كتب : الباحث قيس جوامير/ ماجستير إخراج مسرحي
برزت الواقعية النقدية في القرن التاسع عشر، متزامنة مع ظهور المجتمع الصناعي الأوربي وقامت برصد السلبيات والتناقضات الاجتماعية وأصبحت “تتخذ من الواقع الموضوعي مصدرا لموضوعاتها وتؤثر الصدق على التمويه والتضليل وتهتم بقضايا المجتمع المرتبطة بقضايا ألإنسان“ الخاصة بديمومة حياته وتطورها اجتماعيا واقتصاديا وسياسياً، من خلال تشخيص وإيضاح العقبات التي تحول دون إرتقائه من خلال رؤية بانورامية شاملة تؤثر على كل المسببات السلبية التي أوصلت الإنسان لتلك الحالة.
ف”الفنان الواقعي يبحث عن وسائل من أجل تحسين الواقع في باطن الواقع نفسه “ دون اللجوء الى إعطاء حلول ومخارج لتلك السلبيات بسبب بُعدها عن إختصاصه ومهامه “الفنان لا يُعنى بحل المسائل بقدر ما يُعنى بطرحِها إن حرية الحل متروكه للناس “ فالمجتمع هو من يجتهد في رسم الخطط العلمية المدروسة المتحضِرهوإعطاء الحلول المناسبة, بعد تشخصيها من قبل الفن الواقعي (وكان للثورة الفرنسية وما تؤمن به من مبادئ الأثر الكبير في إنضاج الواقعية النقدية مما حَدى لكُتاب عصر النهضة من عكس سِمات عصرهم من خلال التركيز على نقل أفكار وآمال أفراد مجتمعهم المتصلة بالتقاليد الواقعية السائدة في عصرهم, وكانت الواقعية النقدية مكملة لتجربتهم الإنسانية) غير منقطعة عن التاريخ البشري للمجتمع الذي عاشوه “فالفن الواقعي النقدي تميز عن غيره بخلق النماذج الواقعية خصوصاًأن كُتابها استطاعوا تجسيد العلاقات الاجتماعية والسياسية والفكرية, وهذا ما عجزت عنه الإتجاهات الواقعية السابقة التي اكتفت بتتبع طبائع المجتمعات والشخصيات “ وفي هذا المجال برزوا كُتاب عديدين برعوا في تشخيص سلبيات وتناقضات مجتمعاتهم وساهموا في رقيها (وكان للروائي الفرنسي ( أنوريه دي بلزاك ) الريادة في هذا المجال قبل أن تستقر للواقعية النقدية اسمها على من أن الحقبة التي عاصرها, كانت الرأسمالية في تطور ملحوض حيث أصبح الفرد مسحوقاً مع تنامي عجلة التصنيع أصر (بلزاك) على أن يكون للفن الفضل في إكتشاف أسرار الطبيعة وأن يكون تصويره للواقع مقترناً بالمعرفة والتجريب حاله حال بقية العلوم, لإن (بلزاك) اقتنع وآمن بأن الفن معبراً وفاعلا عن المجتمع وإن يكون عالماً مصغراً مكثفاً للأحداث المجتمعية من حيث الشكل والمضمون )(بالرغم من أن الأعمال الواقعية (لبلزاك) تُركز على وصف مجتمعه كما هو وبفكر موضوعي وكامل بقدر المستطاع, لو يجعل منه مجتمعا مثالياً باستثناء الشخصيات والنماذج الاجتماعية التي يسعى لتضخيمها حتى تصل لمستوى الرمز والممتلئة بالهدف الأعلى لإصال الرساله الأدبية مع تميزه بين (الحقيقي في الطبيعة ) الذي يكون شرساً يصطدم بذوق المُتلقي فيبدو غير معقول بينه وبين (الحقيقي الأدبي).
لذلك أوصى (بلزاك) الروائي الواقعي أن يكون مُلماً بالرسم والتاريخ والفلسفة وأن يكون فناناً أخلاقياً في الوقت نفسه وأن يخلق نماذجه من (الحقيقي الأدبي) وأن يصور المجتمع وشخصياته كما هُمْ لكن الواقعية النقدية ثبتتْ دعائمها وأصبحت تسمى مذهباً عندما رفض (شان فلوري) جميع النتاجات الأدبية المعاصرة لتلك الحقبة الزمنية ما عدا أعمال (بلزاك) وقام بإرساء وتشريع مبادئ الواقعية النقدية ومنها إلتزام الروائي الواقعي النقدي بدراسة نماذجه دراسة علمية (الحقيقي الطبيعي) حسب ما عبر عنه (بلزاك) وأن يسأل أنموذجه الواقعي ويتأكد ويدقق في أجوبتهم, ويستجوب حتى جيرانهم ليستشف الصدق والحقيقة بعدها يمكنه تدوين ملاحظاته ويكون بذلك قد قرب النتاج الأدبي للروائي الواقعي النقدي.
إن شعبية الشخصيات المنتقات من المجتمع كانت الأنموذج التياعتمدتها الواقعية النقدية وذلك لقربها من واقع المجتمع بالاضافة الىصدق مشاعرها وعفويتها في التصرف وأتفق ( بلزاك وشانوفلوبير)على اعتماد شعبية الرواية الواقعية وآمنوا بأن لا تمجد أي قضية سياسية أو دينية أو اجتماعية وحتى الأخلاقية. ولكي يسعى الروائي للكمال الأدبي يجب أن يرتفع من أن لا يُدخل أفكاره وانفعالاته على النتاج الأدبي الذي يرسمه , والفن عند (فلوبير) قريب للعلم والعدل ولا يمكن للفنان أن يكون محايداً في رسم الشخصيات إلا إذا إبتعد عن إقحام سيرته الذاتية وخياله عن نتاجه الأدبي كما أكد ذلك (لوكاش) حين قال على الروائي الواقعي “أن لا يكتب شئ ذاتياً خاصاً به، وأن يكون شجاعاً في تصوير آفات المجتمع دون أن تخيفه الأصابع المتهمه له بالهدم, ما دام يصور الواقع تصويرا حياً ناقداً“ .( لم تكن الواقعية النقدية وليدة الصدفة بل إنها حصيلة تجارب الدراما منذ القرن الخامس عشر ولِدت بعد مخاض عسير مروراً بالكلاسيكية فالواقعية, فمن يريد تتبع نشوء الواقعية النقدية يجب عليه دراسة مسيرة مراحل إكتمال المنهج الواقعي حتى القرن التاسع عشر مقترنة بالتقدم الحضاري والإنساني للمجتمع أبان عصر النهضة, حيث برزت نتيجة انعكاساً لتطور العلاقات الاجتماعية الجديدة التي تَلتْ مرحلة الاقطاع حيث أصبحت الشخصية الإنسانية مادتها الرئيسية والإبتعاد عن اللاهوتيات في بناء الانسان والمجتمع والتي إعتمدته الكلاسيكية وغيرها من المناهج وأصبحت الأناسية (Humanism) في مقام الروح للتعامل التاريخي والاجتماعي بعد أن أيقنَّ الكُتابْ في تلك الحقبة من الزمن بعمق قضية الإنسان المكتمل الشخصية والمتحرر من رواسب التاريخ وقال (بترا ك) إن “الإنسان الحقيقي الصالح لا يولد بنفس عظيمة , بل هو الذي يجعل نفسه بأعماله عظيما”