27 ديسمبر، 2024 10:28 ص

“الوشم الأبيض” .. خصوصية الذات وعمومية المعاناة

“الوشم الأبيض” .. خصوصية الذات وعمومية المعاناة

قراءة – *هناء درويش :

بين دفتي “الوشم الأبيض” ـ الرواية ـ والأفعى البيضاء الخادعة للبصر على جسد الفتاة السمراء (إفريقية الأم ـ كندية الأب والجنسية)، الماضي (بعيد أو قريب) والحاضر، الحلم واليقظة، الخرافة والعلم، الأسطورة والحقيقة.. يضعنا الروائي “أسامة علام” على لسان راويه طبيب الأمراض النفسية أشرف مبروك حسن مدني.. الشخصية التي تشكلت من تنقل الأسرة من مكان لآخر، “ليبيا ـ عمان ـ دلتا مصر”، المولد والطفولة والنشأة، و”فرنسا” بلد الدراسة ثم “كندا” بلد المهجر وأرض الأمل المنشود لوطن جديد.. ومن أب حازم متسلط وصارم في ظاهره، وأم مستكينة إلا فيما رأته يمثل خطراً على ابنها الوحيد في مرحلة المراهقة كونه يبكي بكاءً حاراً عند مشاهدة برامج عن المغتربين (رغم طمأنة الأب لها وأن الأمر ليس بهذه الخطورة) حبه للوحدة والانفراد بالنفس للانخراط في خيالات تولدت عن قراءاته ومصاحبته لكتبه، لشعوره بالغربة بين الناس والتي اعتبرها أصدق من البشر عندما حطم الطبيب النفسي توقعاته عنه ـ حسب الصورة الذهنية المتشكلة من مشاهداته للأفلام ووصوفهم في حكايات كتبه ـ في صغره والتي يعتبرها الراوي أول درس له في مهنة الطب النفسي (بأن على الطبيب النفسي الوعي لصور مريضه الذهنية سواء عنه هو نفسه أو عن العالم من حوله)، وهو ما كان يوجه تعامله مع “جون سبستيان أندريه” عند لقائه الأول.

هناء درويش

براعة السرد..

رغم ان الرواية في شكلها المادي غير مقسمة إلى فصول أو أبواب، إلا أن براعة الكاتب السردية تمثلت في ترتيب وتبويب الذهن اثناء القراءة بما لا يخطئه القارئ من كونها مقسمة إلى أربعة أقسام ـ حسب وجهة نظري الخاصة ـ أولها الحامل للشكل التاريخي للمحور الرئيسي للرواية بمشهد “ميناء بوردو” الفرنسي الشهير في العام 1737.

الثاني تعريف الراوي لنفسه كابن وحيد بين والدين يراهما على درجة بالغة من التناقض، حتى ان استمرارهما في الحياة معاً هو الابن، السبب الوحيد له وخصاله وسماته الخاصة وبداية تشكل قناعاته.

الثالث ما يدور في الحاضر بكندا متنقلاً بين عدة أماكن تبدأ من منزله وحجرة مكتبه بمستشفى (رويال فكتوريا بمونتريال) وشوارع مدينة مونتريال، منزل مود، منزل تيكانا، متجر الورد للأب المتحول الواقع بمنطقة المثليين، مدينة شيربروك القريبة من مونتريال، منطقة “القرية”، محطة بودريه إلى جانب أماكن تواجد في الماضي ضمن أحداث الحاضر مثل أمازيغ صحراء مصر الغربية وواحة سيوه والدلتا، والحانة الصغيرة في المكسيك، وجزيرة نائية بجوار نيوزيلاندا وكاتدرائية “نتردام دي” باريس وورشة دق الوشم في فرنسا في الماضي وورشة دق الوشم في مونتريال في الحاضر.

الرابع رسالة الأب باعترافه بذنبه الذي ارغمته نشأته وتقاليد قبيلته على التورط فيه لنيل سعادة احتفاظه بمحبوبته، وهذه القصة التي تمثل رواية أخرى موازية لرواية الابن متضمنة نفس إشارات الكاتب لقدر الانسان، وخصوصيته لكل شخص، و(الغربة والوحدة والاستبعاد)، حسب دراسة الروائي القاص والناقد “نبهان رمضان”، عضو مختبر سرديات المنصورة، و( الهوية والعنصرية والمعلوماتية العلمية)، حسب دراسة الدكتور القاص والناقد “أحمد الزلوعي” عضو المختبر.

ومن هنا نعود لمفتتح الرواية (أغنية يونانية قديمة) والتي يُصدر بها كاتبنا روايته، تنبيهاً للقارئ بوجوب التمعن في القدر وبشكل خاص جداً وهو ما أكدته خاتمة الأغنية بجملة (فكل شخص له معركته الخاصة).

