعيًا” لكم في إطار الأسمي، وإنما هي عدو “مصطنع”، والحقيقة أن التناقض بينكم وبينها يظهر عندما تضعون عملكم في إطار قومي – لكنه في إطار إسلامي يزول التناقض لأن إسرائيل قريب لكم وابن عم “فأنتم جميعًا أبناء إبراهيم” !” (8).

وقد أعتمدت إدارة “إيزنهاور”، في حربها للقرن في الشرق الأوسط ضد السوفيات إستراتيجية القنابل الطائفية؛ على عدة دراسات أكاديمية وميدانية كان أبرزها دراسة قام بها فريق من أساتذة من جامعتي “برينستون” و”شيكاغو”، تحت رئاسة الدكتور “بولك”، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة “شيكاغو”، وقد ذهبت هذه الدراسة إلى أن الدولة الوطنية في العالم العربي ظاهرة حديثة وهشة، وأن المنطقة عاشت إلى مطالع القرن العشرين تحت سلطة خلافات إسلامية إنتهت “بالعثمانيين” الذين حكموا من “إسطنبول” إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. وأنه حتى في قرون الحكم المملوكي الطويلة فإن أمراء المماليك غطوا فجوة الشرعية في دولهم بخلفاء من بقايا العباسيين حمل كل واحد منهم لقب “خليفة المسلمين”، ومع ذلك ظل ألعوبة في يد “الأمير المملوك”. كما أن مشايخ الدين – بمن فيهم علماء الأزهر – قاموا باستمرار بدور الوسيط بين الأمير “المملوك” وبين رعاياه المسلمين. وعن طريق هؤلاء المشايخ كانت الرعية ترفع للمملوك مطالبها، وإلى هؤلاء المشايخ كان المملوك وأعوانه يعطون التوجيهات ضمانًا للسمع والطاعة.

يقول “محمد حسنين هيكل”: في حرب قُصد بها أن تدور “بأسلحة الأفكار وليس بأسلحة النار”، فإن دولتين بقيت لهما أهمية خاصة في الحسابات الأميركية لهذه المنطقة الشاسعة الممتدة من آسيا إلى إفريقيا..

البلد الأول هو “المملكة العربية السعودية”، باعتبارها موطن الإسلام الأصلي ومقر الحرمين الشريفين بما لهما من هيبة وقداسة، (…)، يضاف إلى ذلك أن الطبيعة خصت هذا البلد بثروة نفطية هائلة تُمكنه من نفوذ سياسي يضيف إلى المكان مكانة يساعد عليها قيام “منظمة المؤتمر الإسلامي”.

والبلد الثاني هو “باكستان”؛ باعتبارها “دولة الإسلام” في شبه القارة الهندية، وربما في العالم؛ لأن الإسلام فيها “هوية وطنية” إلى جانب كونه “عقيدة دينية”. وقد نشأت باكستان بالعداء وبالإنسلاخ عن “الهند”، في وقت كان للهند فيه وضع خاص في حركة التحرر الوطني عبر القارات – وبهذه النشأة فإن باكستان شعرت بوحشة حاولت تعويضها بصلات وثيقة مع الولايات المتحدة، وكان من هنا إن باكستان شاركت في كل مشروعات الأحلاف الأميركية للشرق الأوسط، (حلف بغداد والحلف المركزي والحلف الإسلامي) … كانت باكستان موقعًا وضعته الجغرافيا ملاصقًا للهند ومجاورًا للصين وقريبًا من الاتحاد السوفياتي، وعلى الخريطة فإن باكستان هي أقرب نقطة من جنوب الاتحاد السوفياتي إلى المياه الدافئة، وذلك حلم الإمبراطوريات الروسية”.

ومن دروب تفاصيل “حرب القرن” الأميركية ضد السوفيات إلى ما بعدها؛ أصبح لهاتين الدولتين ثقلهما الإستراتيجي في السياسة العامة الأميركية – والأوروبية بالتبعية – تجاه المنطقة التي أصبحت غارقة في حروب العقائد وما أستتبعته بالضرورة من خلط بين الدعوة الدينية والتجسس الأمني.

…………………………………………………….

(1) سجن “أبوغريب”؛ السجن العراقي الذي أدارت الإدارة الأميركية فيه عمليات تعذيب ممنهجة، إبان غزوها للعراق عام 2003، أهذب ما وصفت به بإنها كانت “سادية متوحشة”، بمشاركة شركات أمن خاصة دولية، تشبه إلى حد كبير عمليات التعذيب التي كان يمارسها نظام “صدام حسين” ضد خصومه من الساسة المناوئين والمواطنين العراقيين العاديين، بحسب شهادات الكثير منهم بعد سقوطه.

(2) د. علي فرغلي – “الدولة والمجتمع في مصر: رؤية علمية لفهم التحولات الاجتماعية الثورية” – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016 – مكتبة الأسرة.

(3) أسس “علي القيسي”؛ بعد الإفراج عنه، جمعية لحضايا سجون الاحتلال في العراق، قبل لجوئه إلى “ألمانيا” سياسيًا، جراء مطاردة من ميليشيات الحكومة العراقية الشيعية في حكومة “نوري المالكي” من جانب والقوات الأميركية من جانب آخر؛ ومرتزقة الشركات الأمنية الخاصة المتعاقدة مع الجيش الأميركي من جانب ثالث.

(4) “العملاق-Colossus” – صدر 2001 في نيويورك، شارك في وضعه أكثر من ثلاثين مؤلفًا، قصدهم أن يكون نظرة بالعمق على نشأة الدولة والقوة الأميركية.

(5) جاء في إحدى الخطابات المرسلة إلى جمعية المساهمين بشركة “فيرغينيا” في لندن؛ مكتوبًا سنة 1624، ما نصه: “إن الخلاص من الهنود الحمر أرخص بكثير من أية محاولة لتمدينهم. فهم همج، برابرة، عراة، متفرقون جماعات في مواطن مختلفة، وهذا يجعل تمدينهم صعبًا، لكن النصر عليهم سهل. وإذا كانت محاولة تمدينهم سوف تأخذ وقتًا طويلًا، فإن إبادتهم تختصره، ووسائلنا إلى النصر عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت، بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة المطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تخيفهم لأنها تنهش جسدهم العاري”. لتفاصيل أكثر يُرجى مراجعة، محمد حسنين هيكل – “الزمن الأميركي: من نيويورك إلى كابول” – المصرية للنشر العربي والدولي – الطبعة الرابعة حزيران/يونيو 2003.

(6) مدينة “نيوإنغلند” الأميركية، التي يوضح كتاب “العملاق” بأنه قد تم إنشائها بالكامل – شأن كثيرًا من الولايات الأميركية فيما بعد – بسواعد العبيد السود الذين تم جلبهم في صفقات تجارية ضمن تجارة العبيد أو عبر خطفهم من بلادانهم الإفريقية.

(7) مر، ما عُرف إعلاميًا بـ”حلف بغداد”، بثلاثة مراحل على مدى أكثر من عقد ونصف العقد، بدأ كحلف مركزي يجمع “العراق وباكستان وتركيا وإيران”، ثم خرج “العراق” ليتحول الحلف بالثلاثي المتبقي إلى “الحلف الإسلامي، وفي أوائل الستينيات خرجت “تركيا” ليتبقى “باكستان وإيران” في حلف بلا شهرة أو تأثير حتى هزيمة حزيران 1967؛ لتنضم “العربية السعودية” إليه ويتم إنشاء “منظمة المؤتمر الإسلامي”، التي أصبح لها ثقل وتأثير في أوقات محددة وتوقيتات بعينها فيما تشهده المنطقة حتى اليوم.

(8) محمد حسنين هيكل – “الزمن الأميركي” – مصدر سابق .

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة