خاص : قراءة وحوار – محمد رجب :
من أصعب أنواع الكتابة, تلك التقنية في السرد الروائي التي تبدأ وتنتهي أحداثه في يوم واحد, ويتميز بالإيقاع السريع والتركيز على التفاصيل.. ويلجأ إليه كتاب دراما المغامرة لخلق المزيد من التشويق والإثارة في عملية السباق مع زمن الرواية الأصلي، مثلما حدث في رواية (الرمز المفقود) أو The Lost Symbol, أو هذا النوع من الروايات المرتبط بمناسبة معينة يجتمع فيها أبطال الرواية كما في رواية (الساعات) the hours لمايكل كننغهام, أو من خلال سرد تفاصيل حادث كيوم الاعتداء الذي وقع على كنيسة النجاة في بغداد، وما سببه من دمار مادي وبشري فى رواية سنان أنطون (يا مريم), أو تأريخ حادث بيوم أو تأريخ يوم بحادث كما في رواية عطية معبد (اليوم الذي بدأ).
التداعي المحاكي للحياة اليومية..
برغم اختلاف الأحداث والأفكار والحوادث مما يجعل هذه الروايات ذات قيمة عالية في تاريخ الأدب الحداثي, لاستخدامها تقنية تيار الوعي من خلال التسلسل العفوي والتداعي للأشياء, ولكن التداعي في رواية (اليوم الذي بدأ) هو الوعي المصور باعتباره شاشة تعرض عليه ردود الأفعال كبنى للنص.. فالنص الروائي هنا ليس تداعياً للأفكار والذاكرة عند شخصيات الرواية, بل التداعي هنا يأتي من قبل المتلقي المشارك في الحدث من خلال المراهنة على مخزونه الثقافي للحياة اليومية التي يدور في رحاها كل يوم مشهد (…).. ماسح الأحذية لقد وصفه “عطية معبد” بسطر واحد فقط لكي يذكر المتلقي به ويدع الباقي له: “رجل في العقد السادس تقريباً يرتدي جلباباً أزرق – بالأحرى كان أزرقاً – اختلط لونه الغامق بألوان (الورنيش) من أول الصدر تقريباً وحتى الذيل”, فكل ماسحي الأحذية تقريباً بهذا الوصف, وكذلك صاحبة القضية والعسكري والضابط والبنتين والرجل العجوز الذي انتهت به الرواية، كل هؤلاء الشخوص هم من تلتقي بهم في الواقع وكأن الأحداث تدور على مقهى في الشارع الخلفي !.
رصد قضية قومية كبرى عبر أحداث يومية عادية..
أحداث يومية عادية وبسيطة يحكيها “عطية معبد” دون صياغة فلسفية, فهو يعتمد بشكل عفوي على التداعي الذي يحدث عند المتلقي ويعتمد على خلفية حياتية عنده، والمدهش أنه لا يفاجئ القارئ ولا يكسر أفق توقعه بأحداث درامية عميقة بل العمق هنا يأتي بكيفية الطرح البسيط والتوازي المدهش الذي قدمه “عطية معبد” في روايته (اليوم الذي بدأ) بين شاشة الوعي المصورة لدى المتلقي, والتي تستعرض الأحداث اليومية البسيطة, وردود أفعالها وانعكاسها على يوم بطل الرواية, وبين شاشة التليفزيون التي تنقل أحداث دخول القوات الأميركية لبغداد وتنتهي بسقوط تمثال “صدام حسين” على يد الجنود الأميركيين وسط حفاوة لبعض المدنيين العراقيين, ولا يعلق الراوي ولا يزج بالمتلقي في معمعة سياسية أو تنظير حزبي أو خيانات طائفية, وهنا تكمن براعة “عطية معبد” – بخبرته الطويلة في الكتابة الإبداعية – في طرح النص الروائي إذ كيف استطاع أن يحول قضية قومية مهمة كبيرة وفاصلة مثل غزو العراق إلى هامش أحداث يومية عادية, استطاع أن يجعل من ردود أفعالها نصاً روائياً، واحتوت الشاشة الذهنية الشاشة المرئية.
لكل هذا وجدت من الهام محاورة “عطية معبد” حول روايته…
* هل تعرف صعوبة كتابة رواية تدور أحداثها في اليوم الواحد ؟
– نعم ولكن هذا اليوم تحديداً له أبعاد مهمة في تاريخ المنطقة، ومدى التغيير الذي حدث بدخول القوات الأميركية بغداد وسقوط تمثال “صدام”.. بالمناسبة أنا كنت ضد النظام العراقي لأنه كان نظاماً فاشياً قامع للحريات, ولكن التمثال كان رمزاً، فسقوط التمثال هو رمز لسقوط المنطقة العربية في أيدي الأميركان.
* ولماذا لا تعتبره مثل البعض أنه سقوط للدكتاتورية وبداية الحريات ؟
– قوات التحالف كانت لديها خطة ما بعد الغزو, كما كانت لها خطة الغزو, وكانت أهدافهم واضحة جداً من تلك الحرب التي كلفتهم كثيراً.
* ولكنك روائي مراوغ جعلت هذا الحدث الكبير مجرد خلفية لأحداث يومية عادية.. أنت لم تتحدث عن هذا الغزو وهذه الأهداف السياسية في الرواية ؟!
– ذكرتني بقول أحد النقاد الأصدقاء عندما قال لي: “أنى لم انتبه إلا في آخر الرواية إلى الصوت الذي كثيراً ما يعلق ويزاحم الراوي مثل جملة (كونها رواية لا يبرر التكرار أبداً)”, وأضاف: “أنا لا أعلم هل أنت تنتبه لذلك أو لم تنبه أن هذا النوع يسمى رواية الأصوات, لو كنت فقط راعيت ذلك وانتبهت له لانتميت لهذا النوع ولكنك عملته” – ولم يشأ أن يقول لي بسذاجة – بل استعمل كلمة أقل وطأة.
* هل هذا يعني أن المبدع لابد وأن يضع قالباً أمامه ليصب فيه إبداعه وفقاً لتسميات النقاد حسب الأنواع النقدية التي يعرفونها أو الموجودة في كتبهم ؟
– لا هو فقط كان يقصد الخبرة في الكتابة, فهو يعرفني جيداً ويعلم أن هذا ليس أول عمل لي فقد سبقه ثلاثة دواوين شعرية.
* ثلاثة دواوين شعرية فلماذا رابع عمل رواية ؟
– هي بدأت بالفعل بقصيدة كنت أنوي كتابة قصيدة, لأني كنت أعتقد أني لا أستطيع التعبير إلا بالشعر ولكن هكذا خلقت رواية !.. أنا كنت أكتب فقط بالليل, ولا أنتبه إلا صباحاً عندما أشعر بالتعب من الكتابة، والمدهش أنها فازت بالمركز الثاني لـ”جائزة الروائي محمد أبو الخير”.
* بمناسبة النشر.. أربع أعمال أدبية كلها منشورة من خلال المنافذ الرسمية للنشر, سواء هيئة قصور الثقافة أو هيئة الكتاب, فهل هناك رغبة في الخروج من تلك العباءة الرسمية في النشر ؟
– لا لأنه ببساطة أعتبر أنه هذا من أبسط حقوقي ويجب التمسك به، صحيح أن النشر في تلك المنافذ يستغرق وقتاً طويلاً بسبب القراءات والاختيارات, وأحياناً بسبب ميزانية النشر عند هذه القطاعات, ولكن لن أتنازل عن هذا الحق ولن أنشر على حسابي الخاص أبداً.
* أنا أعرف أن لديك قراءات نقدية متميزة تدلي بها في المحافل الثقافية.. فماذا عن السوق الرقمي هل تعرف كم المبدعين في السوق الرقمي الآن ؟
– أعرف أن هناك طفرة في الإبداع الرقمي, ولكن كي أكون صادقاً معك فأنا غير متابع لهذا المجال الرقمي, فأنا لا أستطيع القراءة الرقمية ولست مثابراً عليها فعلاقتي بالانترنت علاقة سيئة جداً, مجرد التواصل الاجتماعي البسيط، بالإضافة إلى معرفة آخر الأخبار فقط، واكتفي بالقراءة الورقية فأنا لدي حميمية مع المادة المنشورة في الورق وأستمتع بملمس الكتاب الورقي, لذا لا أكتشف المواهب الجديدة إلا من خلال قراءات الأصدقاء مسبقاً لأحد المبدعين الجدد وترشيحهم للقراءة.
* هل تعرف أن هناك مواقع عالمية متخصصة في المراجعات للكتب من كل نوع ولغة.. فهل يوجد ما يوازي ذلك في المجلات أو الصحف المتخصصة ؟
– حتى المجلات والصحف المتخصصة فأنا لا أتابعها مسلسلة إلا إذا رشحها لي أحد الأصدقاء – الثقة – وأشار إلى موضوع مهم منشور أو صحيفة متميزة نشرت عدداً خاصاً.
* لكن أنت تحرم الكثير من المبدعين الشباب الذين لا يجدون طريقاً للنشر غير الطريقة الرقمية من تلك المراجعات التي تخصك ؟
– أنا حقيقي مقصر في ذلك.