النعوش الثلاثة عشر المشؤومة..

ثم يبدأ الكاتب الروائي الطبيب “أسامه علام”، المصري الكندي الحاصل على الماجستير من فرنسا والدكتوراه من كندا، روايته الرابعة ـ بالإضافة إلى مجموعة قصصية فازت بجائزة غسان كنفاني عن الصالون الأندلسي بمونتريال عام 2014 ـ بتساؤل: “ماذا لو كنت هناك ؟”.. واصفاً مشهد في العام 1737 بميناء بوردو الفرنسي للمهاجرين الفرنسيين في انتظار الصعود للسفينة التي تقلهم إلى الأرض الجديدة واستشعار آمالهم في الوطن الجديد ومفاجأة قدوم النعوش الثلاثة عشر المشؤومة لتكون برفقتهم في الرحلة وهنا ما يؤكد، أو على الأقل، يشير إلى أن الراوي يقع في منطقة نفسية مضطربة تجسد ما في القسم الثاني من الرواية في حديث “أشرف” عن نفسه يفصح عن كونه منذ طفولته يعيش بين عالمين (عالم ظاهر يراه الجميع وعالم الخفاء الأكثر عمقاً بالنسبة له) والذي يصوغه ويعيشه ويشرك فيه أشخاص، منهم الواقعي ومنهم من نسجه خياله في عزلته و وحدته.

يسبح السرد بنا في أحداث ومواقف ومشاهد ثرية جداً بالدهشة والمراوغة الروائية الممتعة، ما بين الخيال والواقع والعقائد الأسطورية شديدة الجذب والخصوصية حاملة مضامين ثقافية وإنسانية عميقة الأثر، وتؤكد في الغالب الأعم حاجتنا جميعاً كبشر من أي مكان ومن أي جنس لها ولانتشارها والإيمان والعمل بها.

[الكتب لا تستطيع الكذب كالبشر].. وإيمان “أشرف” المترسخ داخله بعد واقعة زيارته مع أمه للطبيب النفسي، والتي تشير لنا عند ذكره ووصفه لرحلة المهاجرين منذ أكثر من ثلاثمئة سنة من فرنسا بقوله (تذكر كتب التاريخ) إلى صدق الكتب، وفي ذات الوقت تخلق شبه إيمان بعقيدة تدوير الأرواح حيث يؤكد “أشرف” على وجود المدعو “جون سبستيان أندريه” أو أندريه الدموي في مدينة مونتريال، ويعمل في رسم الوشم، وهي مهنته التي امتهنها منذ أكثر من ثلاثمئة سنة في فرنسا.

تتوالى الأحداث في تصاعد درامي عالي الإيقاع، بعض الأحيان وهادئ في أخرى، حامل مشاهد ومواقف خيالية وواقعية في نسيج وتلاحم شديد المهارة السردية من الكاتب.

وكما تنقل بنا الكاتب في عدة أماكن بين “فرنسا وكندا وواحة سيوة وجنوب إفريقيا”، تنقل بنا أيضاً بين شخصيات الرواية ليكتشف، أو بالأحرى، ليعترف بحقيقة في ذاته.

“جون سبستيان أندريه”..

فيصل بتقاطعه مع “جون سبستيان أندريه” الذي يسعى من خلال عقيدة “الوشم الأبيض” إلى الخلود إلى الاعتراف بانه هو صانع معركته الخاصة التي يسعى بها إلى الثناء من مجتمعه الجديد كشكل آخر للخلود حتى أنه وضع نفسه أسيراً لنظام صارم يعيش به يصل إلى حد الخوف.

ونرى مقولة فتاة الأنكا (الجليد) التي شاهد خبر العثور عليها في أخبار التلفاز بعد ان تجسدت له وهو قاطن جسد مود السمراء الفاتنة موجهة مقولتها له (النجاة في العودة إلى الجذور يا من تسكن هذا الجسد الفاتن) والتي تعيدنا إلى رسالة الأب التي تسلمها منه وقت توديعه له قبل سفره ووصيته ان يقرأها بعد أن يغادر إلى مهجره الذي اختاره وتكرر فيما قبل تناوله لها دون ان يجرؤ على فتحها وقراءتها هرباً من نصائح أبوية نفر منها أو خوفاً ربما من إيقاظ حنينه الذي يجتهد في إخماده أو دفنه داخله وسط نمط الحياة التي اختارها بانضباطه الصارم والسعي لنيل شرف إثبات الذات واثبات جدارة ان يصبح من مواطني هذا المجتمع المتحضر يصل لحقيقة يصف نفسه في عبارة (انا اسير النظام الصارم الذي أعيش به واسير خوفي) معترفاً لنفسه بالأنانية وباختياره العبودية لها لإرضاء رغبة ذاتية.

وبتقاطعه مع مود بيير (فتاة التعري ودارسة الطب)، والتي وقعت فريسة لوشم “جون سبستيان” الأبيض على مساحة كبيرة من بشرة جسدها الأسمر، وللنزعة العنصرية الانتقامية عنده والتي أودت بحياتها بين يدي “أشرف” بحدث اسطوري ـ رغم اكتشافه أنها مرضة بالصرع، وأنها في اللاوعي لا تكن لوالديها ذلك الحب والتقدير الذي تفصح عنه باستمرار وتتهمهما بسبب ماهي عليه من بلاء ـ لم تسلم من استغلاله جسدياً هو أيضاً ليعترف انه مثلها لا يظهر ما يبطن من مشاعر كراهية أو تأذي من والديه ليأخذنا إلى رسالة زميله الطبيب النفسي الباكستاني الأصل المنتحر ـ على اعتبار ان لعنة “جون سبستيان” أصابته كطبيبين آخرين سبقا أشرف لعلاجه ـ ليكتشف ان دافع زميله إلى الانتحار هو عزلته التي اختارها مثله وأنانيته التي تخلى بها عن اهله ووحدته وغربته في المهجر.

باقي الشخصيات التي مر بها بدايةً من كارما أبو مود المتحول إلى أنثى مرسخاً لقناعته بأن ما تحمله نفسه من محبة للناس جميعاً لم ولن توجد إلا في جسد المرأة التي تتعرض على الدوام لعنصرية الرجل والعالم لها.

“تيكانا” أستاذة علم الاجتماع ـ والتي أثارت حنينه للجدة “عزيزة” ـ والتي فتحت له عالم سباحة وتطواف روحه ليصل إلى ذاته وجلساتها ورسالتها التي تتعجب في مطلعها منه ومن بحثه عن روحه في عوالم وأزمان بعيدة وبين أيديه مقولة فتاة الثلج لم يمعن النظر فيها، وربطه بينها بين ابيه في حثه على معرفة السؤال الذي لم يطرحه على نفسه ابداً (من أكون وماذا أفعل في هذه الحياة ؟).

جدي مود بالتبني لامها الإفريقية زعيمة قبيلة المونجا وصديقي “سلفادور دالي” وزوجته قريبة “مانو” الجدة ودهشة دخول منزلهما لما يحتويه من أعمال سلفادور دالي السريالية وقصة هجرتهما لكندا حفاظاً على ميريام أم مود من الاضطهاد العنصري بما لا تستحقه كفتاة رائعة ثم الحديث عن قبيلة المونجا بتقاليدها الصارمة ـ التي لزعامتها إرثاً عن ابيها تخلت “ميريام” عن ابنتها الوحيدة كما تراها مود ـ والطقوس الروحية التي تجعل شعب المونجا من المعمرين والتنقل بين المعلومات التقاليدية لشعب المونجا والمعلومات العلمية الطبية وفيلم الكلب الأندلسي لسلفادور دالي الذي تتشابه، بل تجسد شخصياته جون سبستيان وأشرف ومود وكارما، وحتى أبوه واحداث تماثل القلق والتوتر في الواقع الذي يمر به أصابت أشرف بالارتباك ربما لتوقعه لما ستؤول إليه الأحداث أو لمجرد استشعارها، لتنتهي رواية “أشرف” بمأساوية موت مود ووقوعه في حالة انهيار تقعده عن الحركة ليعترف في النهاية أن “هناء محمود” طبيبة الجراحة السكندرية  المهاجرة لكندا وزميلته في المستشفى، والتي ظهرت في مواقف تكاد تكون هامشية تعمدها الكاتب، لتأكيد هروب “أشرف” منها وتهميشها في حياته رغم رأيه فيها انها زوجة مثاليه يبحث عنها أي رجل ليعيش حياة مستقرة هادئة ليقر في الفقرة الأخيرة بأنها الوحيدة من استطاعت حل كل تفصيلات اللغز واعادته لمكان شفاؤه كنز أباه واحة سيوة والتي لم يكن ليهتدي إليه أبداً بالعودة للجذور والأخ المكتشف ليشفى من الغربة والوحدة ويعرف سبب بكاؤه المرير عند مشاهدة برامج عن المغتربين في مراهقته ليتركنا لرواية أبيه في رسالته له تأتي نهاية رواية “الوشم الأبيض” بنهاية رسالة الأب التي اختتمها بدعوته المتكررة (اعلم).

*عضو مختبر سرديات المنصورة

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة